بقلم د. محمد أكرم الندوي
قضيت في العام الماضي عشرة أيام في أرض الأندلس مع مجموعة من الطلاب ملقيًا عليهم دروسًا من التفسير والحديث والتزكية والتاريخ، وزائرا بهم معالم التأريخ الإسلامي وآثاره المتبقية، وكتبت ذكرياتي وانطباعاتي عنها في صورة مقالات، نشرتها دار المقتبس ببيروت باسم رحلة الأندلس، وزرتها هذا العام (28-مارس 7 أبريل 2018م) مرة أخرى مقيما في القرية دي روزيلس، أي قرية الورود، شمال غرناطة، التي أقمنا فيها سابقا، وواعدني صاحبها الشيخ عبد الصمد روميرو أن ينسق لي مقابلة مع بعض المسلمين المنحدرين من أصل عربي إسلامي، والذين يسمون الموريسكيين، أي المسلمين الأصاغر.
مما أشيع من قبل السلطات الأسبانية أنه لم يبق مسلم على أرض أسبانيا بعد القرن السابع عشر الميلادي، والواقع أنه ما زال بها عدد لا بأس به من الموريسكيين، يحافظ على دينه تحت الأنفاق والسرادب في داخل البيوت أو في كهوف في الجبال، في حال من خوف شديد وذعر مستول على النفوس، متعرضين لمظالم محاكم التفتيش، كما أن ثمة تقاليد دينية وعربية، استمرت في بيوتات الموريسكيين تذكرهم بأصلهم. إن ما وصل إلينا من أخبار المسلمين المضطهدين المقهورين في الأندلس أقل مما انقطع واندثر، وكذلك ما ضاع من مآسيهم النكدة ودواهيهم المؤلمة أكثر مما وعته الصدور أو حفظته بطون الأوراق، ولو أن باحثين مسلمين مخلصين بذلوا وقتهم في استقصاء تلك الأخبار والمآسي من خلال الوثائق أو من الذكريات المتوارثة في العائلات والأسر لظهرت لنا عجائب ولتغيرت رؤيتنا نحو تأريخ الموريسكيين.
وإن نفسي لتوّاقة إلى استكشاف أحوال أولئك المضطهدين المختفية مهتمة بها وسابرة أغوارها، وفرح الشيخ عبد الصمد لما رأى حرصي على استطلاع هذا التاريخ وحنيني إليه، واصطحبني في الساعة الرابعة ظهرا رابع شهر أبريل في سيارته إلى قرية كانيلاس إحدى قرى الموريسكيين على مسافة ستين كلومترا في اتجاه غرناطة، مررنا في الطريق ببعض الجبال في منطقة شقورة وما حولها، فيها منازل كثيرة منحوتة في الصخور، مبانيها مختفية في داخلها حجرها ومرافقها، ولا يبدو منها إلا أبوابها ونوافذها ومداخلها، بعضها خالية مقفرة، وبعضها معمورة أعيد بناؤها يسكنها الموريسكيون أو غيرهم ممن اشتراها منهم، وقد جذبتني تلك البيوت إليها أستعيد الشدائد التي لاقاها عمارها في نحتها وتشييدها، ثم الإقامة بها وهم في ترقب دائم من أن تقع عليهم عيون أعدائهم الحاقدين أو أن تصل إليهم أيدي محاكم التفتيش الملطخة بدماء الأبرياء.
ومررنا بمزارع وحدائق وبساتين، تربطها شبكة من القنوات المائية من السواقي والنواعير والبرك، ظاهرة فيها أشجار الزيتون والبرتقال، وبعض الخضراوات والفواكه، ولا تزال أكثرها بأيدي الموريسكيين، وبدت لنا حمامات عربية قديمة، فيها مياه معدنية، تسمى حمامات ابن الخطيب، وكانت أرض الأندلس ذات حمامات عربية كثيرة متطورة، دمّر النصارى أكثرها لمنع المسلمين من الوضوء والغسل، وقد بقيت بعضها إلى يومنا هذا، وتستجلب عددا كبيرا من السياح.
وصلنا إلى منزل مسلم عربي أندلسي في قرية كانيلاس في الساعة الخامسة، ونزلنا من السيارة فإذا شيخ في الستينيات من عمره ذو لحية، وعلى رأسه طاقية، يستقبلنا، سلمَّنا عليه، فرد علينا السلام وعانَقَنا عناقا طويلا حارًّا، والمسرة منبثقة من وجهه وهيئته، واسمه عبد الرحمن رفائل بريتونس، وبجانب منزله لوحتان صغيرتان على جدار الفناء منقوش عليهما “لا غالب إلا الله”، ودخلنا في البيت فاستقبلتنا زوجته، واسمها ليلى، وهي امرأة عجوز ومع ذلك فهي ساترة لرأسها وسائر جسدها، لائحة عليها سيماء الصلاح والعفاف، وعليها براءة عجيبة من الطهارة والبساطة وصدق الإيمان والإخلاص، ولهما ولدان، أكبرهما لم يسلم بعد، وأصغرهما مسلم ملتزم اسمه عمر، وهو خارج لشغله، وبعد قليل نزل الأكبر، حيَّانا تحية وصافحنا مصافحة صفاء ومودة، وأنس بنا كثيرًا، منبسطا إلينا ومتجاذبًا معنا أطراف الحديث، وذكر لنا أن الذي منعه من الإسلام أن أصدقاءه غير مسلمين، وأنهم يستمتعون بالحياة استمتاع الشباب الأوربيين بها، فأراد أن يوافق هواهم، وقال: لكنه الآن يرغب في الإسلام، وسيعتنقه قريبا، ففرحنا جدا، وفقه الله للاهتداء وثبتنا على دينه، ويسر لنا الاستقامة على صراطه السوي، وختم لنا بالخير وأدخلنا الجنة، آمين يا رب العالمين.
جلسنا في البيت، فسألَنا الشيخ عبد الرحمن عما إذا كنا نرغب في أخذ الشاي أو القهوة، واتفقنا أخيرا على الشاي، فنهض الشيخ ليصنعه، ودخل المطبخ، فقالت لنا زوجته الست ليلى: عبد الرحمن أحسن منها صنعا للشاي، وهي أحسن منه طبخًا للحلويات والقهوة، وقطف عبد الرحمن أوراقا من النعناع الطازج من حديقته، يزيد بها الشاي نكهة، وجلسنا نتحساه، متحاورين مستجلين حقيقة استمرار الإسلام في أسرته وفي تلك القرية رغم ما صبّ عليها من المصائب التي تشيب لها النواصي.
ذكر لنا الشيخ عبد الرحمن أن في القرية نحو ثمانمائة بيت للمورسكيين، أي يسكنها نحو خمسة آلاف موريسكي، وكانت منازلهم في الجبل، وكيف أنهم حافظوا على دينهم، وأن الكلمات العربية لا تزال منتشرة متداولة في لغتهم، فمثلا يستعملون كلمات الصلاة والصيام والزكاة والحج، والبِرْكة (أي حوض الماء)، والساقية، والناعورة، والقنطرة، والحمار وما إلى ذلك من مئات الكلمات العربية التي صارت جزءًا من اللغة الأسبانية.
وأفادنا أن لهم الآن مسجدين في القرية، يشهدهما الناس في عدد كبير جدا، ولا يسع المسجدان الحضور لصلاة الجمعة فيؤدي كثير من الناس صلواتهم في الشوارع، وأعرب عن حزنه وأساه أن المساجد من العهد الإسلامي لا تزال باقية في شكلها ومحاريبها واتجاهها نحو القبلة، مستعملة كنائس، وذلك الوضع في كل مكان زرناه في الأندلس أو مررنا به، فكم من المساجد الكبيرة الفخمة والصغيرة المتواضعة حوّلت إلى كنائس، أعادها الله مساجد كما كانت، والناس هنا متفائلون أنها ستعود مساجد إن شاء الله تعالى.
ومما ذكره الشيخ عبد الرحمن أن أهل القرية بنوا أيام محاكم التفتيش مسجدا في أعلى قمة من الجبل مختفيا عن أعين الناس يقع على بعد عشرة كلومترات من القرية، كانوا يترددون إليه للصلاة، ولا يزالون يصلون فيه إلى يومنا هذا.
وحكى لنا الشيخ عبد الرحمن كيف حافظ أبوه على الوضوء والصلاة، والذي تعلمه من أبيه، وكذلك حافظ كثير من المريسكيين على بعض شعائر دينهم رغم جميع الاضطهادات والقتل والتحريق والتشريد وأنواع من التعذيب وقد مضى على سقوط غرناطة خمسة قرون، وإن افترضنا في كل قرن ثلاثة أجيال، فمعنى ذلك أن المسلمين ظلوا محافظين على شعائر دينهم طوال خمسة عشر جيلا، ولا شك أن توارثهم لهذه الشعائر أبًا عن جد وتواصيهم بها صورة لامعة من صور الثبات على الحق رغم امتداد زمن التنكيل والبطش والفتك الشديد، قال محمد بن داود وهو من الأندلسيين الشاهدين للأحداث المخزية: “كل يوم نسام سوء العذاب، ولا حيلة لنا سوى المصانعة حتى ينقذنا الموت مما هو شر وأدهى، وقد حكّموا فينا اليهود الذين لا عهد لهم… ونرغم على مزاولة الشعائر النصرانية وعبادة الصور، ويظلمنا القضاة، وتهشم أوصال فرائس الأجساد، ثم تحمل إلى الميدان لتحرق ويتلذذون بمشاهدتها جماعات جماعات”.
ثم تحدثت لنا الست ليلى عن بيتها والدين فيه، وأن أباها كان من أولياء الله الصالحين، يجتمع الناس في بيته فيتعلمون منه الإيمان والإسلام، وكان لديه مصحف يتداوله الناس، ولا يزال محفوظًا، وذلك قبل الحرية الدينية في أسبانيا، فيتظاهرون بالنصرانية، ويخفون إسلامهم، وكان أبوها قائد هؤلاء المسلمين المستضعفين، فداهمت الشرطة مرة بيته تبحث عنه، وهو في البيت جالس مع أصحابه، والناس كلهم في خوف شديد، ولكن الله تعالى نصره، فلم تقع عين الشرطة عليه رغم بحثها عنه في كل زاوية من زوايا البيت، وكانت نجاته من بطشهم كرامة لا تزال تروى بين الناس.
وشعرت وأنا جالس معهم كأني مع أصدقائي وأحبتي، وبين أهلي وذوي قرابتي، متآنسين ومتآلفين، رافعين عنا كل ستار من غربة أو وحشة، وقال لي الشيخ عبد الرحمن: البيت بيتكم، مرحبا بكم هنا متى شئتم، ورأيتهم مسرورين جدا بوجودي معهم، وقدَّمت الست ليلى قطعا من الكعك إلينا وقد صنعتها بيدها من أجلنا، فتناولناها متلذذين بها، ثم أهدى إلينا الشيخ عبد الرحمن برتقالا من حديقته، وودعناهم في الساعة السادسة والنصف متواعدين أن نلقى قريبا، وأن تتواصل العلاقات بيننا، وسألوني أن أؤلف كتابا عن الموريسكيين المتبقين وتاريخ اضطهاداتهم وتضحياتهم.
والذي يؤكد عمق التقليد العربي الإسلامي فيهم أن استقبالهم لنا لم يكن كاستقبال الأوربيين أو الغربيين، ولكنه حفاوة إسلامية في تواضع وكرم واستبشار الوجوه، حتى إن ابنهم الذي ليس بمسلم تودد إلينا في ابتهاج وحبور، مشاركا أبويه في سرد قصص وأخبار عن تاريخ القرية الإسلامي، فجزاهم الله تعالى خيرا.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)