كيف أفشل الشارع الأردني المحافظ المشروع الليبرالي؟
بقلم د. ناصر الزيادات
في المقالة السابقة “الأردن.. من تحرير الاقتصاد إلى رأسمالية المحسوبية”، كنت قد تطرقت إلى مكونات النخبة الليبرالية التي استخدمتها من أجل الوصول إلى أهدافها المالية الضيقة، من خلال الإفساد في عمليات تحرير الاقتصاد، والعبث في مؤسسات الدولة لحماية نفسها. وفي المقالة التي سبقتها “لماذا أخفق المشروع الليبرالي في الأردن؟” كنت قد أوضحت أن “النخبة الليبرالية” في الأردن كانت قد فشلت كسب الرأي العام على مدار عقدين من الزمن، وأن هناك مشروع محافظ يتحدى نظيره الليبرالي، لكنه غير نخبوي على الأرجح. تسعى هذه المقالة إلى إبراز أهم مقومات المشروع المحافظ الأردني الذي جاء عفوياً من الشارع وانتشر عبر منصات التواصل الاجتماعي. وستعمل هذه المقالة على إظهار مقومات المشروع المحافظ الأردني من خلال الهندسة العكسية (reverse engineering) لإخفاقات المشروع الليبرالي في الأردن.
هناك قانون لنشر الأفكار الجديدة (Diffusion of Innovation) من قبل النخبة المبدعة (المبتدعة في حالة الأردن الليبرالية). ويقول هذا القانون أن الأقلية المبدعة لن تتمكن من نشر الأفكار الجديدة، إلا إذا حصلت على تأييد نسبة ١٣.٥٪ من المجتمع كنسبة أولية للمؤمنين بالمشروع والمتقبلين له. وأن هذه النسبة الأولى، قادرة على إقناع ما نسبته ٣٤٪ من المجتمع بأن يكونوا من معتنقي الفكرة الجديدة. وتعتبر مرحلة إقناع الـ ١٣.٥٪ للـ ٣٤٪ أهم مراحل نشر الأفكار الجديدة وأخطرها، حيث أن فشل هذه المرحلة سيؤدي إلى فشل المشروع برمته. عندما بدأت “النخبة الليبرالية” الأردنية مشروعها في نهايات تسعينيات القرن المنصرم، عولت كثيراً على المفكرين والمثقفين الليبراليين كي يتبنوا أفكارها ويروجوا لمشروع الليبرالية الأردني ليقنعوا بقية الشارع به.
وقد واجهت هذه الطريقة أخطاءً جوهرية منذ البداية، وتتمحور تلك الأخطاء حول الإخفاق في الإجابة على سؤال واحد: لماذا سيعتنق الشعب الأردني الليبرالية؟! لقد بدأ المشروع الليبرالي الأردني بالهجوم على الدين الإسلامي من أجل تفسير تبني الليبرالية للشارع. هذه الطريقة كانت قاتلة للمشروع برمته. ففهم الشارع أن جوهر الليبرالية هو محاربة الإسلام، وليس ترويج قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، التي هي من منطلقات الليبرالية ورؤيتها. الأهم من ذلك كله، أن قيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، بل وحقوق الحيوان أيضاً مصونة في الإسلام. فما هي القيمة المضافة التي ستعطيها الليبرالية للأردنيين؟! بمعنى آخر، فإن الفئة القليلة التي آمنت، أو باعات إيمانها، بالليبرالية، من المفكرين والمثقفين، لم تتمكن من أقناع النسبة الكبيرة من الأردنيين التي يعتبر اقتناعها بالليبرالية أهم عوامل انتشار الفكرة في المجتمع.
