كيف تغسل وسائل الإعلام دماغك وأنت تضحك؟
بقلم محمد خمفوسي
النقل الإعلامي اليوميّ للمجازر التي يرتكبها أعداء الإسلام في أبنائه؛ سياسة مقصودة من هذا الإعلام بُغية غسل دماغ المسلم، وتحويله من كائن حسَّاس إلى آلة رقمية تشبه الكاميرَا، تَرى الحدث فتصوِّره ولا تنفعل معه، أو كشريط الأخبار في أسفل شاشة التلفاز؛ مهمَّته إعلام المشاهد بعدد القتلى دون دعوته للوقوف معهم، وردِّ الحق لهم. فهل قرأتَ يومًا على شريط الأخبار: “استشهد صبيحة اليوم عشرة فلسطنيين في القدس المحتلَّة، الأمر الذي وجب على المسلمين ردِّ الاعتبار لأنفسهم”؟ لكنكَ قرأت مرارًا وتكرارًا: “تمَّ اليوم سقوط عشرة قتلى في فلسطين، من قِبل الجيش الإسرائيلي”، وفجأة أسقطت لفظة “دولة” من “فلسطين”، وفجأة صار المحتَلُّ الإسرائيلي “جيشًا”، وفجأة صار الشهداء “قتلى”، وعوضَ أنْ يقولوا “ارتفع” عشرة شهداء، يقولون لكَ: “سقوط”، منذ متى كان الشهداء يسقطون؟!
إنَّ كلَّ شيء يكتبه الإعلام مقصود، وله نصيبه من غسل دماغ المشاهد، فما أكثر ما غسلوا أدمغتنا ونحن نضحك ملءَ أشداقنا، لا علمَ لنا وخبر بأنَّ هناك مؤامرات تُحاكُ تحت تلك الرسائل القصير في شريطها الأحمر الموسوم بعاجل! وعلى هذا النحو من الإعلام الموجَّه يسهل على المتحكِّم في الكاميرَا أنْ يحتلَّكَ وأنتَ جالسٌ ببيتكَ تضع رِجلًا على رِجلٍ، ويزرع فيكَ شكوكًا كانت بالأمس أبعد عنكَ بُعد السماء عن الماء، فيقتلونكَ دون إراقة دمكَ، ويسجنونكَ دون أن يزجُّوا بكَ في السجن، ويُتَلْمِذُونكَ تحتَ أَسْتَذَتِهِم دون أن تجلس على مقاعدهم الدراسية، ويُجنِّدوكَ لصالحهم دون أن ترتدي بذلتهم العسكرية أو حتى تُشاهد ثَكَنَاتِهم.. ولكنهم احتلُّوكَ عن بُعد؛ لأنَّ الاحتلال عن قُرب صار حَدَثًا ماضَوِيًّا، وتاريخًا أرشيفيًّا، يستنزف الجهود، ويُتعب الجنود، ويُهلك النقود، وعلى قول المثل: “لا حاجة للأسنان في عُقدة تحلُّها الأنامل”، ومثل ذلك بالنسبة لهم، فلا حاجة للكلاشينكوف في حربٍ يُمكن كسبها بشاشة تلفاز لا تزيد عن مترٍ في نصفهِ!
الصحف التي تُركِّز على الأرقام بدل الأرواح، وتنقل الأخبار بُغية حصد عدد المتابعين بدل التأثير في القارئ من أجل حفظ ماء وجهه، صحف باعت ذمَّتها، وأقلام مأجورة يجب التسلُّح بالحذر قُبيل القراءة لها
إنَّ الإعلام اليوم مدرسة مُمَدْرَسَة على مناهج عالية المستوى، فالمذيع لا يلبس لباسًا عاديًّا، ولا ينطق تحليلاته عفويًّا، ولا يقفُ أمام مَعلم أثري عشوائيًّا.. وإنما هو يتحرَّك لحاجة في نفسِ مُحَرِّكيه، هو شبيه بذلك الصيَّاد الذي يُرى أنَّه يضع الطُّعم في صنارته من أجل إطعام السمك، بيد أنَّ جوهر هذا الإطعام هو لجعله طعامًا. ليُصبح المشاهد العربي مبرمجًا آليًّا على حساب عدد الضحايا بدل التعاطف للانتفاضة معهم، فهُم بهذا التكرار المتعمِّد يُمَوِّتون الحس الأَخوي الذي حثَّ عليه الإسلام في أكثر ما موضعٍ من القرآن كقوله تعالى: “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ” “الحجرات: 10″، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
فالمسلمون شبكة أخويَّة، وكما أنَّ قوَّة الشجرة بفعل تشابك أغصانها في بعضها بعضًا، كذلك هو حال المسلمون، فلُحمتهم تعكس قوَّتهم. ورغم أنَّ دم المسلم حُرْمة، بل إنَّ مِن أعظم الذنوب بعد الشرك بالله قتل مسلم بغير حق، وقد قال تعالى: “وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا” “النساء: 93”. وعن أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ ، إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا ، أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا”. ورُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لهدم الكعبة حجرًا حجرًا، أهون من قتل المسلم”، على خلاف في صحَّة سنده لفظًا، وفي رواية تُعاضدُ معناه: “من آذى مسلمًا بغير حق، فكأنما هدم بيت الله”. ورُويَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى الكعبة، فقال: “لقد شرَّفك الله، وكرَّمك، وعظَّمك، والمؤمن أعظم حرمة منك”.
فدماء المسلمين ليست مادَّة سائلة تُراق كأنَّ شيئًا لم يكن، بل هي شريفة في جوهرها وإن كانت في ظاهرها سائلًا أحمرًا؛ فالله تعالى لمَّا خلق الإنسان كرَّمه، ورفعَ قدر المسلم عن غيره حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “قدر المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا”. وفي رواية عن ابن عمر قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة، ويقول: “ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك، وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه”. وفي رواية: “ليس شيء أكرم على الله من المؤمن”. فهذه القُدسيَّة التي أحاطها الله بالمسلم حقيق بها أن تُراعى، وتؤخذ بعين التقدير، لا استصغارها حتَّى تحوَّلت أرواح المسلمين إلى أرقام على الأشرطة الإخباريَّة، وصارت مادَّة دسمة على صفحات الجرائد.
فالصحف التي تُركِّز على الأرقام بدل الأرواح، وتنقل الأخبار بُغية حصد عدد المتابعين بدل التأثير في القارئ من أجل حفظ ماء وجهه، صحف باعت ذمَّتها، وأقلام مأجورة يجب التسلُّح بالحذر قُبيل القراءة لها، فرُبَّ مقروءٍ كُتبَ من أجل التمويه لا التنبيه، والتخدير لا التحذير، وكما أنَّ هناك أنفلوانزا تصيب الحيوانات هناك أيضًا أنفلوانز تصيب الإنسان؛ فيبيع مبادئه مقابل منصب، أو مكانة، أو شهرة، أو صفقة.. فلا يهمُّ شكل البيع عندما يكون الإنسان مستعدًّا لعملية البيع، فعند بيع ما لا يُباع تُعتبر الجريرة واحدة. الإعلام اليوم مأجور إلا ما عصم الله وقليلًا ما هو؛ لذلك باتَ من الواجب أنْ يتمَّ تدريس أمانة الإعلام قبل احترافية ممارسته، وفي الوقت ذاته ينبغي تكثيف الجهود على التثبُّت من نقل الأخبار، والهوينى قُبيل تصديقها، فالتسرُّع في التصديق علامة على خفَّة العقل، ناهيكَ عنْ أنَّ المسموعات والمرئيات والمنقولات قلَّما تسلم من اللامصداقيَّة! فإنْ أبى الواحد منَّا إلاَّ أن يشاهد ببصيرة عمياء، لا شكَّ أنه جنديًا لتلك القناة، وبات عليه أنْ ينقذ نفسه منها قبل أن تضحكَ عليه بمزيد من الباطل، فيُروِّجه هو على أساس أنه حق، فينتفعوا هم منه بنسبة المشاهدة والترويج المجاني، بينما يحصد هو: ذنب التصديق، والترويج.
(المصدر: موقع بصائر)