مقالاتمقالات مختارة

لعنة القدس

لعنة القدس

بقلم محمد الحسن أكيلال

قد لا يفهم المعنى غير المهتمين بالقضية الفلسطينية، فاللعنة قد تكون بعيدة عن أذهان غير المؤمنين مثلنا من المحدقين كثيرا في السماء، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها ومنها هي أن اللعنة أصبحت أمرا واقعا ظاهرا للعيان وهي تلتف حول أعناق كل المساهمين من قريب أو بعيد في صفقة القرن وعنوانها الأمريكي “القدس عاصمة أبدية لإسرائيل” بقرار أحادي من الرئيس ”ترمب” وهو لسوء حظه أول من أصابته هذه اللعنة.

البعض من المحللين من المهتمين يعتمدون فقط على ما تبثه وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية من الأخبار، ومن ثم فهم يظنون أن صفقة القرن هي وليدة تاريخ تصريح الرئيس الأمريكي ”دونالد ترمب” بها، أنهم ربما لعدم اهتمامهم بالتاريخ وتاريخ الصراع العربي الصهيوني بصفة خاصة، فهم ينسون أو يتجاهلون الحلقات والمراحل التي تواصلت لتصل إلى هذا الإعلان الأخطر المكمل لنكبة 1948 ونكسة 1967 واكتمالهما معها باتفاقية ”كامب ديفيد” عام 1977 و1980.

إن حظ ترمب من اللعنة أنه بجهله وعدم تقيده بالإستراتيجية التي وضعها كبار المفكرين في بلاده من النخبة وقيادات الدولة العميقة أراد المزايدة واستعجال قطف الثمار دون غيره من الرؤساء السابقين واللاحقين والانفراد بنيل المقابل المالي الخاص به وبالدولة الذي ابتزه من الدول الخليجية، فهو بخصوصية تنشئته وتربيته منذ صغره لا يعير اهتماما للقيم والأخلاق والمثل، إنه رجل أعمال اكتسب ثروة طائلة بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية مثل أبيه المعروف في أوساط الأعمال باستيلائه على جزء من ميزانية خصصت لبناء مساكن للفقراء في إحدى الولايات، حسب ما ورد في تحقيق صحفي حول حياته بثته إحدى القنوات الأمريكية.

لهذا كانت اللعنة قد أصابته قبل غيره وأحاطته كوابيس الملاحقة القانونية بتهم عديدة قد تصل به إلى العزل أو الاستقالة قبل نهاية العهدة.

دائرة اللعنة اتسعت بسرعة البرق ولاحقت قوات بلاده المتواجدة في سوريا مثلما لاحقت حكومة تل أبيب ورئيسها ”بن يمين نتانياهو” وقبله وزيره للدفاع والأمن “ديبرمان”، كما لاحقت حلفاءهم العرب والأعراب ابتداء بالرئيس المصري وانتهاء بالعائلة الملكية السعودية، التي انتحرت سياسيا بقيامها أولا بتعيين محمد بن سلمان وليا للعهد وانتهاء باغتيال جمال خاشقجي بأبشع طريقة لم يسبق لها مثيل.

صفقة القرن أعلن عنها رغم كونها كانت تنفذ منذ عام 1993، تاريخ توقيع اتفاق أوسلو بين الحكومة الصهيونية ومنظمة التحرير الفلسطينية، وهي كانت تنفذ بقوة الحديد والنار وبمباركة أغلبية الأنظمة العربية التي تأثرت بجبروت الدولة الصهيونية وقوتها العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وراحت تتقرب منها لاستعطافها ونيل قبول حمايتها من الدولة الجارة الشقيقة بالمنطق الديني جمهورية إيران الإسلامية التي انفردت بعدائها للصهيونية ودعمها ألا مشروط لفصائل المقاومة ودول الممانعة.

لقد اغتالت قوى اليمين المتطرف في إسرائيل ”إسحاق رابين” الذين توجسوا منه مجرد توجس من إمكانية قبوله للحل السلمي والقبول باقتسام الأراضي مع الشعب الفلسطيني طبقا لقرارات الشرعية الدولية، وبعهده اغتالوا الرئيس ياسر عرفات (رحمه الله) لرفضه التوقيع على اتفاقية كامب دافيد الثانية وشرم الشيخ بالإملاءات الصهيونية والقبول بالأمر الواقع على الأراض المتمثل في بناء المستوطنات والجدار العازل وتهويد القدس ومنع عودة اللاجئين.

لقد كانت الصفقة تطبخ على نيران متأججة أمريكية وغربية وتمويل خليجي بتدمير العراق تدميرا شاملا وأفغانستان وجنوب لبنان وقطاع غزة وسوريا التي مازالت صامدة مقاومة يبدو أنها بصدد تحقيق الانتصار واستعادة العافية.

إن إسهام العرب في هذه الصفقة قد بدأ بمبادرة السلام كخيار استراتيجي الذي بدأ بالتصديق عليها في مؤتمر قمة عربية انعقدت في بيروت عام 2002، وكانت هذه المبادرة من اقتراح الملك عبد الله بن عبد العزيز، والتصديق وقع بغياب الرئيس عرفات المحاصر في مقره في رام الله ودك جدرانه بالدبابات مع إعلان حكومة تل أبيب رفضها المسبق لهذه المبادرة جملة وتفصيلا، ومع ذلك بقي الأعراب والعرب متشبثين بها إلى اليوم، وهذا من أهم العوامل التي شجعت الرئيس ترمب على الإعلان عن الصفقة.

الصفقة الآن نفذت وتجسدت في انتظار تجسيد اللعنة بكاملها بعد حادثة جمال خاشقجي، والبداية ستكون في أمريكا التي يواجه فيها ترمب الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب وما يترتب عنه من عملية شد الحبل التي بدأت والتي لن تنتهي دون التأثير السلبي على المجتمع الأمريكي بكامله حول أهم المبادئ التي يتفق حولها والمصالح العليا لأمريكا التي من المفروض أنها لا تنفصل عن هذه المبادئ والقيم وعلى رأسها الديمقراطية وحقوق الإنسان التي ضربت في الصميم بما يجري في قطاع غزة وفي اليمن بالتدخل السعودي والإماراتي المباشر وبدعم لوجيستي أمريكي وغربي أثار الرأي العام العالمي الغربي وأصبح يضغط بقوة لإيقاف المأساة.

اللعنة التي ستصيب أمريكا بعد إصابتها بلعنة انتخاب ترمب بدأت في الارتداد لإشعال الجبهة الاجتماعية بعد ظهور نتائج القرارات الاقتصادية التي اتخذها هذا الرئيس والمتمثلة في تخفيض سعر النفط والعقوبات الضريبية ضد الصين والدول الغربية الحليفة والانقسام الذي بدأ يعتري الاتحاد الأوروبي.

اللعنة التي ستشتد وستكون بالحرب التي تنوي الدولة الصهيونية إشعالها في كل الإقليم والتي ستكون بداية النهاية لها لأنها ستضعها بين فكي الكماشة بين المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية والمقاومة اللبنانية والجيش السوري في الشمال.

(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى