كيف انتقلت رموز الوثنيَّة إلى ملَّة أهل الكتاب؟ – 1 من 6
بقلم د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
“أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤلاء أهدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا” (سورة النساء: الآيَّة 51)
“الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ” (سورة الأنعام: آية 1)
“فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)” (سورة القَصص: آيتان 29-30)
“فَقَالَ مُوسَى للهِ: «هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟». فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ».” (سفر الخروج: إصحاح 3، آيتان 13-14)
“بَيْتَ إِسْرَائِيلَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَسْمَعَ لَكَ، لأَنَّهُمْ لاَ يَشَاؤُونَ أَنْ يَسْمَعُوا لِي. لأَنَّ كُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ صِلاَبُ الْجِبَاهِ وَقُسَاةُ الْقُلُوبِ.” (سفر حزقيال: إصحاح 3، آية 7)
مقدِّمة:
تستهدف هذه الدراسة استعراض جانب من المواصفات الشكليَّة والسلوكيَّة التي ظهر عليها الربُّ في الكتاب المقدِّس ومقارنتها بما ورد عن صفات الرب في الديانات الوثنية القديمة، وما جاء من وصف لله تعالى في القرآن الكريم والأحاديث النبوية-الصحيح والحسن منها. بما أنَّ مواصفات بيت العبادة الذي يُقام للإله يعكس طبيعته، تتطرق الدراسة كذلك إلى وصف “بيت الرب” في التوراة، سواءً عند بنائه، أو عند تدميره في القرن السادس قبل الميلاد، أو عند إعادة بنائه بعد العودة من السبي البابلي، ثم التنبُّؤ بدماره من جديد. تستند الدراسة إلى كتاب كشف رموز الوثنية القديمة والمسيحية الحديثة-Ancient Pagan and Modern Christian Symbolism Exposed (1884) -تأليف توماس إنمان.
1.تشبيه الرب بالذَّكَر في الديانات الوثنيَّة
اجتمعت العقائد الوثنيَّة القديمة على تشبيه الرب من حيث الجنس بالرجل؛ باعتبار أنَّ الرجل هو الفاعل في الاتصال الجنسي بالمرأة، وأنَّ هذا الاتصال هو سبب وجود البشر في الحياة، في عمليَّة تحاكي الخلق. هناك عنصر حسِّي-أو لتقل شهواني مرتبط بالجنس-في ديانات الأمم الوثنية. فقد جرت العادة في تلك الديانات أن يرمز إلى الرب بإشارة تتعلق بأعضاء الذكورة، باعتبار أنَّ الرب كان يُعتبر ذكرًا. كانت لكلِّ صفة يُمكن إدراكها في الذكر والأنثى رمزها؛ وكان الإلهة يُدعون بأسماء القوَّة والحب والغضب والرغبة والانتقام والحظ، إلخ. أي صفةٍ في الخَلق تُشبه الخالق-كما تصوَّرته عقول الأمم البدائيَّة-بأي شكلٍ من الأشكال، سواءً في الشكل أو الصفات أو الاسم، كان من المفترض أنَّها تمثِّل الرب. على هذا النحو، فالنخلة كانت رمزًا دينيًّا؛ لأنَّ جذعها طويل ومنتصب ومستدير. هكذا، أصبح أيُّ شيء قائم وطوله يتجاوز عرضه يرمز إلى الأب؛ وأيُّ شيء أجوف وغائر وبيضوي أو دائري يرمز إلى الأم. ومن هنا، أصبحت السيوف والرماح والأسهم وآلات الدفع رموزًا للذكورة، وأصبحت أغماد السيوف والأبواب والفجوات والأهداف والدروع، وأي شيء يمكن دخوله، بمثابة رمز إلى الأنوثة. وتوضح الصورة السابقة كيف صُوِّر رمز الذكر في الديانات الوثنيَّة.
2.1-رمز الذكر في الديانات الوثنية-إنمان (1884، لوحة 9)
يعتقد المسيحي الورع أنَّ تعظيم الصليب هو السبيل إلى الخلاص في الآخرة، دون أن يخال ولو للحظة أنَّه من بين رموز الإيمان لأمم وثنية تعود إلى طروادة المذكورة في ملاحم هوميروس، كما استخدمه الفينيقيين قبل أن يكون لليهود أي وجود. توجد في الأقاصيص الخيالية، التي اعتقد البعض في صدقها في العصور الظلامية في المسيحية، قصص عن أشخاص ماتوا ودُفنوا، ثم قاموا بعد مكوثهم قليلًا في قبورهم. ظنَّ البعض أنَّ القائم هو ذاته المدفون في قبره، بينما اعتقد آخرون أنَّ روحًا شريرة قد استولت على الجثمان، ثم بُعثت فيه الروح. ويعلِّق إنمان ساخرًا: ماتت الوثنية ودُفنت؛ ولكن، وبعد فترة وجيزة، قامت من قبرها. بيد أنَّها، بخلاف مصاصي الدماء، فقد تغيَّر جلدها، ولم يتعرَّق عليها أحد، لتدخل المسيحية في مظهر جذَّاب؛ وكأنَّها كانت شيطانًا على شكل حمل؛ ذئب في زي من الجوخ. كان مصير مصَّاصي الدماء عند كشف أمرهم القتل شرِّ قتلة، ولكنَّ التجربة أثبتت أنَّهم يتمسَّكون بالحياة إلى حدِّ النهوض من الموت، والبقاء برغم الحصار المتجدد، إلى أن يحرقوا بالكامل.
تُظهر صور الثعبان المتلف حول شجرة رمزًا للاندماج بين الذكر والأنثى في الجماع، مما يُثمر عن الذريَّة؛ كما يُلخِّص الشكل 5، الذي يظهر فيه رجل بنصف جسمه على هيكل من ثلاثة أجزاء وفي داخل دائرة تتوسط الهيكل عملية الاندماج تلك. والمثير للانتباه أنَّ رمز الصليب المقدَّس في المسيحية، باعتبار أنَّ المسيح صُلب لفداء البشر والتكفير عن خطاياهم، قد وُجد في العديد من العقائد الوثنية للإشارة إلى ثالوث الرجل، وأحيانًا للإشارة إلى اندماج الثالوث مع وحدة الأنثى.
وتوضح الصورة التالية أشكالًا مختلفة لثالوث الرجُل ووحدة الأنثى، اللذين يشكِّلان معًا ما يُعرف بالرباعي المقدَّس، أو الأربا-Arba:
2.2-رمز الرُّباعي المقدَّس-إنمان (1884، لوحة 12)
لو أخذنا الشكل رقم 1 في الصورة مثالًا، لوجدنا أنَّه عبارة عن تصميم من ثلاثة أصابع، أوسطها هو الأطول ويتجاوز طوله عرضه، ويتَّصل به من الجانبين فرعان صغيران، وهو يمثِّل العضو الذكري؛ بينما يمثِّل المنفذ مخروطي الرأس في الوسط العضو الأنثوي. وينطبق ذلك على كافة الأشكال الأخرى، وإن كان الشكل 4-عبارة عن صليب يحيط به أربع أشكال بيضاوية-يتميَّز بكونه يجمع بين أربع حالات اندماج بين ثالوث الرجل ووحدة المرأة. فكلُّ ذراع من الصليب يتَّصل به على كلٍّ من جانبيه شريط قصير، فيُصبح بذلك ثالوث يندمج مع الفراغ البيضاوي المحيط ليكوِّن الرباعي المقدَّس.
ولا يختلف الشكل السابق عن هذه القاعدة، فالعامود دائًما هو رمز للذكر، والهلال هو عبارة عن رمز للأنثى، وينطبق هذا على الشكلين 1 و14. وتشترك الصورتان 5 و13 في تصوير إيمان المصريين القدماء بالثالوث المقدَّس، من خلال عرض صورة لرجل تحيط به امرأتان. إذا دقَّقنا في صورة 5، نجد أنَّ على رأس كلِّ امرأة تاج مخروطي الشكل يرمز إلى عضو الذكر، بينما على رأس الرجل قرنان متباعدان وجسم مستدير، في إشارة إلى ثالوث الرجل، ويعلو هذا الثالوث قرنان مندمجان في وحدة توازي وحدة المرأة؛ ويشكِّل الثالوث مع الوحدة الرباعي المقدَّس المرتبط بالإثمار. الجمع بين الثالوث والوحدة في رمز واحد يشير إلى اندماج الربين معًا وتساوي الذكر والأنثى، أي إله السماء وإلهة الأرض.
وينطبق التقديس على شجر السنديان (البلُّوط)، كما ينطبق على شجرة التين؛ لأنَّ أوراقها تُشبه الأعضاء التناسلية الذكورية-المكوَّنة من ثلاثة عناصر! وهذا كذلك هو شأن ورق اللبلاب، وهو نفسه شأن ورق نبات الآس العطري؛ كونه يُشبه عضو التكاثُر الأنثوي.
توضح الصورة التالية نظرة البوذيين إلى فكرة اندماجي الرباعي المقدَّس من خلال رمز الصليب. على كلِّ ضلع من أضلاع الصليب، توجد حبَّة شعير ترمز إلى وحدة الأنثى، ويتَّجه إليها قضيب ذكري؛ كما يوجد على طرف كلِّ ضلع مثلَّث يشير إلى ثالوث الذكر، يقابله مباشرة هلال يرمز إلى وحدة المرأة. في حين في وسط العامود الرأسي منفذ، في إشارة إلى اندماج الصليب-ثالوث الذكر-مع المنفذ في وسطه، في إشارة إلى حالة من الاندماج التام.
والصورة التالية لا تخرج عن هذا النطاق، في وصف أنماط مختلفة للاندماج المتمثِّل في الرباعي المقدَّس باستخدام رمز الصليب.
يُسمَّى هذا الرمز مفتاح النصر، وهو نموذج للصليب الفرعوني، الذي يتكوَّن في الجزء السفلي من ثالوث الذكر وفي الجزء العلوي من وحدة الأنثى.