“لاكاسا دي بابيل” .. المُغامرة المُثيرة التي تُقنعنا بالشُّرور
بقلم عبد المنعم أديب
مسلسل ابن عصره المجنون
مسلسلنا يُعبِّر بدقَّة عن عصر “ما بعد الحداثة”، مسئول بل مصنوع لنشر تلك الثقافة إلى العالَم أجمع. تشعر حين تقف على ما صدَّره المسلسل من أفكار بأنَّ أبطاله سرقوا الأموال وراحوا يثقبون للهروب؛ لا في الأرض بل في أدمغتنا. كي يتسنَّى لهم إبدال أفكارهم بأفكارنا، وشخصيَّاتهم بشخصيَّاتنا.
عَمَدَ المسلسل إلى “قلب الحقائق”؛ وهي سمة عصر “ما بعد الحداثة”؛ والصحيح أنَّه ليس عصر “قلب الحقائق”، بل هو عصر “ليونة الحقيقة”. إلى الحد الذي لا يكون هناك “صواب” أم “خطأ”، “خير” أم “شر”؛ لنْ تسمع بمِثل هذه الثنائيَّات الثابتة في ذهن البشريَّة، بل لن تسمع بفكرة أنَّ الحقيقة ذات وجود فعليّ. وهنا نجد المسلسل يُخطِّط إلى قلب الحقيقة فيكون اللصُّ على صواب، ويكون القابضُ عليه على خطأ.
لا يكتفي بمجرِّد إطلاق هذه الادعاءات، بل يصنع لها عمادًا. فهُم لا يسرقون مال أحد -كما جاء النصُّ على هذا-، بل هُم يطبعون ما ليس مالًا لأحد. وكأنَّه بهذا قد بُرِّئ من ذنبٍ، كما ادَّعى بأنَّه لمْ يفعل إلا فعل الحكومات نفسها. وكأنَّك حين تُحاكي الخطأ تُداويه، لا تزيده زيادةً قاسمةً، وهو يقدِّم هذا وكأنَّه حلُّ السِّحر لتبرئة نفسه، ولتسويغ الخطأ. وفي مُحاورة “البروفيسور” في نهاية المسلسل الأوَّل نسمعه يقول للمُحققة: “تعلَّمتِ رؤية كلِّ شيء بمنظور الصواب والخطأ”. ويقول في المسلسل الآخر: “في هذا العالَم يُوزَن كلُّ شيءٍ وفقًا لميزان بسيط جدًّا: أيُّهُما سيفوز وأيُّهما سيخسر؟!”.
ولعلَّ أسوأ ما في الأمر هنا هو الفكرة نفسها: “فكرة تسويغ الخطأ”. فأنْ يكونَ فعلُ “التسويغ للخطأ” راسخًا في ذهنك هو عين الخطر المُهلِك. ولا يكتفي هذا العصر بإدخال هذه الفكرة، بل يُلحُّ عليها حتى تصير “حقًّا” من حقوق الشخص المُخطئ. ويا لها من هاوية! حين ترى المُدانَ المُخطئَ مُتمسِّكًا بفعله، بل يُواجهك به عيانًا بيانًا، صارخًا في وجهك كأنَّك أنت المُخطئ بإدانتك إيَّاه! .. حقًّا إنَّه عصر الجنون.
ونرى ذلك المعنى في مشهد استجواب المحققة لـ”البروفيسور”؛ حيث يحكي لها قصَّة مرضه ووالده الذي يسرق لينفق عليه، فتُبهتْ هي ويُصيبها الخزي. وبالعموم هذه الفكرة العامَّة من تبرير الخطأ ليست حديثةً، بل هي قديمة جدًّا. اشتُهِرَتْ وعلَتْ في العصر الحديث على يد “المذهب الرُّومانسيّ” في الأدب؛ حيث نجد فيه صورة الداعرة من جهة أنَّها مُجبرة على هذا، وأنَّها ضحيَّة المجتمع، وأنَّ الأصل أنْ ننظر لها وللسارق نظرة التعاطُف لا نظرة الازدراء.
لقد ظهرتْ أيضًا فلسفة “السعي وراء الجمال”؛ بغضِّ النظر عن كون الجميل صحيحًا. نجد هذا في المسلسل الآخر حينما قرَّر “برلين” عندما علِمَ بمرضه المُفضي إلى موته أنْ يمضي في سرقته حتى النهاية؛ فليس من حقِّ أحدٍ أنْ يمنعَ شاعرًا علِمَ أنَّه سيموت من قرض الشِّعر! .. فكما نرى هنا لا فارق بين “جميل صحيح” و”جميل خطأ”، وهذا يعني فلسفيًّا فصل مبدأ الجمال عن المعياريَّة القِيَميَّة، واعتبار الجمال معيارًا في ذاته. وهي فلسفة قديمة ليست وليدة العصر، لكنَّها من القِيَم التي تبنَّاها هذا العصر بشدَّة. ولا ننسى هُنا أنَّ العمل كُلَّه قائم على هذه الفلسفة؛ فما المسلسل إلا رؤيتك لجماليَّات وإتقان السرقة. هذا هو المعنى الأكبر في مُشاهدة هذا المسلسل، وبدونه فكلُّ العناصر عاديَّة وموجودة في بقيَّة الأعمال.
ونأتي أخيرًا على قيمة أخرى للعصر استخدمها المسلسل وعبَّر عنها وهي “العولَمَة” (تعني ببساطة توحيد النموذج العالميّ في إطار واحد). فقد بدأ الحديث عن عَولَمَة تجربة “المُقاومة” التي صنعها “أبطال” السرقة الأولى، والتي جرفتْ العالَم في متابعتها، وصارتْ رمزًا لمقاومة الظلم والتصدِّي للحكومات. ومن هذا المدخل الذي يبدو نبيلًا؛ أدرجوا فكرة من أفكار عصر “ما بعد الحداثة” عن “مُقاومة” الذُّكُوريَّة، لأنَّها صورة من صور الاستبداد ضدَّ المرأة.
ومن هذا المدخل أيضًا أدرجوا “الشذوذ” على أنَّه فكرة “مُقاومة” للتأسيس الفطريّ العاديّ، وما يُسمَّى عندهم بالأفكار البالية، ليقف ضدَّ اضطهاد الجميع الذين يعتبرون الشذوذ مُحرَّمًا وينظرون له نظرة ازدراء. كلُّ هذا وغيره تحت كلمة مِفتاحيَّة هي “المُقاومة”. ثمَّ نجد البروفسير يقول كلمة ذات معنى: “إننا ألهمنا الكثيرين من الناس ليناضلوا معنا .. أصبح كلُّ هؤلاء الآن ضمن فريقنا” .. فكما نرى المعاني لا تُسرَّب إلينا، بل يصرِّحون بها تصريحًا داخل هذا الإطار الدراميّ.
عِشْ حيوانًا ومُتْ كذلك
ومن منظومة القِيَم التي صدَّرها لنا المسلسل فكرة “العيش كحيوان والموت كذلك”. ولعلَّ أبرع وسائل إيصال هذه الثقافة إدخال شخصيَّة “باليرمو” في المسلسل الآخر. وهو شخصٌ بغيضٌ جدًّا؛ جمع به المؤلف والمخرج الكثير من الرذائل دَفعةً واحدةً. وهي شخصيَّة دراميَّة مُفيدة جدًّا بالنسبة للمؤلف؛ فمن خلال سلاطة لسانه، واندفاعه وتهوُّره سرَّب كلَّ ما يريد بمُنتهى الصراحة، تحت هذا الغطاء الدراميّ من صناعة الشخصيَّة. فلمْ يعُد يحتاج إلى موقف ليقول فِكرَه، يكفي أنْ يخُلق مجنونًا واحدًا ليُطلق أفكاره على لسانه طوال الوقت.
ويقابلنا هنا شعار “برلين”: “انتهز اللحظة” ليصوغ الكثير من المعاني في دَفقة صوت واحدة. “برلين” شخصيَّة وجوديَّة من نواحٍ عدَّة، برجماتيَّة في التنفيذ. ودون الدخول في شروح ستطول عن هذا الوصف فهي شخصيَّة تدعونا حقًّا للعيش كحيوانات لا كإنسان سويّ. انتهز اللحظة واكسب كلَّ ما تريده، بغضِّ النظر عن أيَّة ضوابط. ولماذا نسأل عن الضوابط؟! وما هي إلا لحظتنا التي نغتنمها. فكما نراه -ونحن معه- يسطو على أموال الغير بكُلِّ أريحيَّة واطمئنان ولِمَ لا ونحن نعيش تحت فلسفة الحيوانيَّة! .. ومن الظريف أنَّ “برلين” شخصيَّة مُتأنِّقة جدًّا في لباسها وتعبيراتها، يبدو من مظهره أنَّه مرموق وذو تأثير. مِمَّا يُدخل على النظر إعجابًا أوليًّا يُمهِّد التسليم بما يبثُّه.
ويطلعنا المسلسل على بعض القِيَم الظاهرة في الغرب؛ حينما سأل “البروفيسور” “المُحقِّقة” عن علاقتها (يقصد العلاقة الإباحيَّة المُحرَّمة عندنا) مع الغير، فتردُّ: أريد أنْ أسبقها بقضاء ليلةٍ لطيفةٍ ومُشاهدة فيلم أو ارتياد مَقهَى أو غير ذلك من الأمور. انعتْني بالحِشمة إنْ أردتَ” .. فها هي الحِشمة شتيمة وإساءة ورجعيَّة. وللعلم هذا التفكير الذي يطالعنا في أعمالهم لا علاقة له بالكُلّ، ومَن يرَ بعض إنتاج دولنا يشعرْ حقًّا أنَّنا نعيش في ماخور؛ لكنَّها الأعمال التمثيليَّة في كلّ مكان.
ونسمع لشخصيَّة “باليرمو” وهو يفكِّر بغرائزه الحيوانيَّة في علاقة الرجل بالمرأة، ويُحوِّلها إلى أبشع الصور التي يمكن تخيُّلها. فهي علاقة إفراز سُمٍّ من الرجل ذات ضرورة حيويَّة (بيولوجيَّة) وحسب، بعدها لا يُطيق الرجل هذا “الجسد” (يقصد هنا المرأة) وينبذه. فلنتصوَّر أنَّ هذه الرؤية التي لا تستحقُّ إلا الاحتقار، والتي ينأى عنها الحيوان بفطرته تُقال على مسامعنا عَلَنًا، ويسمعها ملايين من شبابنا غير المُؤهَّل لمعرفة الفكرة الزائفة من الفكرة الصحيحة.
وقد حَرَصَ المسلسل على احتقار الزواج والتزهيد فيه كعلاقة واجبة بين الرجل والمرأة.
ومن ذلك اعتبار “الابن أو الابنة” رأسًا نوويَّة تُدمِّر أيَّة علاقة مهما كانت، فالولد الذي يعدُّ نعمةً في نظر الإسلام، هو نقمة وبلاء ونذير شؤم لانتهاء هذه الفترة الشهوانيَّة الحيوانيَّة المحضة، التي لا علاقة لها بأيَّة منظومة قِيَميَّة رفيعة أو مُتعالية. فإذا سمع الشباب والمُشاهدون هذا تحت تأثير الدراما والصورة قد يُفتَن به، لا ينفر منه.
تصدير ثقافة العنف
في هذا المسلسل يظلُّ المُشاهد يستمتع بمظاهر متنوِّعة من العُنف المُصدَّر له. ولنتذكَّر أنَّها عمليَّة سرقة؛ اعتمد فيها السارقون على كافَّة الوسائل التي تضمن وجودهم، والتي جميعها تدور حول مُمارسة العُنف تجاه الآخرين. سواء في ذلك بعض الانفجارات والكثير من طلقات الرصاص، مع أنماط أخرى من العنف العاطفيّ وعمليَّات الابتزاز والإدانة الجبريَّة للآخرين للاشتراك في توزيع الجريمة.
ومن مظاهر تصدير العُنف ثقافةً راسخةً في ذهن المُشاهدين الحثُّ على فعل “الثورة” التي يبثُّها المسلسل في الصدور تجاه أيّ مَظهر وكلّ مَظهر لا ترضى عنه حسب نظرك، لا بعد تأنٍّ ومعرفة لكافَّة ظروف المَثُور عليه. ولنتذكر توجيه “نيروبي” لابنة السفير البريطانيّ التي تُعاني من تنمُّر زملائها بالمدرسة بها؛ وكيف حثَّتها على الثورة الهوجاء الحيوانية العنيفة في إرغام أنوف الجميع لما تريد دون أيَّة معايير حاكمة إلا قدرتُها هي على تنفيذ ما تريده من مكانة.
الكسب السريع في مُجتمع الجنون
مفتاح المسلسل: عِش حياة الرفاه، لكنْ دون تعب. ولك أن تتخيل كمْ سيستجلب هذا الحُلم -الذي يتراءى أمام النظرة العجلى جميلًا بل خلَّابًا- من مشاهدين في أعمار الشباب وفي غيرهم. هذا المسلسل يضغط بشدَّة في تغذية الشقّ الماديّ في نفس الإنسان، ويتقدَّم خطواتٍ عن العادة ليحاول جديًّا “إقناع” المُشاهدين بضرورة هذا الإشباع مهما كان الثمن. لكنَّ الغريب أنَّ المسلسل الذي قدَّم هذه الثقافة لمْ يستطع أنْ يُصدِّرها، بل أظهر أنَّ “حُلم المال” لا يكفي أبدًا لماهيَّة الإنسان. وهذا ما سأذكره الآن:
تقول “نيروبي” لائمةً الرهائن بعدما حاولوا الهرب:
كنت صادقةً معكم، وعدتكم بالأموال كي يكون لما نفعله معنى! .. أنا عطوفة، فإذا تعاملتُ بعطفٍ بَصَقَ العالَمُ في وجهي.
فها هي تبحث عن المعنى وراء المال، ليثبت لنا المسلسل نفسُه أنَّ ما قدَّمه مُخالف للإنسان وفطرته. ثمَّ تصرخ فيهم: “ماذا أفعل لأنال احترامكم؟!” وهي تصرخ وتطلق الرصاص في الهواء.
ويجب على المُشاهدين أنْ يلحظوا أنَّ هؤلاء الأبطال الذين دخلوا ليتكسَّبوا المال السريع دون مجهود، يعتقدون فيه محور منفعتهم وكلَّ حياتهم لم ينتبهوا أنَّ المال الكثير الجمَّ الذي لا نهاية له كان بجوارهم، بل امتلكوه فعلًا، وصار في حوزتهم وإمكانهم. فلمَّا امتلكوا غاية المُنى ونهاية الأَرَب لِمَ راحوا يبحثون عن كلّ شيء إلا المال؟! لِمَ ذهبوا يبحثون عن علاقاتهم من صداقة وزواج ولِمَ راحوا يطرحون هذه أسئلة وجوديَّة عن جدوى ما يفعلون، ولِمَ لمْ يكتفِ كلٌّ منهم بما حوله من مال وما أحرزه؟ ولِمَ رأينا المال في المسلسل أهون الأشياء يُدعس بالأحذية ويُلقى به من النوافذ ويُعامل كأوراق المِرحاض؟!
الإجابة بسيطة كلَّ البساطة وهي أنَّ الإنسان في حقيقته يحتاج إلى المال لسدِّ الحاجة، كما يحتاج ويفتقر إلى أشياء أخرى كثيرة. يظنُّ في المال أنَّه الهدف ثمَّ لمَّا يصل إلى درجة التشبُّع منه أو يدركه ويجده تحت مُكنته يزهد فيه، ويستعد للتضحية به، بل قد يصير أهون الأشياء على نفسه، بعد أنْ كانت أعلى قِمَم آماله. وبهذا ندرك أنْ ليس إشباع الإنسان رغباتِه هدفًا في الأصل، بل يتبدَّى أمامَنا أنَّ الإنسان يظلُّ مُفتقرًا لشيء لا تسدُّه ماديَّات الدُّنيا ولا تلك الرُّوحانيَّة التي قد تصنعها علاقات الإنسان بأخيه الإنسان (المقصود هنا كلّ العلاقات الودِّيَّة).
