(لا يَأتيهِ البَاطلُ) (9)
تزكية النفس البشرية من أعظم مقاصد القرآن الكريم
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
من مقاصد القرآن الكريم الدعوةُ إلى تزكية النفس البشرية، فلا فلاحَ في الأولى والآخرة إلا بالتزكية، كما قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 ـ 10]. فالنفسُ بفطرتها مستعدةٌ للفجور الذي يدنّسها ويدسّيها، استعدادها للتقوى التي تطهرها وتزكيها، وعلى الإنسان بعقله وإرادته أن يختارَ أيَّ الطريقين: طريق التزكية، أو طريق التدسية، ولا ريبَ أنّه إذا اختار طريق التزكية فقد اختار طريقَ الفلاح، قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [الأعلى: 14].
وقال سبحانه فيمن يأتي ربه يوم القيامة: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 75 ـ 76].
ورسالاتُ الأنبياء جميعاً كان من مقاصدها: الدعوةُ إلى التزكية، ولهذا رأينا موسى عليه السلام يقول لفرعون حين أُرْسِلَ إليه من ربه: ﴿هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 18 ـ 19]. (القرضاوي،2000، ص85)
وكان من الشُّعَبِ الأساسية لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم: التزكيةُ، كما جاء ذلك في أربع آيات من كتاب الله، منها ما جاء في دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للأمة المسلمة الموعودة قال تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيْهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]. ومنها قوله عز وجل: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 151]. وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾[آل عمران: 164]. وقال تعالى: ﴿هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾[الجمعة: 2]. (القرضاوي،2000، ص85)
ولا تتم هذه التزكية إلا بفضل من الله وتوفيقه، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 21].
كما لا بدَّ من جهد الإنسان وجهاده، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [فاطر: 18]. (القرضاوي،2000، ص85)
وقد بين القرآن الكريم أثر العبادات في هذه التزكية، كقوله تعالى في أثر الزكاة: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة: 103].
كما بيّن أثرَ الاداب التي حَثَّ عليها القرآن في هذه التزكية المنشودة للأنفس، قال تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30].
وقال في أدب الاستئذان: ﴿وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ﴾ [النور: 28].
إنّ الأمر الذي لا ريبَ فيه أنّ صلاح الأمم والمجتمعات إنما هو بصلاح أفرادها، وصلاحُ الأفراد إنما هو بصلاح أنفسهم التي بين جنوبهم، وبعبارة أخرى بتزكية هذه الأنفس، حتى تنتقل من «النفس الأمارة بالسوء» إلى «النفس اللوامة»، ثم «النفس المطمئنة»، وهذا يحتاج إلى جهاد، لكنه جهاد غير ضائع، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].(القرضاوي،2000، ص85)
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الإيمان بالقرآن الكريم والكتب السماوية، المكتبة العصرية للطباعة والنشر،1432ه-2011م ص 68-70
يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن العظيم، دار الشروق، القاهرة، 1421ه-2000م
محمد بن أحمد صالح الدوسري، عظمة القرآن الكريم، دار ابن الجوزي، السعودية، 1426ه-2005م