مقالاتمقالات مختارة

لا تطبيع بين ظالم حقود وبين مظلوم مخذول!

لا تطبيع بين ظالم حقود وبين مظلوم مخذول!

بقلم أ. د. عناية الله أسد سبحاني

ويل للعرب! من ذلّ وهوان قد اقترب!

فالتطبيع مع إسرائيل العدوّ شرّ وبلاء، ولن يأتي إلا بالبوار!

ويل للعرب! من فتن تأججت نيرانها بأيدي بعض حكامها وعلمائها!

تأججت نيرانها بأيدي حكّامها الظالمين المجرمين، وعلمائها الطامعين الغافلين!

إن حكّام العرب، العبيد لمن غلب، إن ظهر منهم الخنوع والاستكانة لإسرائيل ولمن ساندها من أعداء الإسلام، فإن شعوبهم الأبيّة المسلمة لن تقبل ذلك، ولن ترضى بخزي لا يزايلها للأبد!

ومن العجب العجاب أن هناك “علماء” باعوا دينهم بعرض من الدنيا، فهم يبرّرون موقف حكامهم المجرمين بكل وقاحة، ويحتجّون بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة وادع يهود المدينة وحالفهم.

وهو المعروف بميثاق المدينة، ولكن ما ميثاق المدينة؟ ومتى كان هذا الميثاق؟

إن ميثاق المدينة لم يكن عهدا بين المسلمين واليهود كما يكون العهد بين قوم وقوم أكفاء، فإن اليهود المجاورين للمدينة كانوا تابعين لحكم أهل المدينة، وما كانت لهم استقلالية في تلك المنطقة.

 وما كان ذلك الميثاق إلا عبارة عن ضوابط صارمة تلزِم اليهود حدودهم، وتقلّم أظفارهم، وتجنّب أهل المدينة كيدهم وشرهم.

وما ضُربت عليهم تلك الضوابط الصارمة إلا لأنهم كانت لهم محاولات غادرة ماكرة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه، حين وصلوا إلى المدينة.

 وهم كانوا معروفين لدى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة.

هم كانوا معروفين بمكرهم وخداعهم، وحقدهم وعداوتهم لله وللرسول. فإنهم وإن كانوا بعيدين من مكة، كانوا على اتصال دائم مع صناديد قريش، وكانوا يهمسون في آذانهم ما يلقي الشيطان في قلوبهم، وكانوا يشجّعونهم على محاربة الله والرسول، وكانوا يعلّمونهم أساليب الحرب الفاجرة ضد الإسلام والمسلمين.

فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة ما كان يأمن كيد هم، وكيد عملائهم، وكان يحسّ خطرا شديدا منهم، فإن المدينة إن كانت تضمّ أفواجا من الأنصار، فقد كانت تضمّ في نفس الوقت عصابات من الأعداء.

وكانت تحيط بها قبائل اليهود من بني قينقاع، ومن بني النضير، ومن بني قريظة، وهم كانوا أشد عداوة، وأشد ضراوة للرسول صلى الله عليه وسلم من كفار قريش، فكانوا يتربصون به، ويكيدون له كيدا، وكانوا يريدون أن يتخطفوه!

فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما كانوا بمأمن منهم، وكانوا منهم في خطر أيّ خطر!

وكان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام أنه كان يقضي الليل ساهرا، لا يكتحل بنوم.

فقد روى الإمام مسلم، قال:

حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، ح وحدثنا محمد بن رمح، أخبرنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، أن عائشة، قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، ليلة، فقال: «ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة» قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: «من هذا؟» قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جاء بك؟» قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام. وفي رواية ابن رمح فقلنا: من هذا؟

    (صحيح مسلم-باب في فضل سعد بن أبي وقاص- رقم:2410)

وما سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة واحدة، بل كان هذا دأبه المستمرّ إلى أن زال الخطر، واستتبّ له الأمر، فقد روت عائشة قالت:

 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما قدم المدينة يسهر من الليل، فقال:

«ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة»

فبينا نحن كذلك، إذ سمعنا صوت السلاح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا؟» قال: أنا سعد، جئت أحرسك، قالت: «ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم» (السنن الكبرى للنسائي- رقم: 8160)

وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إلا حذرا من اليهود وعملاء اليهود القابعين في جوار المدينة، وربما كان صلى الله عليه وسلم في تعب ونصب شديد، فودّ لو يحرسه أحد من أصحابه حتى يأخذ قسطا من الراحة.

وظلّ الأمر هكذا حتى كانت غزوة بدر، وهي غزوة قصمت ظهر قريش، وكسرت شوكتهم، وانتصر فيها المسلمون انتصارا عظيما. وقذف الله الرعب في قلوب من كان بجوار المدينة من قبائل اليهود.

وهناك جمعهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنذرهم وخامة مغبة الخيانة والغدر، وحدّ لهم الحدود، وأملى عليهم تعليمات صارمة ألزمهم بها.

والروايات في بيان ميثاق المدينة فيها اختلاف، وما صحّ السند لإثبات هذه الوثيقة.

لقد ذكرها ابن إسحاق بدون إسناد، وذكر ابن إسحاق لها، ورواية الآخرين عنه، وشيوعها بين كُتَّابِ السيرة لا يكفي لقبولها، ولا يكفي للحكم بصحتها.

  قال ابن إسحاق: “وكتب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كتابًا بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه يهود، وعاهدهم، وأقرّهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمَّد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم … ” وساق المعاهدة.

قال الشيخ الألباني: “هذا مما لا يُعرف صحته… ذكره (ابن إسحاق) هكذا بدون إسناد، فهو معضل.

 (انظر: ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية- د. محمد بن عبد الله العوشن:1/91)

وهناك روايات أخرى عن ميثاق المدينة، وكلها ضعيفة، وهي غير صريحة في أمر التحالف مع اليهود. فالاحتجاج بميثاق المدينة للتطبيع مع إسرائيل احتجاج ساقط، احتجاج بما ليس فيه حجة!

  وإذاً، فالاتفاقيات التي تمّت وتتمّ في هذه الأيام بين العرب وإسرائيل، لا أساس لها، ولا مبرّر لها في الشرع.

وضغث على إبالة أن هذه الاتفاقيات ليست إلا في صالح اليهود المجرمين، وليست إلا لتعطي لمظالمهم الصارخة وجرائمهم البشعة في حق الفلسطينيين وغيرهم شرعيّة دولية، ولتضيّق الخناق على أهل فلسطين.

والاتفاقية إذا كانت بين ظالم حقود، وبين مظلوم مخذول فهي لا تكون لضمان الأمن والسلام للمظلوم المخذول، وإنما تكون مكرا وتحايلا لتعذيبه، وتحطيمه، وتمزيقه، ومحو آثاره!

ولقد احتج بعض العلماء لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بقوله تعالى: [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] (سورة الأنفال:61)

ولكن لا حجة لهم أبداً في هذه الآية، فإن هذه الآية قد سبقها قوله تعالى:

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

أي لا بد من إعداد القوة قبل الجنوح للسلم مع العدوّ.

لا بدّ من إعداد قوة ترهب الأعداء، وتدخل الرعب في قلوبهم، فإن العدو لن يستقيم على العهد إذا لم تكن عند المسلمين قوة ترهبهم، وتدخل الرعب في قلوبهم.

وما جاءت هذه الآية إلا بعد غزوة بدر. وما أدراك ما غزوة بدر؟

غزوة بدر هي التي قصمت ظهور المشركين، وزلزلتهم زلزالا شديدا، حتى تحولت بيوت قريش كلها إلى مآتم باكية صارخة، فهم بكوا قتلى بدر شهرا كاملا، مع أن البكاء على القتلى لم يكن من عاداتهم! وكانوا يقولون بكل عزّ وافتخار:

وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً … إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُوْلُ

يُقَرِّبُ حُبُّ المَوْتِ آجَالنَا لنَا … وَتَكْرَهُهُ آجَالُهُمْ فَتَطُوْلُ

فالجنوح للسلم لا يكون إلا في حالة الغلب والانتصار، وأما إذا كان المسلمون في ضعف ووهن، وكانوا فريسة للأعداء، وكانوا في حالة تشبه شعب أبي طالب فليس أمامهم إلا الصبر والصمود.

فالله، الله! يا حكام العرب! ويا علماء الإسلام! لا تقذفوا أمة الإسلام في تلك المحنة القاسية المخزية، ولا تُـحلّوا قومكم دار البوار، فإنكم موقوفون أمام ربكم لامحالة، وستسألون قريبا عما تفسدون وتجرمون!

إياكم إياكم!! يا حكام العرب! ويا علماء الإسلام! أن تقبلوا الذل والهوان، إن كان في قلوبكم ذرة من إيمان! فالمؤمن ليس من شأنه أن يرضى بالذل والهوان. وتذكروا قوله تعالى:

وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (سورة آل عمران: 139)

ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد!

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى