مقالاتمقالات مختارة

لا أربح الله تجارتكم أيها المطبّعون!

لا أربح الله تجارتكم أيها المطبّعون!

بقلم سلطان بركاني

روى الإمام الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: “إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَك”.. إذا كان من يبيع أو يشتري في بيت من بيوت الله، حقّه أن يواجه بالدّعاء عليه أن تبور تجارته ويبوء بالخسران؛ فكيف لو تعلّق الأمر بالبيع والشّراء في أحد المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرّحال؟ كيف لو كان الأمر متعلّقا بمن يجعل أحد هذه المساجد بضاعة يعرضها للبيع بأبخس الأثمان؟
إنّها إحدى قوارع ونكبات هذا الزّمان، حين أصبح المسجد الأقصى، وأصبحت أرض الإسراء المباركة، سلعة تعرض للبيع بأثمان بخسة في صفقات الخيانة والخذلان.. الوسيط فيها سمسار مختصّ في عقد الصّفقات، وجد ضالّته ومتنفّسا لحقده على الإسلام والمسلمين في ملوك وحكام لديهم كامل الاستعداد ليفدوا عروشهم ويبيعوا قضايا الأمّة بأقلّ الأثمان.. وها هم يخضعون لتهديدات وإغراءات السّمسار الأمريكيّ، وينخرطون في صفقة القرن، ويتداعون لقبض ثمن خيانة قضية فلسطين وتطبيع العلاقات مع العدوّ الصهيونيّ المحتلّ.

أغرى السّمسار الأمريكيّ أمراء الإمارات بصفقة طائرات أصبحت من الجيل القديم، وباستثمارات وتكنولوجيا صهيونيّة! وأغرى أمراءَ البحرين بجذب السياح “الإسرائيليين”، وحماية عرشهم من الحراك الشيعيّ ومن العدوان الإيرانيّ المحتمل، وأمّا النّظام السوداني فقد كانت الصّفقة معه أبخس؛ حين وافق على تطبيع العلاقات مع الصّهاينة، مقابل رفع اسم السودان من قوائم الإرهاب، والاستفادة من مبلغ قدّر بـ335 مليون دولار.. لتبقى الصفقة الأكثر بؤسا وبخسا هي صفقة المخزن المغربي، الذي اندفع إلى التطبيع مع الصّهاينة مقابل اعتراف أمريكي بمغربية الصحراء الغربية!

هكذا هانت قضية فلسطين على أمراء الطّوائف، فوقفوا في طوابير الانتظار، كلّ يرقُب دوره ليوقّع صفقة الخيانة، بثمن ظاهره وعود وأعراض زائلة، تسوّق على أنّها في صالح الشّعوب العربيّة (!) وباطنه غضّ طرفٍ زائغ عن ملكيات وراثية وسكوتٌ مطبق عن قمع الشعوب وهضم الحقوق.

الأمّة لم تستغرب هذه الخيانة التي تواطأ عليها بعض ملوك الطّوائف، بل نظرت إليها على أنّها مرحلة جهرية، توَّجت مرحلة سرية دامت عقودا من التنسيق والتعاون. لكنّها استغربت صمت بعض المحسوبين على العمل الإسلاميّ واستنكرت ولاءهم لمن باعوا فلسطين بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيها من الزاهدين.. لا غرابة أن يبيع فلسطينَ علمانيون متدثرون بدثار الوطنيّة، لا يرقبون في قضايا الأمّة إلاّ ولا ذمّة، لكنّ الغرابة أن يسكت من كانوا ينادون باعتبار القضية الفلسطينية أمّ القضايا.. بعض الإسلاميين من أتباع عقيدة “طاعة ولي الأمر”، رأوا في التطبيع صلحا جائزا شرعا!!! وراحوا يستنجدون بالاستدلالات المعوجّة والأقيسة الفجّة، وبعضهم الآخر نقضوا ما كانوا يتبنّون قبل ذلك من وجوب الإنكار على الحكّام إذا ظهر منهم ما يخالف قطعيات الدّين، وألجمتهم المناصب عن الانتصار لقضية مفصلية لا تقبل المجاملة ولا التدرّج والمرحلية، لأنّها تتعلّق بعقيدة الولاء والبراء، والنّصوص فيها صريحة محكمة، يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ)) (الممتحنة: 1)، ويقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: “من مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام” (رواه الطبراني)، ولا شكّ في أنّ الصهاينة هم أشدّ أهل الأرض ظلما في هذا الزّمان، وتطبيع العلاقات معهم، يعدّ إعانة لهم على ظلمهم.

قد يقول قائل إنّ هذا الذي أقدم عليه حكام وملوك بعض الدول الإسلامية، هو فعلُ المضطرّ في زمن الاستضعاف، وللاستضعاف فقهه، ولكنّ حقيقة الأمر أنّ القضية قضية همم تدنّت، وقضية غيرة لدين الله خلت منها قلوب أولئك الملوك والحكّام، فأزاحوا الانتصار لقضايا الأمّة من قوائم اهتماماتهم، وموقفهم من الإساءة إلى نبيّ الإسلام –عليه الصّلاة والسّلام- خير مثال لذلك، وكلّنا يعلم أنّ الأمر لو تعلّق بما يمسّ أشخاصهم وعروشهم، لرأيناهم يوظّفون كلّ درجات الإنكار والشّجب والتّنديد.

لقد سجّل التاريخ القريب أنّ السُّلطان العثماني عبد الحميد (ت 1918م)، رفض كلّ إغراء وكلّ مساومة على حساب قضية فلسطين، في أيام دبّ فيها الضّعف والوهن في أوصال الدّولة العثمانية، وكان فيها السّلطان أحوج ما يكون إلى صفقات تثبّت ملكه، لكنّه أبى أن يسجّل اسمه في سجّل الخونة ويلقى الله وفي صحيفته خيانة أرض الإسراء، وقد دوّنت سجلات التاريخ بأحرف من عزّ ونور ردّه على مساومات زعيم الصهيونية العالمية “هرتزل”، حيث قال السّلطان مخاطبا نيولنسكي صديق هرتزل: “انصح صديقك هرتزل، ألا يتَّخذ خطواتٍ جديدةً حول هذا الموضوع، لأنِّي لا أستطيع أن أتنازل عن شبرٍ واحدٍ من الأراضي المقدَّسة، لأنَّها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وقد قاتل أسلافي من أجل هذه الأرض، وروَّوها بدمائهم؛ فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإنني لا أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة”.

الأمّة لا تملك وهي ترى ملوك الطّوائف يبيعون فلسطين، إلا أن تدعو عليهم: “لا أربح الله تجارتكم”، وكلّها يقين في الله أنّ هذا الدّعاء مجاب، وأنّ ما حاق بملوك الطوائف في الأندلس حين تآمروا على طليطلة، سيحيق بأحفادهم الذين تآمروا على فلسطين، وأنّى للمتآمرين على أرض التّمكين وأرض المحشر أن يفلح سعيهم، ((وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون)).

(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى