مقالات مختارة

كيف نحكم على الخبر بالصحة أو غيرها؟

بقلم حامد محمد غانم

السنَّة النبويَّة هي المصدر الثاني للتشريع، والسنَّة هي: أقوال، وأفعال، وتقريرات النبيِّ صلى الله عليه وسلم التي نُقلَت إلينا عن طريق الرجال؛ لكنَّ البعض يطعن في صحَّة بعض الأحاديث – ولو كانت في الصحيحين – بزعم أنها تخالِف العقلَ، وهنا يأتي هذا السؤال: السنَّة أخبار نُقلَت إلينا، فكيف نَحكم على الخبر بالصحَّة أو الضعف؟

فنقول وبالله التوفيق:

الخبَر مقابِل الإنشاء، والإنشاء: “ما لا يحتمل الصِّدق والكذب”؛ مثل الأمر والنهي.

والخبر هو: “ما يحتمل الصِّدق والكذب”؛ فالخبر كلام يُنقل إليك عن طريق أحد، وهذا الكلام إمَّا أن يكون صحيحًا صادقًا، أو يكون باطلًا كاذبًا.

فكيف نحكم إذًا على الخبر الذي يُنقل إلينا إن كان صحيحًا أو كاذبًا؟

هنالك ثلاثة طرق، أو مناهج، أو أمور يمكن من خلالها أن نثِق في صحَّة الخبر أو يتبيَّن لنا كذبه.

1- بالحسِّ: وهو أن نشاهد الخبر بأعيننا، أو نسمعه بآذاننا، أو نلمسه بأيدينا.

2- صدق القائل: أن نعلم يقينًا أنَّ ناقِل هذا الخبر ليس كاذبًا، بل من صِفاته أو طبيعته الصدق.

3- بالعقل: أن يَقبل العقلُ هذا الخبر أو يرفضه.

مثال يتضح به المقال:

“لو أن ابنك أخبرك أنه متفوِّق في المدرسة، وقد حصل على أعلى الدرجات”؛ هذا خبَر كيف نتحقَّق من صدقه؟

أولًا: بالحسِّ:

يعني: نأخذ ورقةَ الامتحان، أو ورقة النتيجة، وننظر فيها؛ فإن كان صادقًا تبيَّن لنا، وإلَّا فلا.

ثانيًا: صدق القائل:

فتعرف أن ابنك صادق لا يكذِب، وهو متخلق بهذا الخُلق الجميل، وما جرَّبت عليه كذبًا.

ملحوظة: “من الممكن أن يكذب الصَّادق ولو مرَّة؛ وهذا احتمال، لكن لو طُبِّق هذا المبدأ ما صدَّق أحدٌ أحدًا قط”.

ثالثًا: بالعقل:

وهذا معناه أن تدرِك بعقلك صحَّةَ هذا الخبر أو لا؛ فلو كنت تعلم أن ابنك متفوق في الدراسة، لقَبِل عقلُك حصوله على أعلى الدرجات، ولو كان غير متفوِّق لقلتَ: مستحيل؛ لأنَّ ابني مستواه ضعيف، فكيف حصل على هذه الدرجة، فإما أن يكون كاذبًا، وإمَّا أن هناك أمرًا لا تعرفه.

سؤال: هل دائمًا هذه المناهج صحيحة في الحكم على الأخبار؟ أم من الممكن أن تكذب؟ إذا كان الجواب: نعم، من الممكن أن تكذب أو تخطئ، إذًا يَبقى السؤال: كيف نحكم على الخبَر بالصحَّة أو غيرها؟

نعم من الممكن أن تخطئ هذه المناهج، لكن لا بدَّ لنا من استعمال أحدها في الحكم على الخبر حتى لا يُتَّهم أي أحد بالكذب، وساعتها لا يمكن أن تستمرَّ الحياة ونحن نحكم على كلِّ خبر من كل أحد باحتمال الكذب.

الحكم على الخبر من خلال هذه المناهج:

الخبر إذا جاءك فلا بد أن تحكم عليه بالصحَّة أو الكذب من خلال هذه المناهج؛ فأمَّا المنهج الأول – وهو الحسُّ – فإن الخبر يكون لصاحبه حقَّ يقين، أمَّا لمتلقِّيه فهو علم يقين، وليس حق يقين، فإن صدَّقتَه كان عين يقين، فإن أحسسْتَه كان بالنِّسبة لك أيضًا حقَّ يقين؛ وهذا أمرٌ لا خلاف فيه عند العقلاء.

بقي المنهج الثاني وهو صِدق قائله، وهذه نؤخرها لما بعد العقل.

المنهج الثالث: وهو العقل:

والسؤال: هل العقل يستطيع أن يحكم على الخبر بالصدق أو الكذب دائمًا؛ فما وافق العقل فهو صِدق وما خالفه فهو باطل؟

الجواب المتوقع: نعم، العقل يدرك الخبر الصَّحيح من غيره، وبالتالي يمكِنه أن يحكم على أي خبر، لكن الحق بخِلاف ذلك؛ فالعقل لا يمكن أبدًا أن يحكم على الخبر بالصحَّة أو الخطأ، إلَّا إذا كان الخبر من باب المستحيلات؛ كأن يكون الواحد أكثر من الاثنين، أو الابن أكبر من أبيه؛ هنا فقط يتدخَّل العقل، أمَّا بخلاف المستحيلات فلا يمكن للعقل أن يتدخَّل، ولو تدخل العقل لضلَّ صاحبه.

