بقلم محمد زاوي
يعتقد البعض أن العزم على التصدي لشبه الإلحاد أمر مفضول ثانوي لا يفيد في شيء، إلا أن الأمر ليس كذلك، لأننا سنجد أن القائلين بهذا القول لا يرون في الإنسان إلا آلة تعمل، لا تطلع لها ولا تجاوز… إنهم لا يرون فيه إلا مصلحة عاجلة دون مصلحته الآجلة، لا يرون فيه إلا تحكما للحيوان في الإنسان… قد نتفق مع هؤلاء في بعض المنطلقات، حيث أن كل شيء قابل للفهم، فلا مجال للخوارق، ولككنا نختلف معهم إذ يقولون أن الإنسان ليس في حاجة للدين التوحيدي. هنا بالضبط يُطْرَح السؤال التالي:
أين تتجلى حاجة الإنسان إلى الدين التوحيدي؟
تتجلى حاجة الإنسان إلى الدين التوحيدي فيما يلي:
-ضعف الإنسان:
يعتقد بعض الناس أن الإنسان يقوى على كل شيء، إذ لا يتركون له فرصا ليخطئ، إنهم غير مستعدين ليرحموه إن أخطأ… نعم، إن لم تكن تؤمن بأن هناك من هو أقوى من الإنسان، فإنك بالضرورة ستكفر بالإنسان الضعيف، ستسعى إلى أن تسلبه حقه في العيش، فما دام أن الرب غير موجود كما تزعم، فليتسيد في الأرض أرباب من نوع آخر، المشكل في هؤلاء الأرباب أنهم ليسوا رحماء ولا عادلين بشكل مطلق، فهم ليسوا مهيئين لذلك، ولا يستطيعونه أصلا… إن الناس يتلقون عن الله خطابا فيه أمر بالعدل ونهي عن الله، يعتقدون أن الله هو القاهر فوق عباده، ورغم ذلك تجدهم يظلمون إذا ضعفوا أمام شهواتهم ورغباتهم الفانية، فما بالك بمن يقول بقوة الإنسان وحده، ستكون النتيجة بعد هذا القول كارثية، سيتحكم الأقوياء في مصير الضعفاء، الضعفاء يكدحون، والاقوياء يربحون… ألا ترى هذا واقعا في عالمنا اليوم؟ ألا ترى الأقوياء يعيشون على ألام الضعفاء؟ إن كل الأقوياء من هذه الطينة إما أنهم لا يؤمنون إلا بقوة “الإنسان القوي” (“السوبر مان” بتعبير فريدريك نيتشه)، أو أن قوتهم أنستهم قوة الله، ونسوا أن ضعفهم لا زال حاصلا، فإن لم يكن حاصلا على مستوى كسب المال ومراكمة الثروات وامتلاك وسائل الإنتاج، فهو حاصل على مستوى الافتقار إلى ما من أجله كان الإنسان، لقد كان الإنسان ليعبد الله بالشعيرة التعبدية وبالإصلاح في الأرض، وأي فعل يمارس خارج هذه الدائرة فهو يدل على ضعف ليس بعده ضعف… لقد رأينا الآن كيف أن ضعف الضعفاء والبسطاء يتجلى في حاجتهم إلى من يحميهم ويقر حقهم، ومن يكون هذا الحامي إن لم يكن الرب العادل صاحب العدل المطلق؟ إن الرب تعالى وضع العدل قاعدة من قواعد الدين وألزم بها كل مؤمن، ولم يكتف بذلك، بل إنه حث المظلوم على طلب حقه إن ظلم، وعند عدم استطاعته كان الله خير معين ينصت لشكوى المظلوم ويتقبل دعوته ويروح عنه بأن أجل له حقه إلى يوم يبعثون، هكذا يتأكد ضعف الضعفاء والبسطاء، وهكذا يمدهم الله بالقوة في ذلك، فكانت الحاجة ملحة لأن يرتبط “الضعف المطلق” ب”القوة المطلقة” حتى لا يقع الانهيار ويفقد الإنسان الغاية التي وجد من اجلها… ولقد راينا كيف أن ضعف الأقوياء يتجلى في تفضيلهم للرزق الفاني على الرزق الخالد، فتراهم يضيعون العمر الخالد بالعمر البائد، إنهم ينتكسون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولذلك كانت الحاجة ملحة لأن يعود “الضعف المطلق” للأقوياء إلى “قوة الله المطلقة” حتى يعلم مكامن ضعفه فلا يغتر، وحتى يعلم الغاية التي وجد من أجلها على الأرض، آنذاك ينجو بنفسه، ويريح الناس من بأسه الفاني.
-حاجة الإنسان إلى التوجيه والإنضاج:
يعتقد البعض أن الإنسان في بعض المراحل المتقدمة من نضجه لن يكون في حاجة إلى الله تعالى، فلا داعي للرجوع إلى الله بعد أن أصبح الإنسان يعلم خبايا الأشياء، لا حاجة لتلك العودة بعد أن أصبح الإنسان يعلم تفاصيل دقيقة عن علم الأعصاب وعلم الجينات وعلم النفس، لا حاجة لتلك العودة بعد أن أصبح الإنسان يعرف أسرار الطبيعة وعمل اللاشعور وأصل الإنسان… إن كل هذه الأقوال مقبولة من وجه، ومردودة من وجه آخر. فهي مقبولة من حيث أن كل هذه الاكتشافات حققها الإنسان، والمطلوب هو الاستفادة منها، إذ أن الله وضع القوانين التي تحتكم بها العلاقات والأشياء، ونحن مطالبون باكتشافها والاستفادة منها، فلا ضير في ذلك. ولكن تلك الأقوال مرفوضة لأنها تناقض فلسفتها أولا، إذ لا يمكن أن يتوقف البحث والاكتشاف، وهناك العديد من الاسرار التي لا زالت محجوبة ومستعصية على الفهم، فلا مجال لأن يقول أهل البحث والاكتشاف: “انتهت الحكاية”، والغريب أن أغلب هؤلاء لا يقولون بذلك، ومن يقول به هم الصغار الذين يتلقفون كل مستجد ليبنوا عليه دعاواهم الاستعجالية… حتى لا يكون كلامنا غير مفصح، دعونا نوضح قصدنا من خلال مثال بين، حيث أن بعضهم يقول بارتفاع الحاجة إلى الصلاة اليوم بعد اكتشاف علم الاعصاب، فقد كانت الصلاة مفروضة على الناس بعد أن لم يكن أحد قادرا على توجيه أعصابه، أما بعد الاكتشاف المذكور فقد أصبح الناس قادرين على ذات التوجيه، وإذا سألت هؤلاء عن أصل هذه الدعوى، قالوا لك: “ما دامت الغاية من الصلاة هي التوجيه العصبي للإنسان، فلا حاجة إليها بعد أن أصبح الانسان يستطيع توجيه أعصابه”، لقد نسي هؤلاء السادة العباقرة ما يلي:
-أن اكتشاف علم الأعصاب لا يعنى اكتشاف كل خباياها، فقد تعرف الإنسان في بادئ أمره على المادة، ولكنه لم يدع نهاية البحث، فقد تواصلت الجهود إلى أن عرف الإنسان أن لكل مادة نموذجها الدقائقى، وبد حين تعرف الإنسان على طبيعة هذا النموذج الدقائقي، فهو عبارة عن جزيئات تتكون من ذرات، وبعد مدة علم الإنسان أن الذرة ليست “نهاية الحكاية”، فكل ذرة تتكون من نواة وإلكترونات تدور حولها، وليست النواة هي آخر شيء في المادة، بل هي بدورها تتكون من بروتونات ونوترونات، وهكذا… فالبحث لا يمكن ادعاء الانتهاء منها، و”إذا علمت أشياء غابت عنك أشياء” أنت تجهلها، ومطالب بالبحث عنها ما أمكنك.
-أن اكتشاف علم الأعصاب لا يعني قدرة كل أحد على توجيه أعصابه، فقد يعجز المكتشفون عن فعل ذلك، ألم تر كيف أن فرويد الذي “حول المركزية من الشعور إلى اللاشعور” بتعبير عبد الصمد بلكبير، ألم تر كيف أنه عجز عن الإقلاع عن إدمان التدخين، رغم استبدال فكه السفلي بفك اصطناعي، ورغم علمه باقتراب الموت منه مع كل سيجارة يدخنها، لقد فشل سيد التحليل النفسي في فك لغز إدمانه، فمات ضعيفا، ونحن نحييه على كل اكتشاف علمي حققه، وكننا نقول أن كل اكتشاف من هذا النوع لا يعني القدرة على حل كل المشاكل وتجاوز كل الصعاب، فثمة حاجة ملحة تدعو الإنسان لأن يعترف بعجزه.
-أن اكتشاف علم الأعصاب لا يمنع من تحقيق الصلاة لغايات أخرى سيكتشف العلم بعضها فيما بعض، فما دامت الأعصاب كانت مجهولة في عهد مضى واكتشفت بعد حين، فهناك أشياء وقوانين أخرى لا زالت مجهولة سيكتشف بعضها بعد حين.
-الإنسان ليس آلة:
ما وجه الاختلاف بين الإنسان والآلة؟ بالتفكير البسيط نجيب على هذا السؤال بسرعة: الإنسان هو صانع الآلة. فإذا كان الإنسان صانعا بطبيعته، فإن الآلة مصنوعة بطبيعتها. وبالتالي: إذا كانت الآلة لا تتحرك بإرادتها، فإن الإنسان يتحرك بإرادته، قد يتحكّم غيره في إرادته في بعض الأحيان، ولكنها تبقى خاصة به، وهو يعي تصريفها عكس الآلة… بالإضافة إلى ذلك، يصرح الصادق النيهوم في كتابه “نقاش” بوجه آخر للاختلاف الحاصل بين الإنسان والآلة، حيث أن الإنسان يشغل حيزا في الزمن والفراغ، وفناؤه يكون في الفراغ ويستمر تواجده في الزمن.
أما الآلة فهي تشغل حيزا في الفراغ فقط، وفناؤها إذا تم في الفراغ لم يبق لها تواجد بصفة نهائية. من أراد أن يفهم فكرة الصادق النيهوم، سيكون في حاجة إلى ترسيخ قناعة مفادها: “حتمية انتقال الإنسان بعد موته من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، في عالم الشهادة يؤمن الإنسان ببعض الغيبيات دون أن يرى شيئا منها، وفي عالم الغيب يكشف الغطاء عنها ليرى الحقائق تباعا الواحدة بعد الأخرى”.
إن هذه القناعة التي اعتمدنا عليها في فهم فكرة “الفرق بين فناء الإنسان وفناء الآلة” لم يبين الصادق النيهوم معالمها أثناء حديثه عن “وعي الإنسان المحدد لتطوره ونموه (دائرة العقل المفتوحة)”، ولكن الذي يقرأ كتب هذا الفيلسوف الليبي يعلم أنه ذو عمق عقدي من خلاله يحاول أن يفهم الإنسان ويحرره من كل ثقل بشري يكون محكوما بغريزة “حفظ النوع (التكاثر والتكرار)”.
حقيقة، الصادق النيهوم أعطى لعقيدة “اليوم الآخر” صبغة غير الصبغة التقليدية المعتادة، فقبل أن نفكر في “اليوم الآخر”، علينا أن نفكر في “الإنسان” الذي يحمل –أو سيحمل-هذه العقيدة. فكثير هم أولئك الذين يتكلمون كثيرا عن “الأشراط والقيامة”، ولكنهم يرتقون بالآلة إلى درجة الأنسنة، وينزلون بالإنسان إلى درجة المكننة.
هنا نطرح سؤالا واحدا: ما الهدف من العقيدة؟ هل جاءت العقيدة لتحرر الإنسان من الأشياء؟ أم لتسويه بها (الأشياء)؟ إنها أسئلة مقلقة وحارقة، ولكنها من جهة أخرى فاصلة… فلا يمكن أن يؤمن بشيء، من لم يؤمن بنفسه أولا، يعني من لم يؤمن بحقيقة إنسانيته أولا.
إن تخلي الإنسان عن إنسانيته (الإنسانية تتحدد بالوعي، العقل هو “وعي الإنسان بذاته” في نظر الصادق النيهوم”) هو ما جعله لا يتحقق بالعقيدة إلى بشكل سطحي ميكانيكي، أما الوعي الحقيقي بذات الإنسان فهو الذي يكسب العقيدة عمقا يحمل صاحبه على التحرر من كل الأشياء والآلات رغم الحاجة إليها في القيام بمجموعة من الوظائف. فالاستعانة على الوظيفة بالآلة شيء، والانبهار بذكاء الآلة (والغريب في الأمر أن ذكاء الآلة بُث فيها من قبل الإنسان) وربط الحركات والسكنات بها شيء آخر.
إن المشكل الحقيقي هو أن تتحول الآلة (الجهاز الحديث) من منزلة المتحكَّم فيه إلى منزلة المتحكِّم، وهذا هو ما يمكن أن نطلق عليه: استصنام الجهاز الحديث بشكل خفي.
إن هذه النظرة الاستصنامية إلى الآلة هي التي جعلت الإنسان ينظر إلى أخيه الإنسان على أساس أنه آلة، فإذا كانت الآلة قد خلصت مالك وسائل الإنتاج من أعباء العمال، وأراحته من ملكتهم الإبداعية التي تقدر بالأثمان، فنعم الآلة تلك، ولن يكون العامل أو المستخدم إلا دونها بعدما أصبحت المزاحمة على العمل حدثا مربحا (راجع “الأجرة والرأسمال” لكارل ماركس).
وهنا يتضح أنه لا مجال للتحرر من الاستصنام للآلة إلا بالاعتراف بإنسانية الإنسان أولا، ولن يتأتى ذلك إلا بمعرفة الفرق بينه وبين الآلة كما رأينا، حيث أن هذا الفرق لن يظهر إلا بمعرفة تجاوز الإنسان وكمون الآلة، الإنسان يقدم الخدمة ويعيها، والآلة تفعل ذلك من غير وعي، الإنسان مسؤول عن نفسه، والآلة المسؤول عنها هو الإنسان، الإنسان يؤمن بعمر خالد بعد الموت، والآلة لا تؤمن ولا تخلد. هكذا نعتقد أن الإنسان لا زال في حاجة إلى الله ليعرف كل هذه الأشياء.
هكذا، يتضح أننا لا زلنا –وسنزال كذلك-في حاجة إلى معرفة الله وتوحيده، بذلك سيقوى الإنسان من غير أن يظلم أحدا، وسينتفض الضعيف من غير أن يوقفه أحد، وسيحافظ الإنسان على استقراره و”سلام ضميره”، وسيفر بنفسه من أن يصبح آلة في يد مستعبدي البشر.
(المصدر: مركز يقين)