لبيك اللهم.. الحج من منظور عالمي
بقلم حسام شاكر
إنه موسم عظيم من الاجتماع والانتظام، يمنح الحياةَ عمقاً زاخراً وأفقاً منفتحاً قد لا يتأتّيان لها بدونه. هو موسم يبدأ من أقاصي الأرض مع أفواج الحجيج الذين يتوجّهون زُرافاتٍ ووِحداناً نحو أمّ البدايات، في مسير طويل صوْب أول بيت وضع للنّاس وإن اختزل مسافتَه تحليقٌ بمجنّحات أو إبحار بمراكب أو ترحالٌ على عجلات. والمسير على هذا النحو يحفِّز الوجدان لبلوغ مقصده وملامسة وجهته، إنه موعد مكاني ينعقد في وعي المسلم منذ طفولته مع القِبلة التي تُستقبَل في مواقيت معلومة تُقام فيها الصّلوات، فإليها تهوي الأفئدة طوال العمر تشوّقاً للحظةِ الالتحام بالمركز والطواف به في رحلة الحياة الكبرى؛ امتثالاً لشعائر الله وتعظيماً لبيته المحرّم. في مكة المكرّمة الموعد لتجديد العهد مع النبوّات والرسالات التي ما تعاقبت إلاّ لهداية النّاس وربطهم بالله الواحد الأحد، فيستحضر الحجّ تواصُلَ الرسالات ويجسِّد اشتراكها في جوهر التوحيد المتجرِّد عن زيْغ البشر وأهوائهم وما ينزعون إليه من تحريف للعقائد وتلاعب بالنُّسُك.
يتشكّل في موسم الحجّ مشهدٌ عظيم، ينتظم فيه ملايين البشر، يفدون من أرجاء العالم على تباعُد أطرافه ليجتمعوا على صعيد واحد، متجرِّدين من الدنيا وزينتها، يرددون نداءً موحّداً: “لبيك اللهم لبيك”. ليس نداء الحج هذا هتافاً من قبيل ما يصوغه الناس بأهوائهم وينحتونه بتحيّزاتهم، بل هو إعلانُ موقفٍ اعتقاديّ يلتزم وُجهة للحياة على بصيرة، وهو صيْحة تحرّر إنسانية كبرى تجري على ألسنة ملايين البشر الذين انعتقوا من أغلال الدنيا وتخلّصوا من الهيمنة الأرضية على هاماتهم وقاماتهم، قاصدين الله الواحد الأحد.
يجسِّد الحجّ علاقة مفتوحة بين الأرض والسماء، فلم يجتمع الحجيج بأمر من زعامة بشرية أو قيادة أرضية، أو بتوجيه من كهنوت ديني أو طبقية علمائية، أو خضوعاً لواسطة روحية أو هيْمنة صنمية. ثمّ إنهم يعيشون الحجّ بتجرّد مناسِكِه وبساطتِها واتِّضاحِها بلا حاجة إلى وسيطٍ تأويلي يزعم فكّ الطلاسم أو شرح الأسرار، حُقّ لمناسك الحج أن تصفع وَعيَ الطّغاة والمستبدّين والمستكبرين ومَن استبدّت بهم أوهامُ العظمة والتفرّد؛ إذ لا يرَوْن الجماهير الغفيرة في هذا الموقف العظيم الذي لا نظير له تهتف بأسمائهم أو ترفع صورَهم، فهي تتوجّه بالدعاء إلى من بيَده الأمر كلّه؛ قيوم السماوات والأرض.
لا تلحظ العيون تبايُناتٍ ولا تمايزاتٍ مفتعلة في مشهد الحج، فالإحرام يجرِّد البشر من مقوِّمات التفاوت التي يتّخذونها في المسلك والملبس والهيئة والتعطّر، فيتماثلون في المشهد ويتساوون في آصرة أخوية. هي لوحة إنسانية واقعية لا نظير لها، لا تقوم على الاختصاص الإثني، وتتشكّل على هذا النحو دون أن تمسّ بالتنوّع القائم أساساً بين البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم الذي هو من آيات الله في خلقه. يُخرِج الحجّ للبشرية، وليس للمسلمين وحدهم، مشهداً يَسُرّ الناظرين، تتواءم فيه قيمة المساواة ووحدة الحال، مع ثراءِ التنوّع الإنساني في أجلى صوره.
لا عجب أن يسأم المتكبرِّون والمتعالون الإحرام – لباس الحج الموحّد في مواصفاته المبسّطة للغاية والتي ينبغي أن تترافق مع الامتناع عن تسريح الشعر ومسّ العطر – فهو يساويهم مع بقيّة النّاس في الموقف الحافل بوفود الأقوام والجماعات البشرية من القارّات والأقاليم جميعاً، ويسلبهم فرص التمايز عن غيرهم أو التعالي عليهم في المسلك أو الملبس أو الهيئة أو حتى التعطّر، فلكلٍّ منها رسائل تبعث بها ممّا اعتاد البشر توظيفه في التفاضل الشكلي فيما بينهم. آلَت صناعةُ العطور في العالم، مثلاً، إلى حلبة كبرى لتضخيم التمايُزات وتعظيم الانطباعات الوهمية في مجتمعات يميل الناس فيها إلى نحت تصوّراتهم المتفرِّدة عن حظوتهم وشخصيّاتهم، عبر استعمال العطر الذي يراد منه أن يشي بمكانة صاحبه المتخيّلة وسمات شخصيّته المُفترضة مع استعماله في “تسويق ذاته” مجتمعياً. يتعطّل مفعول هذه الاستعمالات في الحجّ، فهم يقفون جميعاً على صعيد واحد رغم تفاوتهم في المكانة الاجتماعية والحظوة أو في المستوى العلمي والثقافي، أو في الأملاك والأموال والأرزاق، أو في العادات والتقاليد والأعراف، وعليهم الانضباط في محطّات محدّدة للمناسك لا تبديل لها منذ أن كان الحجّ في الإسلام وكانت المناسك.
لا تنقضي رسائل الحج الظاهرة ودروسه العميقة؛ ومنها أنه ردّ عملي مكثّف على العنصرية السلالية ونزعات التفاخر الذميمة بين البشر؛ فيجتمعون يوم الحج الأكبر في هيئة واحدة على صعيد واحد على تنوّع ألسنتهم واختلاف ألوانهم. وهل يشهد العالم تجربةَ اجتماع متعددة الإثنيات والطبقات كما في موسم الحج الذي يأتيه أقوامٌ لم يجرِّبوا السفر من قبلُ أساساً؛ حتى أنّ بعضهم لم يسبق لهم أن تجاوزوا حدود إقليمهم أو نطاق قبيلتهم؟
إنها ليست رحلة طبقية للمحظيين في مراتب الدنيا كي تبدو مشاهدها خالية من المفاجآت أو مصمّمة حسب معايير السلوك البشري المُنمّط في زمن العولمة، ففيها يتجلّى التنوّع بكل ما فيه، وينخرط في مناسكها منتسبون إلى شرائح وفئات من كبار الأغنياء ومرفّهي الأرض ممّن اعتادوا تناول الطّعام بالشوكة والسكين، وصولاً إلى أعماق بيئات دأبت على تناوله بالأيدي مباشرة. في هذه الشواهد المرئية خبرةٌ للجميع وتربيةٌ لهم وفرص لإدراك الإنسانية من منظور أوسع ولإعادة التفكير بمفاهيم مؤسِّسة لاجتماع البشر وافتراقهم.
يتوافد الحجيج من مجتمعات ترتفع فيها لافتات التفاخر الأجوف بالأنساب والأقوام والألوان والأوطان، وتنشط في بعضها أحزابٌ وقوى وجماعات وشبكات مصالح تعتاش من خطابات الكراهية والتحريض وإثارة الأحقاد والضغائن وتنميط من يتمّ وصمهم وتصنيفهم في خندق “الآخرين”، فتأتي رسالة الحج في هذا المقام لتؤكِّد بالمثال العملي والمشهد المرئي أنّ الناس سواسية، وأنّ مبرِّرات تفاخرهم وَهْمٌ كبير وزيْف مُفتَعل، وأنّ التفاضل الأجدر بينهم لا يكون إلاّ بالعمل الصالح وتقوى الله الذي خلقهم، مع التواضع في السّلوك وابتغاء الدار الآخرة، أو كما أعلن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن ذلك في خطبة الوداع يوم عرفة: “أيها النّاس! إنّ ربّكم واحد وإنّ أباكم واحد، كلّكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله اتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى”. ولا ريب أنها رسالة للعالمين جميعاً وليست للمسلمين وحدهم.
إنها رسالة يُدرِك مغزاها مَن أقبلوا على الله تعالى قاصدين أوّل بيت وُضع للناس، متجرِّدين بهذا من شعارات ترتفع في أوطانهم وبرامج تعلو في بيئاتهم. كان من هؤلاء “مالكوم إكس” الذي وقف، خلال رحلة الحج التي قام بها عام 1964، على المعالجة الإسلامية الواقعية لمعضلة التمايُز بين البشر في الألوان بعد أن صعدت في موطنه الأمريكي عنصريةٌ سمراء ردّاً على عنصرية بيضاء. أعادت معايشته الفريدة مناسك الحجّ إنتاج نظرة “الحاج مالك الشباز” للعالم، كما تسمّى “مالكوم” بعدها. وقف القيادي الأمريكي الأسمر مشدوهاً إزاء كل أولئك الحجاج الذين “جاؤوا من شتى أنحاء العالم، ومن كل الألوان، من الشقر ذوي العيون الزرقاء إلى الأفارقة ذوي البشرة السوداء، لكننا جميعاً كنا نؤدي المناسك ذاتها، بروح من الوحدة والأخوة”، كما كتب في مذكّراته.
إنه الحجّ الذي يحتفي بهذا التواصل الإنساني الحميد، المتحرِّر من التحيّزات الأرضية والمتألِّق بالإيمان العُلوِي ونشدان الجنة الفسيحة. ولنا أن نتصوّر آدم وزوجه في إطلالتهما على هذا المشهد الحافل على تنوّع ذريّتهما في الألسنة والألوان، وهو تنوّع لم يَحُل دون اجتماع بني آدم على صعيد واحد يدعون ربّاً واحداً ويرجون الجنة.
يُحبِط الحجّ نزعاتٍ قومية أو سلالية أو تفضيلية عرفتها أديانٌ ومعتقداتٌ ومذاهبُ وفلسفات عبر التاريخ؛ مارست التعالي الماكر على بقية البشر باسم الدِّين والمعتقد والثقافة والقيم والإنجاز، فالحج رسالة للناس جميعاً، وليس في الإسلام تفضيل لقوْم على مَن سواهم كما لا يقتصر على مخاطبة إثنية معيّنة دون غيرها، ولا مجال فيه لمزاعم من قبيل “شعب الله المختار” التي تتذاكى في محاولة مصادرة الربّ لقوم بعينهم – سبحانه وتعالى عمّا يصفون – كي يصير قوم دون سواهم فوق البشر أو كي يبرِّروا استعلاءهم وغطرستهم، فهذه مكانة جديرة بالنّاس كافة الذين كرّمهم الله تعالى على الخلائق جميعاً بالعقل والاصطفاء وعمارة الأرض.
تتجلّى في الحجّ مفاهيم ومبادئ وقيَم سامية يتمثّلها الإنسان الذي يمضي على خطى النبوة في المشاعر المقدّسة. فأعلاها الإيمان والتوحيد بما ينسجم مع الغاية من الخلق والمغزى من الوجود؛ مع انفتاح العقل والقلب على إدراك الدنيا والآخرة. وفي الحجّ تجديدٌ للإيمان وتكثيفٌ للعبادة بما أهّله لمرتبة الركن الخامس في الإسلام، وهو تجربة حياتية لا تعدلها تجربة؛ تتأسّس على التطهُّر والتجرّد ونبْذ العلوّ والتمايز، كما أنه مدرسة تربوية واختبار قيمي بما يتطلّبه من بذل وإنفاق وتضحية وصبر واحتمال ومجالدة، وبما يوجِّه إليه من الزّهد والتواضع ونكران الذات والانخراط في الجماعة.
إنّه موْسِمٌ مُشبّع بطاقةٍ روحية هائلة وفيْض قيميّ لا ينضب، وهو عبادة جماعية تجسِّد وَحدة الحال وتستحضر مفهوم الأمّة وتوثِّق عُراها وتربط أطرافها؛ كما تنسج أواصر عالمية بين البشر إذ يحتشدون في موقف أممي لا نظير له ويطوفون في انسجام بالبيت الحرام الذي جعله الله قياماً للنّاس. وما يعزِّز عالمية الموسم أنّ الحجيج لا ينقطعون فيه عمّا يخالج وجدان شعوبهم ومجتمعاتهم على تنوّع بيئاتها وافتراق سِماتها، فيوم عرفة يُسّنّ للمسلمين صيامُه استباقاً لأيّام عيد الأضحى عبر المعمورة. حُقّ للإنسان في رحلة الحجّ التي قد لا تتكرّر سوى مرّة واحدة في حياته؛ أن يستشعر التجرّد والتضحية والصبر واحتمال المشاق لأجل ما يستأهل ويستحقّ بجدارة، مع التحرّر من ثقافة الاستهلاك الجامحة، وأداء المناسك بمساواةٍ وتكافؤ وتآخٍ ومعايشة بين الناس بالمعروف.
وفي الحج مواقف عملية تفيض بعظات مشهودة ورمزيّات مُلهِمة؛ منها سعي المُحرِمين بين الصفا والمروة، أسوةً بأمّ رؤوم سعت في الموضع ذاته وهي ذاهلة بحثاً عن ماء تسقي به صغيرها الذي أعياه العطش. يُسرِع الجميع في المسعى على خطاها، وفي هذا تكريم لأمهات الأرض جميعاً، ويتضلّع الحجيج من ماء زمزم الذي ارتوى منه إسماعيل وأمّه هاجر بعد أن قرّت عينها بنجاة وليدها. وفي المناسك استحضارٌ لمناقب أسرة إبراهيم عليه السلام، الأب والأم والابن، وهي رسالة مهمّة في زمن تفكّك الأسرة وتقويضها تحت وطأة الحداثة المتأخِّرة ومعاول ما بعد الحداثة. وفي المناسك تجديدٌ للعهد بمواقف هذه الأسرة النبوية الشجاعة التي يحرِّكها إيمانٌ عميق لا تزحزحه غوايةٌ لا تنفكّ عن مطاردة البشر. يحاكي الحجيج في رمي الجمرات الموقفَ الإبراهيميّ الأوّل في مواجهة الغواية، وقد ينبري بعضهم لإظهار انتصار إرادة المؤمنين على الشيطان وجاهزيّتهم لمواجهة أحابيله، ومنهم مَن يندفعون إلى تصفية حسابات متراكمة معه بحماسة ظاهرة في الرّمي والتسديد.
يشهد الحجّ على تواصل الرسالات، فقد نبعت أساساً برسالة التوحيد من مشكاة واحدة، وتهوي ملايين الأفئدة كلّ عام إلى البلد الحرام استجابة لدعوة أبي الأنبياء كما أوردها القرآن الكريم. وفي الأضاحي والهدي ربط بسنّة إبراهيم عليه السلام، ومن وجوهها أنها التزام اجتماعي أيضاً يُخرج الصّلاح من نطاق الفرد ليَفيء على مجتمعه والنّاس؛ بعد أن يجعله قرباناً لله وحده. يقتفي الحجيج في المناسك خطى النبوّة التي كان من خواتيم عهد البشر بها في يوم الحجّ الأكبر؛ عندما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم “خطبة الوداع” في جموع غفيرة تجرّدت من إرث الجاهلية وشهدت إكمال الدين وإتمام النعمة.
وإذ يُعين مشهد الحج الأذهان على استذكار وحدة الأصل الإنساني ويطمس الفروق المُفتعلة بين الناس ويزيل الحواجز المصطنعة بين خصائصهم؛ فإنه يهيِّئ أذهان الشعوب والمجتمعات والأفراد لمستقبلٍ منفتح على الحياة الدنيا وما بعدها. فما مِن موقف في الأرض يعادل يوم عرفة في المحاكاة الرمزية للبعث والنشور. يتهيّأ الحاج أو الحاجّة لاستشراف مستقبله الأبعد وتشوّف آتيه المحتوم والاستعداد لما سيكون؛ وإن زاغت عنه الأبصار بفعل انشغال البشر المتأصِّل بلحظتهم العابرة أو بوطأة افتتانهم بزينة الحياة الدنيا وخشيتهم الكامنة من مفارقة دار الفناء.
يفيض مشهد الحج برمزيّات مُوْحِيَة، لكنّ الموسم متحرِّر من سطوة الرّموز ومتجرِّد عن تعقيدات مفتعلة، فالرمز قد يصير – إن أطلق له العنان – واسطة تطغى على المشهد أو وَثناً يُعبَد من دون الله، كما هي خبرات البشر مع العقائد والأديان والأيديولوجيات والأفكار والأساطير المتراكمة. ومِن سطوة الرموز المُفتعلة أن تتطلّب سُلطةً تأويل مختصّة بفكّ طلاسمها وحلّ أحجياتها، فتصير هذه من بعدُ طبقية كهنوتية تجعل رزقها ادِّعاء الوساطة بين البشر وخالقهم عبر أدوار ما أنزل الله بها من سلطان. وممّا تعجز أمم ومجتمعات في عالمنا عن تصوّره اليوم؛ أنّ كل هؤلاء الحجيج من الرجال والنساء المعبِّرين عن الأُسرة الإنسانية العريضة في تنوّع مكوِّناتها واختلاف خصائصها؛ لم يكونوا في أداء مناسك الحجّ بحاجة إلى كهنة أو وسطاء، بل تكفيهم إرشادات عامّة وعلامات طريق أو تطبيقات في هواتفهم الذكية، مع تذكيرهم بمحطّات النسُك الميسّرة ومقتضياتها. فرمزيّات الحجّ واضحة غير معقّدة، وتقوم على تجسيد عملي مبسّط للفكرة بما يستنفر الوجدان من تلقائه ولا يستعصي على الأذهان إدراكه.
لكنّ زيارة واحدة إلى معبد وثني للفلسفات الشرقية أو حتى لدى ولوج كنيسة كاثوليكية مشيدة في أوروبا قبل قرون، مثلاً، مما لا يتيسّر بغير دليل يفكّ رموزاً وفيرة مبثوثة في المكان ويحلّ إشارات منتصبة في الزوايا وشاخصة على الجدران، لمَن أراد أن يفهم المشهد الذي يحتويه، وقد يجد في الكنيسة إرثاً ميثولوجياً إغريقياً ورومانياً وتوراتياً ووثنياً متسلّلاً في ثنايا مشهدها الذي يزعم الانتساب إلى المسيح عليه السلام، وسيدرك أنّ عليه فيها أن يُسلِّم لسلطة أرضية تزعم لذاتها اختصاصاً في الاتصال بالربِّ تعالى. أمّا رمزية المناسك فتتأسّس في الحجّ على التحرّر والتجرّد والتبسيط، وفي الكعبة المشرّفة ذاتها تجريد بصري لسمة الوضوح والخلوّ من التعقيد أو الأسرار الباطنة، وتنسجم تلبية الحجيج مع هذا الطابع السابغ بقولهم “لبيك اللهم لبيك”، في إيجاز للقصد ووضوح للرسالة بلا تعقيدات أو افتعال.
من لا يفقه المعنى والمغزى سيدرك مناسك الحج طقوساً مجرّدة وقد يخطئ فهمها من واقع إسقاطات مسبقة من خبرات خارجها، أو قد يُسيء تأويلها كما فعل قومٌ من قَبْل استسهلوا النظر إلى المناسك من منظور غرائبي أو بمنطق إثني حتى أسقط عليها بعضهم تأويلاً وثنياً بمنطق فجّ يصدِّ عن رسالة الحجّ صدودا. يمنح ركنُ الإسلام الخامس الحياةَ عمقاً زاخراً وأفقاً منفتحاً قد لا يتأتّيان لها بدونه، فالحجّ ميعادٌ مركزي ينبغي أن يُستوفى في حياةِ مَن استطاع إليه سبيلا، وهو يهيِّئ النّاس من هذا الوجه لرحلة الانعتاق إلى الدار الآخرة ومواقف البعث والنّشور، لكنّ هذه التجربة لا تنقطع بالناس تماماً عن دنياهم، ففيها يشهدون أيضاً منافع لهم ومنها يعودون إلى أدوار الحياة وقد شُحِنوا برؤية متجدِّدة وروح متألِّقة وجدّدوا العهد مع الله تعالى، لمن أتمّ منهم الحجّ بقلب سليم.
والحجّ المبرور إيذانٌ ببداية جديدة للحياة بعد أن يتخفّف المُحرِم من أدران الدنيا ويعود إلى دياره كما ولدته أمّه مغفوراً له بإذن ربِّه. ومن شواهد البداية الجديدة التي تتيحها هذه التجربة حلقُ الشّعر أو تقصيرُه في نهاية الإحرام تعبيراً عن التخلُّص ممّا كان؛ وكي يَنْبُت الشعرُ مع استئناف الدورة الجديدة التي يُرجى فيه الصلاح والاستقامة. ومَن لم يستطيعوا الحجّ أو لم يدركوه فإنّهم في حجّ رمزي مع كلِّ صلاة تُقام، فهم في الأذان والإقامة والتكبير على حالٍ يُشبِه التلبية، وفي قبلتهم يتوجّهون نحو المسجد الحرام ليتشكّل اصطفافٌ موضعيّ في كل رقعة يُجتمَع فيها للصلاة مع انتظامٍ كوكبيّ يُلحَظ بمنظور أوسع. وإن كانت مكة المكرمة هي القِبلة؛ فإنّ المصلين، كما الحجيج، يوجِّهون وجوههم وأفئدتهم، بهذا الاجتماع الفريد والانتظام الأخّاذ؛ للذي فطر السماوات والأرض، فالقِبلة ليست معبوداً، وما التزامها إلاّ امتثالٌ لأمره سبحانه تعالى الذي له الرّكوع وله السجود وله الحمد وله الشكر.
صحيح أنّ من خاضوا هذه التجربة الفريدة والعميقة هم من المسلمين والمسلمات حصراً؛ إلاّ أنّ رسالة الحجّ تتعدّاهم إلى الأمم جميعاً، وهي أمم ممثّلة ضمناً في هذا المشهد الحافل. والحجّ استحقاق العبودية لله الواحد الأحد على الناس جميعاً بشرط الإسلام، فهم مدعوّون إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وعبادته مع ما يترتّب على هذا من الامتثال لأوامره ونواهيه، وقد اقترن الحجّ في كتاب الله في آيات عدّة بـ”الناس”، ومنها قوله تعالى(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) آل عمران 97. ففي الحجّ رسائل مرئية ودروس مهمة في متناول البشرية جمعاء، جديرة بالنظر والتأمل والاستلهام وتصويب الوجهة، ولعلّ تجربة الحجّ متاحة للمعايشة الأممية أكثر من أي وقت مضى في زمن قيل إنّ العالم أصبح فيه قرية صغيرة.. وقد تتجلّى مكّة المكرمة للناظرين إلى موسمها الكبير تعبيراً مرئياً عنها.
(المصدر: مدونات الجزيرة)