مقالاتمقالات المنتدى

(لا يَأتيهِ البَاطلُ) (3) القرآن الكريم المحفوظ… المعنى والكيفية والآلية

(لا يَأتيهِ البَاطلُ) (3)

القرآن الكريم المحفوظ… المعنى والكيفية والآلية

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

شاء الله سبحانه وتعالى أن ينسخَ الكتب السابقة كلّها وينزّل كتابه الأخير ليبقى في الأرض إلى قيام الساعة، فكان كل رسول من السابقين يرسَلُ إلى قومه خاصة، بينما بُعِثَ الرسول محمد ﷺ إلى البشرية كافة، قال تعالى: ]يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [ [الأعراف: 158]. وقال تعالى: ]وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[ [سبأ: 28].

وكذلك كانت الكتب السابقة تنزل لأقوام معينين، بينما أنزل القرآن للناس كافة، قال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم: 52].

لذلك اقتضت مشيئة الله وحكمته أن ينسخ هذا الكتابُ الشاملُ الكاملُ ما سبقه من الكتب جميعاً، ويهيمن عليها، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ *وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ *أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ *} [المائدة: 48 ـ 50].

فالقرآن الكريم رسالة الله سبحانه وتعالى إلى الناس كافة، نسخ الله به الشرائع السابقة، وجعله مهيمناً عليها، وأمر أهل الشرائع السابقة أن يتّبعوا القرآن الكريم، كما آمنوا بكتبهم السابقة بأمر الله تعالى، فالربّ واحد والآمر واحد، ومن التزم عهد الله وفهم معنى أن يكون اللهُ رباً والمخلوقُ عبداً، عليه أن يسمع ويطيع مسلّما مذعنا لأمره سبحانه وتعالى.

أولاً: القرآن الكريم كتاب إلهي:

أولى خصائص القرآن الكريم، أنّه كتابُ الله تعالى؛ الذي يتضمّنُ كلماته إلى خاتم رسله وأنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، فهو إلهيُّ المصدر: لفظاً ومعنًى، أوحاه الله إلى رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي الجلي، وهو نزول «الرسول الملكي» جبريل عليه السلام على «الرسول البشري» محمد صلى الله عليه وسلم، وليس عن طرق الوحي الآخرى من الإلهام أو النفث في الرّوع، ومن الرؤيا الصادقة أو غيرها.

قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ *} [هود: 1].

وقال سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقرآن مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ *} [النمل: 6].

وقال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} [الإسراء 105].

وقد اقتضت حكمةُ الله تعالى أنْ ينزّله منجماً وفقاً للحوادث؛ ليكونَ أرسخَ في مواجهة المحن والشدائد التي تنزل به وبأصحابه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً *وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا *} [الفرقان: 32 ـ 33].

وحكمة أخرى، وهي أنْ يقرأه الرسول الكريم على المؤمنين به على مهل، وحيث يستوعبونه حفظاً وفهماً وعملاً، كما قال الله عز وجل:{ وقرآنا قرأناه لتقرأه  عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }[الإسراء: 106].

ولكن القرآن عند الله تعالى كتاب معلوم أوله وآخره، مسجَّلٌ في أم الكتاب، أو اللوح المحفوظ، أو الكتاب المكنون، كما صرّحَ بذلك القرآن نفسه: {حم *وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *إِنَّا جَعَلْنَاهُ قرآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *}[الزخرف: 1 ـ 4].

وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قرآن مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} [البروج: 21 ـ 22].

وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقرآن كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ *لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الواقعة: 77 ـ 80].

وأيُّ قارئ للقرآن ـ له عقلٌ وحِسٌّ ـ يستيقن أنّـه ليس كلام بـشر، وأنّـه متميز عن كـلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ الذي يتمثّل في الـحديث النبوي، وإن كـان في ذروة البلاغـة البشرية، وإنّ وجودَ آية قرآنية ضمن حديث نبوي، يجعل لها نوراً خاصاً يحسّ به مَنْ يقرؤها أو يسمعها، ويشعر أنّها ليست من جنس مـا قبلها وما بعدها. [كيف نتعامل مع القرآن الكريم؟ ، د. يوسف القرضاوي ص 21].

ومن روائع ما قال الإمام ابن القيم عن «الخطاب القرآني» قوله في كتابه «التبيان في أقسام القرآن»: تأمّل في خطاب القرآن تجد ملكاً له المُلك كله، وله الحَمْدُ كله، أزمّةُ الأمور كلّها بيده، ومصدرُها منه، وموردُها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافيةٌ من أقطار مملكته، عالماً بما في نفوس عبيده، مطّلعاً على أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، يعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي ويدبر، الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه، لا تتحرك ذرةٌ إلا بإذنه، ولا تسقط ورقةٌ إلاّ بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجّد نفسه، ويحمد نفسه، وينصحُ عباده، ويدلّهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغّبهم فيه، ويحذّرهم ممّا فيه هلاكُهم، ويتعرّف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبّب إليهم بنعمه والائه، يذكرهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذّرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعدّ لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعدّ لهم من العقوبةِ إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في  أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبةُ هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه لصالح أعمالهم وأحسن

أوصافهم، ويذمّ أعداءه بسيّئ أعمالهم، وقبيحِ صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوع الأدلة والبراهين، ويجيبُ على شبه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافهم وحسنها ونعيمها، ويحذّر من دار البوار، ويذكر عذابها وقبحها والامها، ويذكّر عباده بفقرهم إليه، وشدّة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم بغناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغني بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه.

ثانياً ـ القرآن الكريم كتاب محفوظ:

ومن خصائص القرآن أنّه كتابٌ محفوظ، تولّى الله تعالى حفظه بنفسِه، ولم يكل حفظه إلى أحدٍ، كما فعل مع الكتب المقدسة الآخرى. [كيف نتعامل مع القران؟ ص 22].

وقد نوّه الله سبحانه بعظمة القرآن بذكر حفظه قبل نزوله في آيات، منها:

قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ *} [عبس: 11 ـ 16].

وأمّا حفظ الله تعالى للقرآن أثناء نزوله؛ فيدل عليه قوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105].

وأمّا حفظ الله تعالى للقرآن بعد نزوله؛ فيدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر: 9].

والصيغـةُ تـدلُّ على التأكيد من عِدّة أوجهٍ يعرفها دارسو العربية، منها: اسمية الجملة، وتأكيدها بحرف إن، ودخول اللام المؤكدة على الخبر (لحافظون) ولحفظ الله إياه فقد بقي كما هو: طودا أشم، عزيزا لا يقتحم

حِماه، وكل محاولة لتغيير حرف منه مقضيٌّ عليها بالفشل، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ *} [فصلت: 41 ـ 42].

وقد هيأ الله تبارك وتعالى للقرآن العظيم ظروفاً تختلِفُ عن الكتب السابقة فحفظه دونها، ومن ذلك:

1ـ هيّأ أمة قوية في ذاكرتها وحافظتها، ذلك أنَّ العربَ الأوائل في جاهليتهم كانوا متمكنين من ذلك، حيث يَرْوُون ألوفاً من أبيات الشعر من غير تدوين، إنما يعتمدون في ذلك على الحفظ.

2ـ هيّأ للقرآن العظيم سهولةَ الحفظِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} [القمر: 17].

3ـ هيّأ له أمة مستقرة ممكنة في الحفظ والفهم، والأمانة، فكان الحفاظ يحفظونه على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يُتقِنُوا الحفظ، ثم يُدوّنونه بعد ذلك، ويقف عليهم بنفسه في مراجعة ذلك.

4ـ هيّأ له مراجعة النبيِّ صلى الله عليه وسلم له في الملأ الأعلى، حيث كان يحفظُ ما يوحي إليه، ثم يُراجعه على جبريل عليه السلام مرةً كل سنة، وفي السنة الأخيرة من حياته المباركة راجع جبريلُ القرآن كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين.

5ـ بعد الفراغ من تدوينه لم يَعُدْ هناك مجالٌ لعبثِ عابثٍ، وظلَّ الحفّاظُ المتقنون يُراجعون كلَّ نسخةٍ تكتب من المصحف مراجعةً فاحصةً، ولمّا أصبح للمصحف مطابع خاصة، كُونت لجان متخصصة ومتأهلة من كبار حُفاظ العالم الإسلامي، تُراجع وتُدقق كلّ حرف منه قبل أن تأذن بطبعه.

وبهذه الوسائل تحقّق للقرآن العظيم ذلك الحفظُ الذي قدّره الله له منذ الأزل، وهو اللوح المحفوظ، وأنجز وعده الصادق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} [الحجر: 9]. [عظمة القرآن الكريم ص 109].

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” الإيمان بالقرآن الكريم “، للدكتور عليّ محمد الصلابي، واعتمد في كثير من معلوماته على كتاب: “كيف نتعامل مع القرآن الكريم”، للدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله.

المراجع:

  • كيف نتعامل مع القرآن الكريم؟، د. يوسف القرضاوي.
  • عظمة القرآن الكريم، د. محمد الدوسري.
  • الإيمان بالقرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2010م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى