مقالاتمقالات مختارة

لماذا صمدت طالبان؟

لماذا صمدت طالبان؟

بقلم كرم الحفيان

مقدمة

مع بداية عام 2019م عادت القضية الأفغانية لصدارة نشرات الأخبار العالمية عقب دخول الأمريكان في مفاوضات مباشرة مع حركة طالبان، بغية الوصول لاتفاقية تخرج بموجبها القوات الأمريكية من أفغانستان إثر فشلها في إنهاء أو حتى إخضاع مقاومة طالبان خلال سبعة عشرعاماً مضت، في واحدة من أطول الحروب التي انخرطت فيها الإدارة الأمريكية مع من احتلتهم.

ما يهمنا في هذه المقالة هو محاولة استشفاف أسباب تماسك حركة طالبان بل وتصاعد قوتها رغم شراسة الحرب عليها، وذلك عبر الإضاءة على الجذورالتاريخية والتركيبة الفكرية الاجتماعية للحركة، والخصائص الشخصية للقادة، بالإضافة إلى مقاربة حقيقة مشروعها السياسي.

بدايةً لا بد من تصحيح المعلومة الإعلامية الشائعة عن نشأة طالبان عام 1994م، فقد ذكر الملا عبد السلام ضعيف أحد مؤسسي طالبان الأحياء أن الحركة كانت موجودة قبل ذلك بعقود، في صورة حركة علمية يرتاد منتسبوها المدارس الدينية التقليدية ويتدرجون في تلقي العلوم الشرعية، بدءاً من المرحلة الابتدائية إلى أن ينهوا دراساتهم العليا ويحصلوا على لقب مولوي (عالم).

هذه الحركة كانت تتسم بالسلبية السياسية كغالب التيارات العلمية المعاصرة فتتفادى المشاركة السياسية بشقيها السلمي والمسلح، إلا أن أحداثاً كتهديدها من قبل الحكومة الشيوعية في نهاية السبعينيات، ثم احتلال السوفييت لأفغانستان، وأخيراً انتشارالجرائم وتهديد أمن المجتمع في زمن اقتتال الأحزاب المجاهدة بعد رحيل السوفييت وسقوط الحكم الشيوعي، هذه الحوادث الثلاث استثارت حمية الطالبان ودفعتها للتحرك، وقد نتج عن تحركها الأخير صدارة المشهد السياسي (وليس فقط دخوله) منذ ربع قرن تقريباً.

ومن خلال استقراء تجربة طالبان من مصادر متنوعة (أفغانية وغير أفغانية)، يمكننا أن نلخص سبب قوة وتماسك الحركة في النقاط التالية:

أولا: الأرضية الفكرية الصلبة

فالعلماء والفقهاء وطلبة العلم لا يشكلون عمودها الفقري فحسب، إنما هم جسم الحركة الرئيس وهو ما لا يكاد يوجد في أي حركة مجاهدة بعد رحيل الاستعمار، وهم ينتسبون للمدرسة التي تشكل الهوية الاجتماعية الدينية للأفغان: المدرسة الديوبندية الماتريدية الحنفية الصوفية، ما جعلهم يسبحون في محيطهم بأريحية.

والحصانة المقصودة هنا هي الحصانة العلمية داخلياً وخارجياً، بمعنى عدم الانقسام الداخلي إلى تيارات فكرية متناحرة، وصعوبة قبول أفكار من خارج الإطار الداخلي، حصل هذا خلال جهاد السوفييت حين كانت أكبر الجماعات تتبنى فكر المودودي، وتكرر بصورة أوضح مع القاعدة، فعلى الرغم من وجود أكبر رموزها في أفغانستان لم ينتشر فكرها، في حين انتشر و ساد في غالب الساحات الجهادية بعد دوي أحداث سبتمبر، وكذلك الأمر مع بروز تنظيم الدولة بعد إعلانه للخلافة.

ثانياً: الشخصيات القيادية المميزة

ويتجسد هذا التميز في ثلاث صفات محورية: الزهد والانتماء والروح القتالية، فحتى بعد وصول طالبان للسلطة كان الكثير من وزرائها يعملون في مكاتبهم إلى أن ينتهي الدوام، ثم يمتشقون أسلحتهم ويتوجهون إلى جبهات الرباط. وظلت بيوت قادة الحركة وكبار المسؤولين في “الإمارة الإسلامية” وطريقة حياتهم تتسم بالبساطة والتقشف. لعل هذا من آثار طرق التربية الروحية والسلوكية التي تلقوها في معاهدهم الديوبندية.

أما عن الانتماء للحركة فخيرما يستدل به عليه هو فشل المساعي الأمريكية (خلال سنوات طويلة ورغم ممارستها ضغوطات ومغريات كثيرة) في تقسيم الحركة إلى معتدلين ومتشددين.

ثالثاً: العصبية العرقية الحاضنة

نظراً لأن انطلاقة الحركة كانت من جنوب أفغانستان وتحديداً من محافظة قندهار، فإن قادة الحركة وخزانها البشري وحاضنتها الرئيسية كانوا من العرق البشتوني (60 %من الشعب الأفغاني) المنتشر في جنوب وشرق أفغانستان وصولاً إلى الحدود الباكستانية، التي تقطن خلفها قبائل البشتون الباكستانية البالغ عددها عشرين مليوناً أو ما يقارب 10 % من مجموع السكان.

في مناطق القبائل تكاد تختفي سلطة الحكومة الباكستانية ونفوذها، ولطالما شكلت هذه المناطق ملاذاً آمناً لإعادة ترتيب صفوف المجاهدين الأفغان في أحلك الظروف التي مروا بها، سواءً في حقبة السوفييت أو في زمن جهاد الأمريكان.

إلا أن التحدي الأخطرالذي واجه ويواجه طالبان، هو إزالة آثار الصراعات المتراكمة بين البشتون الذي تنتمي لهم، وبين الأعراق الأفغانية الأخرى كالأوزبك والطاجيك وغيرهم من أبناء الشمال.

رابعاً: المشروع والعلاقات السياسية

منذ أن سيطرت طالبان على العاصمة كابول 1996م وإلى يومنا هذا، تصر الحركة على أن مشروعها أفغاني وطني وليس مشروعاً أممياً. ففي مرحلة حكمها طرحت نفسها كممثل سياسي وحيد عن الأفغان وسعت لنيل اعتراف دولي بذلك. وبعد الغزو الأمريكي قدمت نفسها كقائد المقاومة الأفغانية ونجحت مؤخراً في كسب اعتراف سياسي هام من روسيا والصين.

أما عن العلاقات الخارجية، ففي جميع مراحلها (في الحكم والمقاومة)، حرصت الحركة على استجلاب الدعم الخارجي، وطمأنة جيرانها وجميع دول العالم أنها لا تشكل خطراً عليهم، ولا تسمح لأحد باستخدام أراضيها لتنفيذ هجمات خارجية (قال هذا الملا عمر شخصياً لسفير الصين بعد استفسار الأخير عن دعم طالبان لتركستان في قتالها الحكومة الصينية) وأنها تطمح لإقامات علاقات ودية مع الجميع، ذات الأمر قيل للأمريكان سابقاً ويقال لهم حالياً بشرط إنهاء الاحتلال، أما عن إيوائها للقاعدة وعلاقتها بها وبالجهاد العالمي، فالأمر بحاجة لمقال مستقل لتفاصيله وملابساته الكثيرة، ومن أراد الرواية الطالبانية فعليه بكتاب “حياتي مع طالبان” للملا عبد السلام ضعيف أحد أبرز قيادات الحركة.

خاتمة

الانتصارات الأخيرة لطالبان واقترابها من تحريرأفغانستان بعد هزيمة أمريكا عسكرياً أمرٌ يفرح كل مؤمن، ويبث الأمل في قلب كل مستضعف. ولا شك أن لثباتها وصمودها طوال 17 عاماً خلت عوامل كثيرة، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي.
فالأرضية الفكرية الصلبة شكلت صمام الأمان أمام الانشقاقات الداخلية، والشخصيات القيادية المميزة بصفات الزهد والانتماء والروح الفدائية ثبتت كيان الحركة، والعصبية العرقية الكبيرة الحاضنة للحركة في معاقلها بأفغانستان وفي ملاذاتها بباكستان أنقذتها في مهب المعركة، والإصرارعلى عدم عولمة مشروعها السياسي واللعب على التناقضات الدولية والإقليمية أسهما بشكل كبير في استمرار وجودها وزخمها وانتصاراتها السياسية بجانب العسكرية.

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى