مقالاتمقالات مختارة

كيف نعالج الفتور وننشط للعشر الأواخر؟

بقلم محمد إلهامي – مدونات الجزيرة

أحسن ما سمعت في هذا الأمر كان كلام شيخنا الكبير الأسير البصير حازم أبو إسماعيل، فقد قال -فك الله أسره ومتعنا به- أن علاج الفتور ليس في مجرد الضغط والمجاهدة، وإنما مفتاح العلاج في رفع درجة الاستعداد القلبي للعبادة، ذلك أن القلب الذي يشعر بالفتور لا يفلح معه كثيرا الضغط عليه بالمزيد من عبادات الجوارح، وإنما يحتاج إلى تدريبات تأهيل.

تدريبات التأهيل هذه تستهدف إيقاظ القلب من مشاغله اليومية المتكررة التي تملك عليه أمره، لا بد أن يأخذ القلب بعض الجرعات التي تنتزعه من حاله هذا إلى حال آخر ليتحول إلى مقبل على العبادة حريص عليها.. كيف ذلك؟

يكون هذا بزيارة المستشفيات، فيها يرى المرء صورة المرضى أصحاب الكرب والألم والمعاناة، فيشهد ما هم فيه من التعب، فيشهد ما هو فيه من النعمة ولذة الصحة والعافية، ويعرف بها حقارة الدنيا ونقصان لذتها، وقرب زوال نعيمها، فالمرض يأتي فجأة، والحوادث تقع فجأة، والحريق يشتعل فجأة.. وما بين لحظة وأخرى تغير حال هؤلاء إلى حال آخر.

 ويكون هذا بحضور الجنازات، وحضور لحظة إنزال القبر، ورؤية الأجساد التي كانت تنطلق حية متحركة وقد صارت جثة، يحملونها ويضعونها ويقلبونها فلا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، لا تملك حتى أن تنطق أو تعترض أو تقاوم أو تعبر عن رغبة، قد ذهب عنها كل شيء، وصارت من أهل الآخرة، انقطع بها العمل وهي الآن في أو منازل المساءلة.. بعد لحظات سيبدأ السؤال والحساب، وبعد قليل سيبدأ الجسد الرقيق المنعم المعطر يعانق التراب ويسرح في أرجائه الدود، وما هي إلا أيام وشهور حتى ينتهي كل شيء، وتصير الروح إما في الجنة أو في النار.

ويكون هذا بزيارة اليتامى، والفقراء، والمحتاجين.. المسح على رأس يتيم، وإسعاد محتاج، وتفريج الكربة عن صاحب الضيق.. في سماع شكاوى الناس وحاجاتهم ينبت شعور الحقيقة، الحقيقة بقيمة هذه الدنيا وقلة شأنها، وأنها تقلب من حال إلى حال، ولا يملك المرء إنقاذ نفسه في الدنيا إلا باللجوء إلى الله، ثم لا يملك إنقاذ نفسه في الآخرة إلا إن زهد في الدنيا وعرف قيمتها ومنزلتها، فلم يتعلق بها ولم يحرص عليها، ولم يبع في سبيلها دينه وأخلاقه.

ويكون هذا بالجلوس إلى بعض الصالحين، ففي بيئة الصالحين اختلاف واسع عن بيئة عموم الناس، هناك قوم يحرصون على العبادة ويجتهدون فيها، يسمعون الآية فتسيل دموعهم، يعظمون شأن القرآن وشأن النبي وشأن العمل الصالح، يتسابقون في الخيرات.. في بيئة الصالحين تنافس من نوع آخر، وأساليب حياة أخرى، منهم من فُتِح عليه في باب العلم فهو يتكلم كأن كتاب الله وسنة نبيه محفوظة في صدره تملأ عليه روحه، ومنهم من فُتِح عليه في باب الإنفاق فهو كالريح المرسلة ينفق بغير حساب، ومنهم من فُتِح عليه في باب الصلاة فهو يحب القيام ويطيل الوقوف حتى تحسبه قد انعزل عن الدنيا وخرج منها، ومنهم من فُتِح عليه في قراءة القرآن فهو عاكف عليه كما يعكف الواحد منا على هاتفه المحمول له في قراءته شغف ولهفة ومتعة، وهكذا.. ثم إن الجلوس مع الصالحين مظنة نزول الرحمات والبركات، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

إن لله تبارك وتعالى ملائكة سَيَّارة (أي: تسير في الأرض) فضلا يتبعون مجالس الذكر فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم، وحَفَّ (أي: أحاط) بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملؤا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل -وهو أعلم بهم- من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك. قال: وماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك جنتك. قال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب. قال: فكيف لو رأوا جنتي؟! قالوا: ويستجيرونك. قال: ومم يستجيرونني؟ قالوا: من نارك يا رب. قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا. قال: فكيف لو رأوا ناري؟! قالوا: ويستغفرونك. قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا. قال: فيقولون: رب فيهم فلان عبد خطَّاء إنما مر فجلس معهم. قال: فيقول: وله غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم“.

والمقصود من إيراد الحديث هو هذه الجملة الأخيرة، أن من جالس الصالحين ولو لحاجة أو غرض شملته الرحمة والمغفرة ببركة جلوسه معهم.

ثم إن كل إنسان يعرف من نفسه ما الذي يؤثر فيه ويحرك نفسه، فمنهم من يؤثر فيه سماع القرآن من شخص بعينه، ومنهم من تحركه خطبة شيخ بعينها، ومنهم من إذا زار أخا له بعينه ذكَّره بالله فيلين قلبه.. وهكذا!

المهم أن الحل الأمثل في إنقاذ القلب وإيقاظه لاغتنام العشر الأواخر لا يكون فحسب بمجرد الضغط بزيادة عبادات الجوارح، بقدر ما يحتاج القلب إلى مثل هذه العبادات التي ترفع من درجة يقظته واستعداده، فيسهل عليه أن يقوه بعبادات الجوارح من صلاة وتلاوة وقرآن وجهاد أيضا!

لا يجب أن يغيب عن البال أبدا أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إنما جاهدوا وفتحو البلاد في العشر الأواخر من رمضان، فلم يكن كل عبادتهم صلاة وصيام وقرآن، بل في هذه العشر الأواخر فُتِحت مكة، وفيها فتحت الأندلس، وفيها تم فتح عمورية، وفيها أوقف زحف المغول في عين جالوت، وفيها فُتِحت بلجراد، وغير ذلك من الفتوحات.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى