مقالات مختارة

كيف يبني المجتمع منظومته القيمية؟ (1-3)

بقلم د. محمد عيّاش الكبيسي.

لو طلبت من أدنى مطّلع أن يعدد لك بعض الأسماء اللامعة في المجتمع العربي قبل الإسلام فإنك تتوقع منه أن يذكر لك مثلا: عنترة بن شداد وحاتم الطائي وامرأ القيس، ولو فكرنا مليا في مغزى انتشار هذه الأسماء واحتفاظ الذاكرة العربية بها فسنكتشف أن هذه الأسماء لا تعبر عن ذواتها بقدر ما تعبر عن منظومة قيمية مترابطة من ثلاثة أركان: القوة، والسخاء، والفصاحة، هذا يعني أن هذه الأسماء لم يكن لها أن تصعد في سماء ذلك المجتمع لولا احتضان المجتمع نفسه لهذه القيم واتخاذها معايير عادلة ومنضبطة لتقويم السلوك حتى أصبحت جزءا من منظومتهم التربوية بحيث إن كل أم تسعى وتتمنى أن يكون لها ابن يشار إليه بالبنان مثل واحد من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم.

مع مجيء الرسالة الإسلامية وتكوين الأمة الجديدة نرى بروز أسماء أخرى تحمل دلالات أكبر وأوسع، فلو أخذنا من جيل الصحابة مثلا بعض الأسماء اللامعة كالخلفاء الراشدين وحمزة بن عبدالمطلب وخالد بن الوليد وأبي هريرة وابن مسعود، وكل الصحابة نجوم لامعة، ثم لو انتقلنا إلى الأجيال التابعة فسنجد مثلا البخاري ومسلم والأئمة الأربعة وابن حزم والغزالي وابن تيمية وابن خلدون وقادة الأمة الكبار كهارون الرشيد والمعتصم وطارق ابن زياد وصلاح الدين ومحمد الفاتح..إلخ، لوجدنا معاني وقيما جديدة تتناسب مع النقلة الكبيرة التي أحدثها الإسلام، هذه القيم أخذت طابع العمل الجماعي، ومعايير الدولة، وعلاقة السلطة بالمجتمع، والمنظومة العلمية والمعرفية التي يؤسس عليها المجتمع والدولة المنبثقة من هذا المجتمع. نلاحظ في الرموز التي صنعتها معايير المجتمع الإسلامي الجديد أنها رموز عالمية المنشأ ففيهم العربي والفارسي والتركي والكردي والبخاري والأمازيغي، وذلك تبعا لعالمية الإسلام التي استعلى بها على النزعة القبلية والقومية، كما نجدها تتناسب مع حاجة المجتمع في النهضة والعمران والحضارة الصاعدة.

وبمقارنة سريعة مع الواقع الذي نعيشه اليوم فإن الأسماء اللامعة في سمائنا التي تحتل مكان (النجومية) في عقول شبابنا وقلوبهم لا تعبر في الغالب إلا عن أسماء ذات دلالات فنية كالغناء والتمثيل أو دلالات رياضية! بمعنى أن الجانب الترفيهي هو المسيطر على توجهات الشباب، وإذا اتجهنا إلى الشباب المتدين خاصة فبالتأكيد سنجد أسماء مختلفة لكنها في الغالب ذات طابع وعظي وشعبي بعيد إلى حد كبير عن لغة التأصيل العلمي الرصين والعمق الفكري الدقيق، ومن الناحية النفسية فهذا قد لا يختلف كثيرا عن النوع الأول، فكلاهما يبحث عن الراحة القريبة وإن اختلفت أسبابها ومظاهرها.

في معرض الدوحة للكتاب المقام حاليا كان واحد من أصحاب النشر المعروفة يحدثنا أن أغلب الكتب الرائجة التي تحظى باهتمام القراء هي كتب القصص والروايات، وهذا مؤشر آخر على المزاج العام ونظرته إلى العلوم والمعارف، فضلا عن تلك المجالات التي تتطلب قدرا أكبر من الجهد والتضحية.

إن ناقوس الخطر الذي كان على قادة الرأي فينا وأصحاب القرار في المؤسسات الرسمية والمجتمعية أن يسمعوه هو هذا قبل أي شيء آخر، ومن هنا ينبغي أن تبدأ الخطوات الأولى للإصلاح.

(العرب القطرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى