كيف انتقلت رموز الوثنيَّة إلى ملَّة أهل الكتاب؟ – 2 من 6
بقلم د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
هذا الشكل من رمز الهندوسيَّة اسمه “سري إينترا”-Sri Iantra، وهو عبارة عن دائرة تمثِّل العالم، يشير المثلَّث الصاعد إلى الأعلى إلى الخالق الذكر، والنازل إلى الشريك الأنثوي، وهما منفصلان، لكنَّهما يشكِّلان معًا وحدةً. وتوجد في الدائرة المركزية صورة الرب المفترض أن يُعبد، وهو المثلَّث. يوجد براهما أعلى القمة العليا ولاكشمي-زوجته-أسفل القمة السفلى. أدخلت المسيحيَّة والماسونيَّة هذه الشكل باعتباره من رموزهما المقدَّسة. خنثوية الرب من خلال اندماج صفات الذكورة والأنوثة من أهم ما يميِّز عقائد اليهود، حتَّى أنَّه يشابه ما يُعرف بنجمة داود إلى درجة كبيرة:
2.8-الرَّمز الهندوسي القديم سري إينترا-إنمان (1884، ص 39)
توضح الصورة التالية كذلك اندماج ثالوث الذكر ووحدة الأنثى في جسم واحد لتصوير خنثويَّة الرب في العقائد الوثنية بأشكال مختلفة:
2.9-خنثويَّة الربِّ-إنمان (1884، ص 46)
وتكمن أهميَّة هذه الصورة في احتوائها على شكل القبَّعة على جانبها الأيسر، حيث أنَّها عبارة عن جزء دائري يخرج من وسطه جزء مخروطي بارز، في إشارة إلى اندماج صفات الذَّكر والأنثى في رمز مجمَّع. ويرى إنمان أنَّ هذا الفكر هو أصل تصميم قبَّعات الحاخامات-وربما أغطية الرأس في كافة الديانات بلا استثناء-على هذا النَسق: جزء دائري في وسطه جزء مخروطي بارز!
نجد في العديد من الثقافات السلحفاة رمزًا للذكر وحدوة الفرس رمزًا للأنثى. نجد أنَّ الهندوس في ثقافتهم يضعون العالم بأكمله فوق السلحفاة، ويرجع ذلك إلى أسطورة تُعرف بأسطورة السلحفاة والفيل، والسلحفاة هنا هي تجسيد للإله فيشنو، واسمه كورما. نزل كورما من السماء لإنقاذ الأسرار الربَّانيَّة من عبث الشياطين والعفاريت بعد أن غرق نصف العالم من جرَّاء فيضان. وقد صوَّر الإغريق فينوس تتكأ على سلحفاة. وهذا من نماذج تشبيه الرب بالحيوانات في العقائد الوثنيَّة الشرقيَّة، ويدخل في ذلك تشبيهه بالعجل والحيَّة والثور والأسد-كما سيوضح لاحقًا.
الحيَّة هي أيضًا من نماذج تصوير الرب؛ والصورة التالية من نماذج اعتقاد السكان الأصليين لأمريكا الشماليَّة للإله: عبارة عن حيَّة لها ثلاثة أجنحة، وذيلها به ثلاث حلقات، وأمامها زهرة في وسطها فراغ، في دلالة على وحدة الأنثى، فيُشكِّل الثالوث والوحدة معًا الرباعي المقدَّس:
والصورة التالية توضح كذلك مفهوم الثالوث الذكري والوحدة الأنثوية من منظور السكان الأصليين لأمريكا الشماليَّة، والتي ربَّما انتقلت إليهم من الحضارات الشرقية. في الجانب السفلي، نجد رجلًا مستقيم الجسم، على جانبي رأسه شكلين سُلميين، في إشارة إلى الثالوث، وعلى صدره شكل بيضاوي يرمز إلى وحدة الأنثى. وأسفر الوجه، هناك قوس-وحدة الأنثى-بداخله هرم-ثالوث الرجل. أمَّا في الجزء العلوي، فهناك ثلاث قُبب، على كلِّ قُبَّة بناء سُلَّمي من ثلاث درجات. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ المرأة التي تهب نفسها إلى بعل فغور تُسمَّى “كاديشوث”، وكانت تهب نفسها للعبَّاد في خيمة يُطلق عليها “القبَّة“، وفق ما جاء في سفر العدد “وَدَخَلَ وَرَاءَ الرَّجُلِ الإِسْرَائِيلِيِّ إِلَى الْقُبَّةِ وَطَعَنَ كِلَيْهِمَا، الرَّجُلَ الإِسْرَائِيلِيَّ وَالْمَرْأَةَ فِي بَطْنِهَا. فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ” (إصحاح 25: آية 8). أصبح فرج المرأة كذلك يُرمز إليه بالقبَّة-مثل الباب-وصار كلُّ شيء مقوَّس أو مقنطر الشكل يدل على الفرْج. صارت “القبَّة” الإنجليزيَّة باسم Alcove لتدل على التجويف، واسمهما في الإسبانيَّة هو Alcova. كان من طقوس عبادة بعل فغور الاتصال الجنسي بامرأة تجسِّد الإلهة عشيرة.
ومن الملفت أيضًا أنَّ السكان الأصليين لأمريكا الشماليَّة كان الصليب من بين رموزهم، وكانت عقيدتهم فيه تضاهي عقائد الأمم الوثنية الشرقية فيه: هو نموذج إمَّا لاندماج ثالوث الذكورة ووحدة الأنوثة-كما يظهر في الشكلين الأول والثاني، حيث يتوسَّط تقاطُع العمودين منفذ يرمز إلى وحدة الأنثى-أو لثالوث الذكورة فحسب-كما يظهر في الشكل الثالث:
2. تصوير الرب بصفات الذكورة في الديانات الوثنيَّة ومقارنتها بالكتاب المقدَّس والقرآن الكريم
سبقت الإشارة في النقطة السابقة إلى اعتقاد الأمم الوثنية في أنَّ الرب يحمل صفات الذكور؛ ولذلك رمزت إليه بأشكال تتكون من ثلاثة عناصر، نفس عدد عناصر عضو الذكورة. وقد اعتقدت تلك الأمم في أنَّ اندماج ثالوث الرجل مع وحدة الأنثى هو سبب التكاثر والذرية، في عملية أشبه ما تكون بعملية خلق الرب للبشر. وقد بلورت النماذج السابقة من رموز الأمم الوثنية للإله هذا الاندماج بين الذكر والأنثى
من المثير للانتباه أنَّ اللغة العبرية حدَّدت أسماء نوعي الجنس بحسب ذلك الاعتقاد: نجد أنَّ اسم “ذكر” هو זכר (زخَّار)، وهي يعني مثقب أو مخرز، ونجد أنَّ اسم “أنثى” هو נקבה (نيكيباه)، وهي تعني فتحة أو أخدود. وقد تطوَّر تشكيل الرمزين، فأصبح رمز الذكر مكوَّنًا من ثلاثة عناصر، ورمز الأنثى من عنصر واحد. وعلى هذا النحو، فأصبح المثلَّث، أو أي ثلاثة أشياء تُوضع فوق بعضها، رمزًا للذكر، أو لتقل الأب؛ وأي وحدة ترمز إلى الأنثى، أي الأم. من هنا يمكننا تحديد أصل اعتبار أنَّ البشر هم أبناء الله، وأنَّ المسيح عيسى بن مريم-عبد الله ورسوله-ابنًا لله. ولعل ما ورد عنه في سفر صموئيل الثاني، الإصحاح 7-الآيات من 12 إلى 14: “متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبت مملكته. هو يبني بيتًا لاسمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد. أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا.” ونجد أيضًا مما ذُكر عن المسيح أنَّه من “قضيب يسَّى،” ويسَّى هو أب نبيِّنا داود (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلاة وأتم التسليم)، كما ورد في سفر اشعياء الإصحاح 11، الآية 1: “ويخرج قضيب من جذع يسَّى وينبت غصن من أصوله.” ومن صور تقديس عورة الرجل في العهد القديم، تقديم داود (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلوات وأتم التسليم) قلاف مائتي رجل من الفلسطينيين قتلهم ونزع مقدِّمة أعضائهم الذكرية ليقدِّمها مهرًا لميكال-ابنة شاؤول (وهو طالوت، كما ذُكر اسمه في سورة البقرة): “قام داود وذهب هو ورجاله وقتل من الفلسطينيين مئتي رجل وأتى داود بقلفهم فأكملوها للملك لمصاهرة الملك فأعطاه شاول ميكال ابنته امرأة” (سفر صموئيل الأول: إصحاح 18، آية 27).
تكررت في سفر التكوين عبارة قسم تستلزم وضع اليد على منطقة عورة الرجل، ويفسِّرها قساوسة الكنيسة بأنَّها تشير بالقسم المتجسدِّ من نسله. وقد وردت في الإصحاح 24، آية 2: “قال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على كل ما كان له: ضع يدك تحت فخذي،” وفي الإصحاح 47، آية 29: “ولما قربت أيام إسرائيل أن يموت دعا ابنه يوسف وقال له: إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فضع يدك تحت فخذي واصنع معي معروفا وأمانة: لا تدفني في مصر.” وكلمتا الفخذ والعصا استُخدمتا في الكتاب المقدَّس للإشارة إلى عورة الرجل، كما ورد في سفر العبرانيين، إصحاح 11، آية 21: “بالإيمان يعقوب عند موته بارك كل واحد من ابني يوسف وسجد على راس عصاه.”
مُنع المخصيُّون من الدخول في جماعة الربِّ في سفر التثنية، إصحاح 23، آية 1 “لا يدخل مخصي بالرض أو مجبوب في جماعة الرب؛” ولكن الأمر الربي قد رُفع وسُمح لهم في سفر اشعياء (إصحاح 56: آيات 3-5): “إفرازًا أفرزني الرب من شعبه. ولا يقل الخصي ها أنا شجرة يابسة. لأنَّه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتي ويختارون ما يسرُّني ويتمسَّكون بعهدي. إنِّي أعطيهم في بيتي وفي أسواري نصيبًا واسمًا أفضل من البنين والبنات. أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع.”
يساوي سفر التثنية بين أبناء الزنا وبين العمُّونيين والموآبيِّن في الإخراج من جماعة الربِّ: “لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب. حتى الجيل العاشر لا يدخل منه أحد في جماعة الرب. لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب” (الإصحاح 23-آيتان 2 و3). وقد ذكر سفر التثنية كذلك: “لا تكن زانية من بنات إسرائيل ولا يكون مأبونون من بني إسرائيل. لا تدخل أجرة زانية ولا ثمن كلب إلى بيت الرب إلهك عن نذر لأنَّهما كليهما رجس لدى الرب إلهك” (إصحاح 23-17).
لاحظنا أنَّ تقديس الرمز الذَكَري للإله من بين أهم معتقدات الأمم الوثنية، وقد ورد في الكتاب المقدَّس ما يفيد بعدم اختلاف اليهود عن هذا النهج. فقد وردت في سفر التكوين قصة لنبي الله نوح (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلوات وأتم التسليم) عن تعرِّيه وهو في حالة من الثمالة، فضحك على وضعه ابنه الأصغر حام، بينما ستره سام ويافث بثيابه ولم ينظرا إلى عورته، وستراها وكأنَّها هي مصوِّر العالم: “وبدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرمًا. وشرب من الخمر فسكر وتعرَّى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجًا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على اكتافهما ومشيا الى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما. فلمَّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته وقال مبارك الرب إله سام وليكن كنعان عبدًا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدًا لهم” (سفر التكوين 9-آيات 20-27). يتعمَّد الرب في هذه الآيات إهانة حام بن نوح، الذي انحدر منه الكنعانيُّون-السكان الأصليين لأرض فلسطين-ويعتبره “عبدًا” لأخويه سام-الجد الأكبر لبني إسرائيل-ويافث، مما يبرر عهد الرب لإبراهيم بميراث الأرض من نهر النيل إلى نهر الفرات الكبير، المذكور في الآية 18 من الإصحاح 15 من سفر التكوين “لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات.” وكأنَّ عدم تقديس حام لعورة الرجل مبرر لجعله أدنى من أخويه في المرتبة.
لعلَّ في قصَّة نكاح نبي الله لوط (عليه وعلى سائر أنبياء الله أزكى الصلاة وأتم التسليم) بابنتيه دون وعيه ما يبلور حرص عقلية بني إسرائيل على التكاثر للحفاظ على النسل، وفي سعي ابنتي لوط على إنجاب ذريَّة ما يبرر ارتكاب زنا المحارم. فمن منطلق عدم وجود “رجل يدخل عليهما“، أقدمت الفتاتان على إسكار الأب والاضِّجاع معه، توقيرًا منهما لقدرته الجنسية التي ستجلب نسلًا جديدًا. تقول الآيات في سفر التكوين: “قَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ. هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا. وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا اللَّيْلَةَ أَيْضًا فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلاً». فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَيْضًا، وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا. فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. فَوَلَدَتِ الْبِكْرُ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوآبَ»، وَهُوَ أَبُ الْمُوآبِيِّينَ إِلَى الْيَوْمِ. وَالصَّغِيرَةُ أَيْضًا وَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «بِنْ عَمِّي»، وَهُوَ أَبُ بَنِي عَمُّونَ إِلَى الْيَوْمِ” (إصحاح 19: آيات 31-38).
(المصدر: رسالة بوست)