على سبيل المثال: في قصَّة الإسراء عندما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أهلَ مكَّة أنَّه أُسري به إلى المسجد الأقصى؛ كلُّ مَن أعمل عقله ضلَّ، وكفَر، ولم يصدِّق النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: كيف تزعم أنَّك ذهبتَ إليه وعدتَ في ليلة، ونحن نذهب في شهر ذهابًا، وفي شهر إيابًا؟!

إذًا، العقل لم يقبل هذا الخبر، لكن الإيمان بصِدق محمد صلى الله عليه وسلم قبلَه؛ لذلك أعلَنها أبو بكر مدوية في آذان الدنيا كلها: “إن كان قال فقد صدَق”.

وهنا يأتي سؤال آخَر في غاية الأهميَّة والخطورة لكلِّ مَن يحكم على أخبار السنَّة بعقله – هل ما خالف العقل تردُّه ولا تؤمن به، أم أنَّ هناك أمورًا تخالِف العقل ومع ذلك تؤمِن بها وتصدقها؟ أقول: انتبه جيِّدًا للجواب، إن قلتَ: نعم، كلُّ ما خالف العقل نرفضه، فقد كفَرتَ، وخرجتَ من الإسلام، وإن قلت: لا، بل هناك أمور تخالِف العقل وأنا أؤمن بها فقد خالفتَ منهجك في تحكيم العقل على الأخبار.

فهناك عشرات الآيات التي تخالف العقل، فهل تردُّون الآيات التي تخالف العقل أم تقبلونها؟ فإن كنتم تردُّونها فاذهبوا غيرَ مأسوف عليكم، وإن كنتم تقبلونها فلماذا تقبلونها وهي في نظركم تخالِف العقل!

إن قلتم: نقبلها لأنَّ الله هو الذي قال، فنقول: ونحن نقبَل الأحاديث لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال، وهو لا ينطق عن الهوى.

فعلى سبيل المثال:

– هل يَقبل العقل أن يذهَب الرسولُ صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثمَّ يعود في جزء يسير من الليل؟

– هل يقبل العقل أن يَنتقل عرشٌ من سبأ في اليمن إلى الشام في أقل من لمح البصر؟!

– هل يقبل العقل أن تنزل مائدةٌ من السَّماء عليها أصناف من الطعام؟!

– هل يقبل عقل أن يُقتل غلام لا ذنب له لأنه في المستقبل سيكون كافرًا؟!

– هل يقبل العقل أن النَّار لا تحرق مَن يُلقى فيها فيخرج سالمًا؟!

– هل يقبل العقل أنَّ العصا تتحوَّل إلى حية تأكل ما يعترض طريقها؟!

– هل يقبل العقل أن تكون صلاة الصبح ركعتين والظهر أربعًا والمغرب ثلاث ركعات، ما الحكمة في ذلك؟

– هل يقبل العقل كلَّ ذلك؟

بالطَّبع لو تدخَّلنا فيما لا تفقهه عقولنا لرددنا القرآن، ولكن أمام كل هذا لا يملِك الإنسان إلَّا أن يقول: صدق الله، ومَن أصدق من الله قيلًا، والله على كلِّ شيء قدير.

ونحن نقول: صدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فالذي أَنزل عليه القرآن هو الذي أَوحى إليه بهذه السنَّة.

فالذي أسرى برسولِه هو الذي عرج به إلى السَّماء، والذي شقَّ البحر لموسى هو الذي شق القمر لمحمَّد، والذي أنزل المائدة لعيسى هو الذي كثَّر الطعامَ بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أمر الحجرَ فانفجر بالماء لموسى هو الذي جعَل الماءَ ينبع من بين أصابع محمد صلى الله عليه وسلم.

فكما نقبل هذه الآيات مع مخالفَتِها في الظاهر للعقل، كذلك نقبل هذه الأحاديث مع مخالفتها في الظاهر لبعض العقول.

إذًا؛ بقي المنهج الثالث في الحكم على الخبر، وهو صدق القائل؛ فالعبرة في الأخبار بصِدق قائلها، وضبطِه وإتقانه فيما يَنقل، فنحن صدَّقنا الآيات مع أنها تخالف العقل؛ لأنَّ الله هو الذي قال، وكذلك نقبَل الأحاديثَ وإن كانت تخالِف العقلَ؛ لأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال، ونقولها مدوية كما قالها أبو بكر مِن قبل: “إن كان قال فقد صدَق”، وما دامت العِبرة بصِدق القائل وضبطه فهذه هي الشُّروط التي وضعها المحدِّثون من قديمٍ لقبول الخبر؛ وهذا هو المنهج العلمي الصحيح.

أمَّا هؤلاء الذين ينكِرون السنَّةَ فليس عندهم منهج إلَّا اتِّباع الهوى، واتباع عقولهم القاصرة، وقد ردَدنا على هذه النقطة، فلم يعد أمامنا في تصديق الخبر إلَّا منهج أهل الحديث، فالزموا منهجَهم يصلِح الله أعمالكم، وصدق عمر بن الخطاب حين قال: “إيَّاكم وأصحابَ الرأي؛ فإنَّهم أعداء السنَن، أعيَتهم أحاديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفَظوها فقالوا بالرَّأي، فضلُّوا وأضلوا”[1].

—————————————

[1] سنن الدارقطني، كتاب النوادر (4/ 83)، طبعة: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الثانية 1424هـ 2002م.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى