لسان الدين بن الخطيب.. الوزير الأندلسي الذي قتله غلو الدين والسياسة!
إعداد عز الدين عمر
إن السياسة متأصّلة في النفوس التي تتطلع إلى النفوذ والمكانة، حتى وإن كانوا من أهل الكتابة والثقافة. إلا أن السياسة ذات أوجه، فلا يستقر لها حال ولا يؤتمن لها جانب، فتارة ترتفع بصاحبها إلى أعالي المجد، وعنان السماء، وتارة تلعنه وتفضحه وتجعله أضحوكة بين الناس، بل قد تأخذه في نهاية المطاف إلى حتفه وقبره، والتاريخ يجود علينا بأمثلة كثيرة من هؤلاء الرجال الذين تقلبت بهم عوالم السياسة من الفقر إلى المجد، ومن المجد إلى الاغتراب أو القبر!
ويأتي من بين هؤلاء أديب الأندلس ومؤرخها ووزيرها لسانُ الدين بن الخطيب، ذلك الرجل الذي ارتفع شأنه، فملك زمام السيف والقلم كما يُقال، فلم تعرف الأندلس في قرونها الأخيرة أديبا مؤرخا مفوّها ذكيا أريبا مثله، كما ساعده الحظ في التقرب من اثنين من سلاطين بني الأحمر في غرناطة فصار وزيرا لهما، بل أصبح الرجل في زمن الأخير منهما صاحب الحل والعقد، وقطب الدائرة، ومركز السياسة، ورجل في مثل هذه المكانة لا ريب أن المؤامرات ستُحاك ضده، وتسعى إلى اقتلاع جذوره من أرضه، وكذلك فعل السياسة في كل زمان!
كانت مملكة غرناظة الإسلامية وريثة الأندلس الكبرى بعد سلسلة طويلة من الحروب ضد إسبانيا النصرانية التي كانت تتقدم مع مرور الزمن لتستولي على المدن الإسلامية الأندلسية من برشلونة وسرقسطة وطُليطلة إلى قرطبة وبلنسية وشاطبة وغيرها، حتى إذا جاء النصف الأخير من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي تقهقر الوجود الإسلامي إلى الجنوب حيث غرناطة ونواحيها.
رغم هذا التقهقر السياسي والعسكري، والحروب ضد الجبهة الإسبانية المتواصلة، فإن الجانب الفكري والثقافي كان يقطع أشواطا من التقدم؛ حيث بلغت ذروة مجدها في عصر السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري (733-755هـ)، وولده السلطان محمد الغني بالله (755-793هـ)، ففي ذلك العصر ظهرت طائفة من أكابر المفكرين والكتاب والشعراء الذين أعادوا بروعة إنتاجهم الفكري والأدبي روعة الأندلس في عصورها الذهبية، مثل ابن خاتمة الأنصاري شاعر ألمرية، والوزير ابن الحكيم اللخمي، والوزير ابن الجيّاب، والحكيم يحيى بن هذيل، والوزير ابن زمرك، والأمير إسماعيل بن الأحمر.
يرى الأستاذ محمد عبد الله عنان، وهو أخبر من تكلم عن الأندلس وتاريخها، أن الوزير لسان الدين بن الخطيب كان “أعظم شخصية ظهرت في ميدان التفكير والأدب في هذا العصر، بل نستطيع أن نقول إنه أعظم شخصية ظهرت بالأندلس في القرن الثامن الهجري، سواء في ميدان التفكير أو السياسة أو الشعر أو الأدب، وإنه يمكن أن يُوضع في صف أعظم شخصيات التاريخ الأندلسي قاطبة”[1].
فمن هو هذا الرجل الأندلسي الذي وصفه العلامة عبد الله عنان بأنه أعظم شخصية أندلسية في عصره؟ وكيف انتقلت حياته من أطوار الثقافة والأدب والتاريخ إلى عالم السياسة ودهاليزها وأسرارها ومؤامراتها؟ ثم كيف انتقل من المجد والثروة والشهرة إلى الفرار والهرب والنفي ثم القتل في نهاية المطاف؟!
وُلد لسان الدين محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني الغرناطي الذي يعود نسبه إلى عرب اليمن القحطانية الذين هاجروا إلى الأندلس، وسكنوا قرطبة، وانتقلوا إلى طليطلة ثم في نهاية المطاف إلى غرناطة، وُلد بمدينة لوشة غربي مدينة غرناطة على بُعد خمسين كيلومترا منها، سنة 713هـ/1313م في بيت علم وفضل وأدب وجاه.
ويخبرنا ابن الخطيب في العديد من كتبه أن بيتهم كان يُسمى ببيت بني الوزير، ثم سُموا ببني الخطيب، وسبب هذه التسمية يرجع إلى عهد جدّه سعيد أول من استوطن من الأسرة مدينة لوشة، وكان عالما ورعا، ولهذا العلم الواسع فقد اشتهر بالخطيب، أما ابنه عبد الله فرغم أنه نشأ مترفا غير متعمق في مسائل العلوم والمعارف، فإن الحظ قد طرق بابه حين اتصل بالسلطان أبي الوليد إسماعيل بن الأحمر الذي توفي قتيلا سنة 725هـ/1324م، فخدم عبد الله ابنه السلطان أبا الحجاج يوسف أعظم سلاطين غرناطة من بني الأحمر، حيث التحق عبد الله بديوان الإنشاء وظل يترقى فيه حتى وُصف بالوزير.
كانت الأندلس حينذاك قد دخلت في معترك الصراع ضد إسبانيا النصرانية في زمن السلطان أبي الحجاج يوسف الذي لم يجد بُدا من المطالبة بعون الدولة المرينية في المغرب الأقصى والتي لبّى صاحبها السلطان أبو الحسن المريني النداء، وخرج الأندلسيون والمغاربة متحدين، لكن الهزيمة كانت من نصيبهم في السابع من جمادى الأولى سنة 741هـ/30 أكتوبر/تشرين الأول 1341م في موقعة طريف الشهيرة، وفيها قُتل والد لسان الدين بن الخطيب وأخوه الأكبر، وكانت فادحة كبرى على الأندلس والمغرب على السواء[2].
كان من حظ لسان الدين بن الخطيب أنه نشأ في ظل عز والده في الإنشاء والوزارة، وبين جنبات غرناطة العامرة بالعلماء والأدباء والفقهاء، وهي يومذاك المركز الحضاري الأبرز في الغرب الإسلامي، فنشأ ابن الخطيب متعلما على كبار علماء ذلك العصر، بيد أن وفاة والده صريعا في معركة طريف قد جعل منصبه خلوا، ثم كان الوباء الكبير أو الطاعون العام الذي انتشر في أوروبا وأفريقيا وآسيا قد تسبب في حصد أرواح آلاف الأندلسيين سنة 749هـ/1349م، وكان منهم ابن الجيّاب رئيس ديوان الإنشاء، وهو بمنزلة وزارة الخارجية لتلك العصور[3].
ارتقى ابن الخطيب منصب رئاسة الديوان وهو محمل بتاريخ ومجد وعلم ونبوغ، واستغل هذا المنصب الجديد فتألّق فيه، وعظُمت منزلته، وأغدق السلطان أبو الحجاج يوسف بن الأحمر عليه عطفه، وآثره بثقته، وجعله كاتب سرّه ولسانه في المكاتبات السلطانية، وصدرت منها بقلم ابن الخطيب يومئذ طائفة من أبدع الرسائل الملوكية التي ينعتها العلامة ابن خلدون صديق ابن الخطيب في ذلك العصر بـ “الغرائب” لروعتها، وقد جمع ابن الخطيب الكثير منها فيما بعد في كتابه “ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب”[4].
ارتفعت منزلة ابن الخطيب في ولاية السلطان أبي الحجاج يوسف بن الأحمر، حتى أصبح وزيرا مفوضا من قبله، وحين توفي سلطان المغرب ومجاهدها الكبير السلطان أبو الحسن المريني أوفد السلطان يوسف وبعث إلى المغرب وفدا رفيعا لتقديم العزاء على رأسه وزيره ابن الخطيب، فقصد ابن الخطيب العاصمة المغربية آنذاك فاس، وقدّم عزاء سلطان الأندلس في شقيقه سلطان المغرب، وكان العاهل المغربي الجديد هو السلطان أبو عنان وذلك في جمادى الأولى سنة 752هـ، وكانت هذه هي الزيارة الأولى لابن الخطيب إلى المغرب.
كان ابن الخطيب في الأربعين من عمره حينذاك، فقد أعطته الوزارة والمكانة والرياسة عطاء كبيرا، وأضحى السلطان الأندلسي يضع فيه كامل ثقته، يقول في كتابه الأشهر “الإحاطة في أخبار غرناطة”: “فقلّدني السلطان سرّه، ولم يستكمل الشباب، ويجتمع السن، معزّزة بالقيادة ورسوم الوزارة، واستعملني في السفارة إلى الملوك، واستنابني بدار مُلكه، ورمى إلى يدي بخاتمه وسيفه، وائتمنني على صوان حضرته، وبيت ماله، وسجوف حرمه، ومعقل امتناعه”[5].
غير أن سلطان الأندلس في أثناء صلاته لعيد الفطر في عام 755هـ لقي مصرعه على يد مجنون، وكانت الحادثة فُجاءة مما ترتب عليها ارتفاع ولده محمد الغني بالله إلى سدة العرش، معه الحاجب رضوان الذي كان على رأس الوزارة، كما ظل ابن الخطيب في منصبه وزيرا لديوان الإنشاء “وزارة الخارجية والإعلام”، وفي هذا يقول ابن الخطيب: “فنقلني من جلسة المواجهة إلى صف الوزارة، وعاملني بما لا مزيد عليه من العناية، وأحلّني المحل الذي لا فوقه في الخصوصية”[6].
كانت الأندلس في تلك السنوات تتعرض لمخاطر العدوان القشتالي من الشمال، وهو عدوان ما لبث أن أظهر شوكته وقوته في الجنوب أيضا حين استولى القشتاليون على منطقتي طريف والجزيرة الخضراء في أقصى جنوب الأندلس، وكانت ثغورا منحها الأندلسيون للمغاربة من سلاطين دولة بني مرين للحماية والدفاع، على أن سقوط هذين الثغرين وهزيمة المرينيين من القشتالين ثم وفاة السلطان أبي الحسن واعتلاء السلطان أبي عنان ولده، ثم اعتلاء السلطان محمد الغني بالله على الضفة الشمالية في الأندلس، قد استلزم إعادة الاتصال الدبلوماسي بين الجانبين لتأكيد التحالف السياسي والعسكري المشترك ضد العدوان القشتالي الصليبي المتواصل.
وللمرة الثانية يقود الوفد الوزير والأديب والمؤرخ لسان الدين بن الخطيب نيابة عن سلطانه الجديد محمد الغني بالله بن الأحمر، وقد كتب ابن الخطيب رسالة خطية على لسان سلطانه تقر بدور المرينيين في حفظ الأمن والذود عن الديار الأندلسية في مواجهة القشتاليين، وتعترف بمقام السلطان المغربي الجديد، وتأمل منه الاستمرار على التحالف القديم، كما ختمت الرسالة بالإشارة إلى ابن الخطيب الوزير الأندلسي، وترجو أن يتلقاه السلطان أبو عنان “بما يليق بالملك العالي، والخلافة السامية المعالي… والله يحرس مجدكم، ويوالي نصركم وعضدكم”[7].
وبالفعل استقبل السلطان المغربي أبو عنان الوزير ابن الخطيب استقبالا حافلا وذلك في الثامن والعشرين من ذي القعدة سنة 755هـ، وبهذه المناسبة أنشد ابن الخطيب بين يديه قصيدة رنّانة تشيد بمآثره وفضله، وتقر مكانته ومنزلته، يقول فيها:
خليفةُ الله، ساعِدَ القدر *** علاكَ ما لاحَ في الدُّجى قمرُ
ودافَعَتْ عنك كفَّ قُدرتِه *** ما ليس يستطيعُ دفعُه البشرُ
وجهُك في النائباتِ بدرُ دُجى *** لنا وفي المحل كفّك المطرُ
والناسُ بأرض أندلسٍ *** لولاك ما أوطنوا ولا عَمَروا
وغايةُ الأمرِ أنه وطنٌ *** في غيرِ علياكَ ماله وطرُ
كان لهذه القصيدة أثر السحر في السلطان المغربي أبي عنان، وقد جعلته يزيد في تبجيل وتوقير وتقريب ابن الخطيب والاحتفاء به، وكان من أثر هذه الحفاوة أن دعاه السلطانُ معه لمشاهدة حفل أقيم في بعض الساحات لعقد مصارعة بين الأسد والثيران، وهي مصارعة غريبة أدهشت ابن الخطيب، وبعد قرابة الشهرين من البقاء، ونجاح هذه السفارة، كتب ابن الخطيب يقول:
“وكان الانصراف بأفضل مما عاد به سفير من دار أصيل، وإمداد موهوب، ومهاد ومُهاداة أثيرة، وقطار مجنوب محمول، وطُعمة مسوّغة. وكان الوصول في وسط محرم سنة ست وخمسين وسبعمئة، وقد نجح السعي، وأثمر الجهد، وصدقت المخيّلة”[8].
لهذا السبب ازداد ابن الخطيب حظوة ومكانة عند السلطان الشاب محمد الغني بالله، حيث “بلغت الحظوة منتهاها، والدرجة التي تؤمّل بأبواب الملوك إلى الآماد وأقصاها” كما يقول ابن الخطيب نفسه، لكن هذه اللحظة من الذورة والمجد ما كان لها أن تمر دون تنغّص ومكر وحسد، فقد بدأت أعناق الكُيّاد والحاسدين ترتفع بالتآمر لا في بلاط الحمراء فقط، بل في سائر العاصمة غرناطة، حتى اشتعلت الثورة في نهاية المطاف في شهر رمضان سنة 760هـ/1359م، وفيها فقد الغني بالله ملكه[9].
هرب الغني بالله إلى مدينة وادي آش شمال غرناطة، ومنها طلب اللجوء السياسي عند المرينيين في المغرب، وكان ملكها الجديد حينذاك السلطان أبو سالم، الذي وافق على هذا اللجوء، وقد ارتقى عرش بني الأحمر السلطان الجديد إسماعيل بن الأحمر أخو السلطان المخلوع محمد، الذي استبقى على لسان الدين بن الخطيب في البداية وزيرا، ثم ارتفع صوت الوشاة والحُسّاد الذين خوّفوه من ولاء ابن الخطيب للسلطان القديم، فأصدر السلطان الجديد إسماعيل بن الأحمر أمره باعتقال الوزير لسان الدين بن الخطيب ومصادرة جميع أمواله، يقول ابن الخطيب متأثرا:
“وتقبّض عليّ، ونكث ما أبرم من أمانيّ، واعتُقلت بحال ترفيه، وبعد أن كُبست المنازل والدور، واستكثر من الحرس، وختم على الأعلاق، وأبرد إلى ما نأى، فاستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات الأمثال في تبحّر الغلّة، وفراهة الحيوان، وغبطة العقار، ونظافة الآلات، ورفعة الثياب، ووفور الكتب، إلا الآنية والفُرُش والماعون، والزجاج والطيب، والذخيرة والمضارب والأقمشة”[10] ويعدد ابن الخطيب في حسرة بالغة أنواع المصادرات التي أُخذت من خزائنه، ومدى ثروته الطائلة التي صارت أثرا بعد عين!
كانت العلاقة بين سلطان المرينين أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن وبين السلطان الأندلسي المخلوع محمد الغني بالله علاقة قديمة وطيدة حين كان أبو سالم لاجئا في الأندلس، وقد عرف أبو سالم لسلطان الأندلس حقه القديم، وحق وزيره لسان الدين بن الخطيب، فأرسل من فوره إلى السلطان الجديد إسماعيل بن الأحمر طالبا منه الإفراج عن الوزير ابن الخطيب والسماح له بالمجيء إلى المغرب ضيفا مُكرما، وهو الأمر الذي قبله سلطان غرناطة الجديد مجبرا مخافة إضعاف العلاقة بين الجانبين[11]، لا سيما أن المرينيين كانوا على الدوام في عون بني الأحمر في غرناطة ضد الصليبيين الإسبان في الشمال.
وبالفعل أُفرج عن ابن الخطيب وعبر مع سلطانه المخلوع محمد الغني بالله الأندلس، وهو كما يقول: “خرجتُ لا أملكُ إلا نفسي، وفضلُ ربي ملطوفا بي باستصحاب أهلي وولدي”[12]، وبالفعل وصل الرجلان السلطان والوزير في الحضرة المغربية وعاصمتها يومئذ فاس، فوصلاها في السادس من شهر المحرم سنة 761هـ، واستقبلهم السلطان المريني أبو سالم خارج البلد أجمل استقبال، واحتفل بقدومهم في يوم مشهود، وأنشد ابن الخطيب بين يدي السلطان المغربي قصيدة من أروع قصائده، يدعوه فيها لنُصرة سُلطانه منها[13]:
قصدناك يا خير الملوك على النوى *** لتُنصفنا مما جنى عبدك الدهر
كففنا بك الأيام عن غلوائها *** وقد رأينا منها التعسّف والكبر
وعذنا بذاك المجد فانصرم الردى ** ولُذنا بذاك العزم فانهزمَ الذعرُ
ولما أتينا البحرَ يُرهبُ موجه ** ذكرنا نداك الغمر فاحتُقر البحرُ!
التقى ابن الخطيب بالعلامة ابن خلدون وكان إذ ذاك رئيسا لديوان الإنشاء في دولة بني مرين، وكان كلاهما شخصية مثقفة وسياسية محنّكة من الطراز الأول، فقد كان ابن خلدون يشغل في المغرب ما كان يشغله ابن الخطيب في الأندلس، فجمعت بين الرجلين أواصر الصداقة، ثم فرّقت بينهما فيما بعد عناصر الغيرة والتنافس، إلا أن الرجلين كل منهما قد ترجم للآخر في تواريخه بما ينم عن الاحترام والتقدير المتبادل.
عاش ابن الخطيب مع سلطانه المخلوع في ظل سلطان المغرب أبي سالم عيشة مترفة منعّمة، وقد انتقل فيها بين بلدان المغرب زائرا لمدنه ومعالمه، وملتقيا بكبار علماء عصره من فقهاء وصوفية المغرب الأقصى، وكان مقام ابن الخطيب في مدينة سلا بعيدا عن مدينة فاس مؤثرا الراحة تحت الإنعام والجراية المالية من بني مرين، لكن في حدود عام 762هـ/1361م حدث انقلاب عسكري وسياسي في غرناطة قُتل فيه السلطان إسماعيل بن الأحمر، فتوجه السلطان المخلوع الغني بالله واستطاع الاستيلاء عليها في ذلك العام، وفي العام التالي لحقه ابن الخطيب فتسلم منصبه من جديد الذي ظل فيه هذه المرة عشر سنوات كاملة.
في هذه الوزارة الجديدة آثر ابن الخطيب أن يكون أسلوبه حذرا، مبتعدا عن الترف والعز الذي كان سببا في نقمة الناس عليه في الوزارة الأولى، يقول: “فاستعنتُ بالله، وعاملتُ وجهه فيه، من غير تلبّس بجراية، ولا تشبّث بولاية، مقتصرا على الكفاية، حذرا من النقد، خامل المركب، معتمدا على المنشأة، مستمتعا بخلق النعل، راضيا بغير النبيه من الثوب، مشفقا من موافقة الغرور، هاجر الزخرف، صادعا بالحق في أسواق الباطل”[14].
بل إن الرجل آثر أن يهتم بإنشاء المؤسسات الدينية التي يبغي من ورائها الأجر وحسن السمعة، يقول: “ثم صرفتُ الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة، بكر الحسنات بهذه الخطة، بل الجزيرة فيما سلف من المدة”، واستطاع ابن الخطيب بناءها بالفعل، لكن رغم ذلك ظلت سهام الخصوم تُقذفُ نحوه، وأعين الحساد تطاله، وألسنتهم في مسامع السلطان لا تتوقف من التحذير به، يقول: “ومع ذلك فلم أعدم الاستهداف للشرور، والاستغراض للمحذور، والنظر الشذر المنبعث من خزر العيون، شيمة من ابتلاه الله تعالى بسياسة الدهماء، ورعاية سخطة أرزاق السماء، وقتلة الأنبياء، وعبَدَة الأهواء، ممن لا يجعل لله تعالى إرادة نافذة، ولا مشيئة سابغة”[15].
حاول ابن الخطيب مع هذا الترصد من أهل الأحقاد أن يبتعد عن الوزارة وعالم السياسة، وفاتح السلطان الغني بالله برغبته بالسفر إلى الحج بيد أن السلطان ازداد تمسكا به، ولاطفه، وقربه ومدّ له في التعيين لمدة عامين آخرين، وهو في هذا يعاني من التوعك الصحي، وداء الأرق، ويخبرنا ابن الخطيب أنه طالما نصح السلطان بما يراه في صالح الإسلام والرعية، لكنه مع بدايات الشيخوخة كان قد سئم من السياسة، وقد أرسل إلى أحد أصدقائه الشاعر ابن خاتمة في مدينة ألمرية مصرحا بذلك قائلا:
“والله قد عوّض حبّ الدنيا بمحبته، فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق، وقد رقى لدغتها ألف راق، وجمعتني بها الحجرة، ما الذي تكون الأجرة… إني إلى الله تعالى مهاجر… لكني للحرمين جنحت، وفي جو الشوق إليهما سرحتُ”[16]، وكانت هذه الرسالة في سنة 770هـ.
على أن ابن خلدون على الجانب الآخر، وهو صديق ابن الخطيب والمعاصر له، يؤكد لنا أن الوزير لسان الدين كان قد استبد بالسلطة في هذه الفترة، يقول: “وخلا لابن الخطيب الجو، وغلب على هوى السلطان، ودفع إليه تدبير المملكة، وخلط بنيه بندمائه وأهل خلوته، وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد، وانصرفت إليه الوجوه، وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصّة والكافّة، وغصّت بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه”[17]. وهو الاستبداد الذي يفسر امتعاض ابن الخطيب من نقد الناس والحُسّاد والدهماء على حد وصفه!
على أن أكبر المناوئين لابن الخطيب كان فقيه الجماعة أبو الحسن النُّباهي الذي أفتى بإقامة الحد على ابن الخطيب لأن بعض كتبه تتضمن الزندقة والإلحاد، بل وأفتى بإحراق كتُبه، والثاني كان مساعده ابن زمرك رجل الإنشاء والترسّل، وكان من عجائب الأقدار أن ابن الخطيب قد ساعد كلا الرجلين في الارتقاء إلى منصبيهما، لكنهما في نهاية المطاف تآمرا عليه، وعملا على التخلّص منه، وقد سمع لهما السلطان في نهاية المطاف، الأمر الذي حدا بابن الخطيب إلى الهرب صوب المغرب سنة 772هـ، حيث تمتع هذه المرة بحماية سلطانه أبي فارس عبد العزيز المريني.
رغم هذه الحماية، ظل ابن زمرك والنّباهي يتحينون الفرص لابن الخطيب، وفي العام 774هـ/1372م توفي السلطان عبد العزيز الذي كان ملجأ ابن الخطيب، الذي فيه يقول: “ثم دُكّ الجبل العاصم من الطوفان، والممسك للأرض عند الرجفان فكان موت المولى المرحوم أبو فارس الذي آوينا إليه، وعوّلنا عليه، ووثقنا بوعوده، وتمسّكنا بعهده، فانخرق الحجاب، واستأسدت الذئاب”[18].
رغم هرب ابن الخطيب وهو في سن الشيخوخة من الأندلس فإن خصومه ظلّوا يتحينون الفرص للقضاء عليه، وكانت المسألة الدينية هي أمضى وسائلهم لتحقيق هذه الغاية، فاتهموه بالزندقة والخروج على شريعة الإسلام، ونسبوا إليه في ذلك أقوالا ومقالات مما جاءت في بعض كتبه ورسائله، أوّلوها وفق مقاصدهم، وزعموا أن منها ما يتضمن طعنا في حق النبي، والقول بالحلو[1] ، والأخذ بمذهب الفلاسفة الملحدين معتمدين في ذلك على ما كتبه ابن الخطيب في كتابه “روضة التعريف بالحب الشريف” وهو كتاب في التصوف ألّفه للسلطان محمد الغني بالله، على نمط ما كان يكتبه المشارقة في مصر والشام.
ويدافع الأستاذ محمد عبد الله عنان عن لسان الدين بن الخطيب، ويرى أن هذه الاتهامات كانت كيدا من أعدائه الجهلة الذين أوّلوها لخدمة مقصودهم وهو التخلص من ابن الخطيب، يقول: “ولقد قرأنا هذا الكتاب الضخم لنحاول العثور على شيء من هذه النصوص والمقالات الضالة التي يمكنُ أن تصلح سندا للاتهام، ولكنا لم نجد شيئا واضحا يُمكن أن تستندَ إليه هذه الصفة وبالعكس فقد رأينا أنفسنا أمام روضة يانعة حافلة بمزيج رائع من الآراء والنظريات التي تشعّ بالإيمان والخشوع، وتشهد لصاحبها بسلامة العقيدة، وصدق الطوية، والبُعد التام عن كل ما يمكن أن يوسم بالخروج أو الإلحاد”[19].
ورغم ذلك نجح سعي أعداء ابن الخطيب، واستغلوا وفاة السلطان عبد العزيز وارتقاء غيره الذي سمع للخصوم، وصدر القرار بسجن ابن الخطيب ثم قتله خنقا ثم حرقا ثم دفنوه على هذه الشاكلة في مقبرته التي لا تزال في فاس حتى يومنا هذا، وذلك في أوائل سنة 776هـ/1374م، والرجل في الثالثة والستين من عُمره، وهكذا راح ابن الخطيب الوزير الذكي، صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية الفذّة والقيمة والغزيرة، ذهب صريعا لمكائد السياسة، واللعب بالدين، وغلو المتعصبين على السواء، وهي الحادثة التي تُذكّرنا بتقلبات السياسة، وخطورة مسالكها، ونهايات السوء لأصحابها، وما أكثرهم في بحر التاريخ!
(المصدر: ميدان الجزيرة)