كيف نظر علي عزت بيجوفيتش إلى الحرية الإنسانية؟
بقلم أسامة خضراوي
يعرف معجم دليل أكسفورد للفلسفة، الحرية بقوله: “يمكن اعتبار إشكالية الحرية السياسية إشكالية في التوفيق بين قيمة الحرية والقيود التي يبدو أنها تشكل جانبا أساسيا في مجتمع سياسي. ثمة مقاربة بديهية تعين تلك المهمة في طرح حل وسط: يتوجب التضحية بقدر من الحرية، ولكن يجب أن يكون قدرا محدودا. الإشكالية إذن تكمن في موضع رسم الحد الفاصل. ثمة رؤية شهيرة تركن إلى مثل -حقوق الإنسان الأساسية تسمى أحيانا- بالحقوق الطبيعية، وتقترح أنها تشكل الحريات التي يتوجب صونها في أي مجتمع. من الأمثلة المفضلة عليها، الحق في حرية الكلام وحرية التجمع. أو الحق في التعاقد أو الملكية وسيطرة المرء على جسده، ومن ثم الحق في منتجات عمله الخاص، غير أن أية قائمة مثل هذه الحقوق عرضة للجدل، ويصعب العثور على طريقة موضوعية في تحديد هوية حقوق الناس الأساسية”.
وأما قاموس “علم الاجتماع” للدكتور محمد عاطف غيث فيقول في الحرية، أن الاستخدام العام لهذا المصطلح يشير إلى التحرر من القيود التي يفرضها شخصٌ معين على شخصٍ آخر..، ويذكر أن تاريخ هذا المصطلح ينطوي على الكثير من التعريفات بعضها يساير المعنى السابق للحرية..، أما البعض الآخر فإنه يميل إلى القول بأن الحرية في الواقع تتوقف على وجود الظروف أو الفرص الضرورية التي تسمح بتطور ونمو قدرات المرء.
ويُعد كلٌ من هوبز وجون استوارت ميل من بين الذين تناولوا مفهوم الحرية بمعناه الشائع..، فالإنسان الحر في رأي هوبز هو الذي يستطيع أن يفعل ما يريد بإرادته وقدراته..، ويؤكد البعض من ناحيةٍ أُخرى أن الحرية تشير إلى أسلوبٍ مُحدَد في الحياة يتمثل في القيام بالأفعال التي تتطابق مع القانون الأخلاقي أو المنطق، وقد ذهب كارليل في هذا الصدد إلى القول أن الإنسان الحُر حقًا هو الذي يستطيع أن يكتشف الطريق الصحيح وأن يسير عليه. ويُشكل مصطلح (الحرية) في أعمال جرين Green وهيجل Hegel جانبًا رئيسيًا من الفلسفة السياسية، فالحرية الأخلاقية – كما يقول جرين – هي تحديد الإرادة بواسطة العقل…، أما هيجل فأنه يربط الحرية بالدولة..، فالدولة هي الكيان الأخلاقي وهي التي تعمل على تحقق الحرية طالما أن الفرد يجد ذاته من خلال خدمة الدولة.
أما علي عزت بيجوڤيتش يبين على أن الحرية سمة إنسانية أخرى يقوّض من خلالها نظرية التطور البيولوجي المادي، وهي مقدرة الإنسان على الاختيار، أي قضية الحرية (وهنا يظهر أثر «كانت» عليه. وفي هذا الصدد يقر عبد الوهاب المسيري على أن بيجوڤيتش قد عمّق من أطروحة الحرية وطبقها بطريقة ربما لم تخطر على بال الفيلسوف الألماني، ففي عالم الطبيعة-المادة توجد الأشياء وجودًا موضوعيا، خاضعا لقوانين موضوعية صارمة.
فالأرض تدور حول الشمس سواء عرفنا أم لم نعرف، شئنا أم أبينا. ثمة حتمية مادية تسيطر على عالم الحقائق الموضوعية، وهو ما لا يمكن وصفه بالخير أو بالشر، فنحن في هذا العالم لا نفعل ما نريد أن نفعله، بل ما علينا أن نفعله. ثمة جانب فينا خاضع للحتميات المادية، ولكن الإنسان لا يعيش في عالم المادة وحسب، فهناك عالم جواني قوامه الحرية التي تعبر عن نفسها في النوايا والإرادة والشوق والرغبة.
أما خارج الإطار المادي فثمة حيز للإنسان يتحرك فيه بحيث يمكنه الاختيار بين بدائل مختلفة، فيختار ـ مثلا ـ أن يتجاوز البرنامج الطبيعي الحتمي ويقوم بفعل قد يبدو غير عملي وغير مفيد من الناحية المادية، مثل أن يدافع عن كرامته أو يرفض الظلم. والإنسان الذي ينطلق من الرؤية المادية قادر ولا شك على الاختيار والحرية والبذل والعطاء، ولكنه بذلك يكون قد سلك بطريقة تتناقض وماديته المزعومة، فقد تجاوز قوانين المادة. فهو إن ضحى بنفسه من أجل ابنه القعيد ـ مثلا ـ فإنه لا يمكنه إخضاع هذا الفعل للنموذج المادي، وعلينا أن نهنئ هذا المادي على نبله وعظمته التي تجاوز بها منظوره المادي! إذ إنه حين اختار أن يدافع عن ابنه ويحمله قد عبَّر عن شيء عظيم داخله يتجاوز منظومته المادية الواحدية.
إن قضية الخلق (كما يؤكد علي عزت بيجوڤيتش) هي، في الحقيقة، قضية الحرية الإنسانية. فإذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقا ـ إما بقوى مادية داخله أو خارجه ـ لا تكون الألوهية ضرورية في هذه الحالة لتفسير الكون وفهمه. ولكننا إذا سلمنا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة. فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق. الحرية ليست نتيجة ولا نتاجا للتطور، فالحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان. فالله لا ينتج ولا يشيد.. إن الله يخلق!
ويشير عبد الوهاب المسيري في تقديمه على أن الإنسان: “قد ينجح (آجلا أو عاجلا، خلال هذا القرن أو بعد مليون سنة من الحضارة المتصلة) في تشييد صورة مقلدة من نفسه، نوع من الإنسان الآلي أو مسخ، شيء قريب الشبه بصانعه. وهذا المسخ الشبيه بالإنسان لن تكون له حرية، سيكون قادرًا فقط على أن يتحرك في إطار ما بُرمج عليه. وهنا تتجلى عظمة الخلق الإلهي، الذي لا يمكن تكراره أو مقارنته بأي شيء حدث من قبل أو سيحدث من بعد في هذا الكون.
إحساس الإنسان بالخلود يجعله يحاول النظر فيما وراء القبور والبحث المجهد عن طريقة خارج هذا العالم الذي أصبح الإنسان فيه غريبا
في لحظة زمنية من الأبدية، بدأ مخلوق حر في الوجود، بينما لم يكن ممكنا أن يتحول نتيجة التطور (بدون تلك اللمسة الإلهية) إلى الإنسان. إن التطور، بدون تلك اللمسة، كان سينتج ـ على الأرجح ـ حيوانا أكثر تطورًا، حيوانا مثاليا، أو كائنا بجسم إنسان وذكائه، ولكن بدون قلب ولا حياة جُوّانية. ذكاء متحرر من وخز الضمير والأخلاق، وربما كان أكثر كفاءة.. ولكن أشد قسوة في الوقت نفسه”.
“وترتبط بفكرة الخلق الإلهي فكرة الذات الإنسانية. وفي حقيقة الأمر.. كل شيء يمكن اكتشافه في الطبيعة فيما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية. إننا نتصل، فقط من خلال هذه الذات، باللانهائي، ومن خلالها وحسب نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر الذي نتشارك معه في ميراث واحد. الإنسان وحده فقط، يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. وبدون الذات، يستحيل أن يشهد عالم ما وراء الطبيعة، ذلك لأن كل شيء آخر (بجانب ذات الإنسان) هو وجود براني ظاهري. والتأمل استغراق في الذات، محاولة للوصول، واكتشاف لهويتنا وحقيقة حياتنا ووجودنا… والوصول إلى الحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر، هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء: كل شيء بالنسبة للروح، ولا شيء بالنسبة لبقية العالم”.
“وقل الشيء نفسه عن فكرة الخلود والبعث: فإحساس الإنسان بالخلود هو محاولته النظر فيما وراء القبور والبحث المجهد عن طريقة خارج هذا العالم الذي أصبح الإنسان فيه غريبا. وإذا غاب إحساس الإنسان بالخلود فإن الذات المرتبطة باللانهائي تغيب هي أيضا، ولا يبقى سوى المادة والعدم”.
(المصدر: مدونات الجزيرة)