تلك الحاجة هي حاجته إلى “الله” وافتقاره إلى شعور “العبوديَّة” والتواضع حين يملُّ من هذا العُنفوان الزائف الذي يستولي عليه. وسبحان الله العظيم إذ قرَّرَ هذا المعنى في كلّ خطابه، لكنَّ أكثر الناس يغفلون.
مرحبًا بالشذوذ وأهله
وبالقطع كان من مركزيَّات المسلسل النشر لقضيَّة الشذوذ، وإقراره حقًّا للجميع، بل كاد أنْ يرسمه فرضًا على الجميع. وحقيقة الأمر أنَّ المسلسل الأوَّل لمْ يكُن مُغاليًا في ذلك الجانب، واكتفى بإشارات عن شذوذ شخصيَّة “هلسنكي”؛ ذلك الصِّربيّ المُقاتل (وهنا نذكِّر أنَّ الصرب كانوا يقاتلون المُسلمين) اختاروه رجلًا فحلًا قويًّا تُظهر هيئته رجولة وعنفوانًا. فإذا حلَّ علينا المسلسل الآخر بقيادة “نتفلكس” وجدنا أنَّ قيمته الأولى هي الشذوذ، وقضيَّته هي الترويج له.
يقول “باليرمو” البغيض صراحةً: “الجنس المِثليّ (يقصد الشذوذ، لكنَّه التعبير المُنمَّق لهذا الفُحش العظيم) أفضل الأنواع لعدم وجود نساء فيه”!! .. ثمَّ نرى المسلسل يضرب القِيَم الثابتة ضربةً عنيفةً؛ فيُصوِّر لنا الشذوذ بصورة العلاقة الودِّيَّة بين الناس، ويربط بينه وبين فكرة الأخوَّة، والزمالة، والصداقة. وهنا نصل إلى مرحلة انسياح القِيَم وذوبانها بعضها في بعض؛ فبعد أنْ قرَّرنا الشذوذ بوصفه صورةً نحاول أنْ نُشرعَنها -أيْ نضعها في صورة شرعيَّة-، نصل إلى إضفاء قِيَم نبيلة عليها، ونطلق على أفحش أفعال الأرض وألعنها أوصاف السُّمُوّ والنُّبل والرُّقيّ. فيا له من انقلاب عسكريّ مُمنهج على القِيَم!
والمنهج المُراد هو صُنع حالاتٍ دراميَّة، تُولِّدُ المشاعر وتُؤجِّجها؛ فنرى أناسًا يبكون على الشذوذ، ويتفاعلون معه، ويضحُّون من أجله، ويُنفقون فيه أوقاتهم وأعمارهم، ويجعلونه أساسًا للمُشاحنات والمُساجلات. وبذلك يضعونه في حيز التنفيذ في نظر مُشاهديهم. وهذه هي فائدة الدراما وخطورتها في الوقت نفسه. حتى شخصيَّة “هلسنكي” صارتْ أكثر تهتُّكًا وابتذالًا، وميلًا إلى إظهار الشذوذ بالمَظهر دون الفعل في ذلك المسلسل الآخر.
وماذا إنْ كنتَ رجلًا أو أنثى أو لا شيء!
اهتمَّ المسلسل الآخر بقضايا كثيرة تُفرض علينا في هذا العصر، أستطيع أنْ أجمعها لك تحت مظلَّة “تمييع الجِنس”، وضرب ثُنائيَّة “الرَّجُل – الأُنثى” في مَقتل. وتندرج تحت هذه المظلَّة أفكار “النِّسويَّة“، و”تعدُّد الجنس”، و”التحوُّل الجنسيّ”.
فتبدأ مصطلحات جديدة في الظهور بإلحاح في مسلسلنا مثل: التحيُّز الجِنسيّ، التسلُّط الذُّكُوريّ، الجِنسانيَّة، مصطلحات النِّسويَّة ومحيطها. ويبدأ المؤلِّف في تحميل الدراما هذه المعاني؛ وأعظمها شخصيَّة “نيروبي” ومهمة إظهار هذا البُعد النِّسويّ في المسلسل الآخر؛ حيث تتولَّى القيادة على الرجال في العمليَّة، بعد إسماعهم جُملٍ لفلسفة سطوة الأنثى، وانهزام الرجل أمامها. وكأنَّنا في حرب بيولوجيَّة.
وكذا حمَّل شخصيَّة “دنفر” بُعدًا آخر هو “التحيُّز ضدَّ المرأة”؛ لتكون هذه الشخصيَّة مصدرًا لإشعاع هذا الجانب من الاتهام بالتحيُّز الذي يُفضي إلى الجانب الآخر وهو سلطويَّة الأنثى لقهر الرجل. ففور حديث “دنفر” عن عدم رغبة تعريض زوجته “ستوكهولم” (سكرتيرة في المسلسل الأوَّل انضمَّتْ إلى العصابة في المسلسل الآخر) لخطر الدخول في عمليَّة سرقة بنك إسبانيا، نراها تعتبر ذلك تسلُّطًا للذَّكَر وازدراءً، وأنَّ قصده الحقيقيّ هو إعلاء ذُكُوريَّتَه على أنوثتها.
كما ربط المسلسل الآخر ربطًا عميقًا بين الشذوذ الجِنسيّ والدعاية للاضطهاد النساء، وبذلك استطاع تضفير أفكاره وتقديمها وكأنَّها ذات أصول ومبادئ وتستند على شعور حقيقيّ من ظُلم مُجتمعيّ. كلُّ ذلك من دعاوى الفساد الساقطة بنفسها.
وفي الأخير نطالع ظاهرة “التحوُّل الجنسيّ” (أيْ أنْ يتحوَّل الرَّجُل إلى امرأة أو العكس) الذي يريد المسلسل ترسيخ كونه حقًّا، بل يُبالغ في الضغط على منظومة المُشاهدين القِيَميَّة ليُمارس عليها إرهابًا فكريًّا في جانب أيِّ تعبير عن تحوُّل الجنس. ونجد شخصيَّة تدخل في الأحداث فجأةً، لتؤدي دورًا مُؤثِّرًا؛ أقصد هنا صديق “دنفر” الذي كان اسمه “خوانيتو” عندما كان رجُلًا، والذي -أو التي- صار اسمه -أو اسمها- “مانيلا”. ويُمعن المسلسل في تقديم هذا الجانب من خلال رصد استقبال الشخصيَّات لهذا المُتحوِّل، من المعارف إلى الأصدقاء، وصولًا إلى الأب نفسه الذي رأى ابنه صار ابنته.
في النهاية .. انظرْ إلى كمّ هذه الأفكار، واسأل نفسك: هل يمكن طرح كلِّ هذه الأفكار في مسلسل إثارة وتشويق عن سرقة؟! إذا دلَّ ذلك على شيء فإنَّه سيدلُّ على مدى استغلال هذا العمل ونجاحه ليكون منصَّة إطلاق صواريخ فكريَّة وقِيَميَّة لتدمير ما يُخالفه من أفكار وقِيَم. ولا أقول إنَّ المسلسل مُوجَّه إلينا خاصَّةً؛ ولا أقصد بالقطع أنَّه مؤامرة على المسلمين، بل هي مؤامرة على ثقافات الكوكب كلِّه. في ظلِّ ثقافة أوربيَّة تريد أنْ تشجَّ رأسك بالقوى الناعمة (وسائل الثقافة المتعدِّدة) وإنْ رفضت قتلتك برصاصها، ثمَّ هلَّلت: ها قد خلَّصنا العالَم من إرهابيّ!.
المصدر: موقع تبيان