عناصر الجذب الثلاثة:
العدل والإحسان
يدرك المتابع للشأن الأردني أن شعار “نجوع معاً أو نشبع معاً” كان بمثابة الفكرة الرئيسة التي التف حولها جل الشارع الأردني عند وقوفه مع المعلمين في إضرابهم (5 أيلول/سبتمبر – 6 تشرين أول/أكتوبر 2019). هذا الشعار يستند إلى أهم قيمة يروج لها الإسلام، ويفتقر إليها المشروع الليبرالي الأردني: قيمة العدل التي طبقها المعلمون، وناضلوا من أجلها فالتف حولهم الشارع بسهولة. أما الإحسان فقد تجلى بأبهى صوره عندما هبت عائلات أردنية لتقديم الطعام والشراب للمعلمين المضربين، وحمايتهم من المدفوعين لإيذائهم، والذب عن أعراضهم على أرض الواقع وعلى منصات التواصل الاجتماعي. وهب المعلمون المضربون إلى إصلاح مدارسهم وصيانة ممتلكاتها أثناء الإضراب، والتعهد بتعويض كل ما يفوت الطلاب من علم نتيجة لذلك. قيم العدل والإحسان من صفات الأردنيين الأصيلة التي زرعها بهم الإسلام ونشأوا عليها جيلاً بعد جيل، وهي من أبرز الأفكار الراسخة التي عززت من انجذاب الأردنيين للمشروع المحافظ، في الوقت الذي لم يحدث المشروع الليبرالي فيه عدلاً ولا إحساناً.
الوحدة ونبذ الفرقة
لم يشهد الأردن ترويجاً للفرقة في تاريخه كالتي يشهدها في حقبة المشروع الليبرالي. ربما يعطي عدد المشاجرات التي تحدث في الجامعات على أساس عشائري مؤشراً على ذلك، وقد استغل أصحاب المشروع الليبرالي هذا المؤشر وغيره، لتبرير أن هذا الشعب لا يستطيع أن يحكم بحكومة منتخبة. ولكن يبقى التساؤل: من يتحمل مسؤولية الفرقة والتناحر؟ لا شك أن من يتحملها هو الطبقة الليبرالية الحاكمة والأجهزة الأمنية التي تساندها من أجل إطالة أمد “الديموكتاتورية” التي أنشأتها طبقة المتنفعين. أما الحراك الأردني، على سبيل المثال، يضم في صفوفه تآلفاً عشائريا وجهوياً لم يشهده الأردن من قبل. وقد استطاع أن يصهر مكونات الشعب الأردني في صفوفه رغم صعوده وهبوطه منذ بدايات الربيع العربي. لا شك أن قيمة الوحدة ونبذ الفرقة من أهم الصفات التي يروج لها المشروع المحافظ الأردني ويستمدها من تاريخ ثقافي عريق صهر فيه بلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وقطز، وعمر، وأبو بكر، وأرطغرل وابنه عثمان على سبيل المثال لا الحصر. كل أولئك كانوا في خدمة مشروع واحد: العدل والإحسان المفضي إلى عمارة الأرض.
القدس وفلسطين
كانت، ولا تزال، محاربة القيم الإسلامية من أهم عوامل فشل المشروع الليبرالي الأردني في كسب تأييد الشارع. فهذا الشارع يعيش في وجدانه أنه على حدود أراض عربية وإسلامية مغتصبة، يسكنها شعب يشاطره الأردنيون نسبه ودينه وتاريخه وحضارته. وأن الإسلام هو العقيدة الوحيدة القادرة على جمع الناس على استرداد ما هو مغتصب. لم يتطرق المفكرون الليبراليون في منتجاتهم “الفكرية” إلى هذه القضية الحساسة. ببساطة، لأن الليبرالية لا يمكن لها فعل ذلك، ولأن الكثير من المفكرين الليبراليين عبارة عن “نوائح مستأجرة” من أجل الترويج لصيغة ليبرالية تسهم في إبعاد الأردنيين عن قيمهم ومبادئهم الراسخة.
تطرقت الفقرات السابقة من هذه المقالة إلى أن أفكار المشروع المحافظ الأردني، هي حالة معاكسة تماماً لما روج له المشروع الليبرالي المروج لرأسمالية المحسوبية، لم يحمل الأخير أفكاراً لامست الشارع، فظهرت أفكار الشارع المحافظ وتطلعاته عفوياً على السطح، بفعل الإرث الثقافي والديني للشارع الأردني. وتمتلك تلك الأفكار التي يتبناها الشارع المحافظ، قدرة عظيمة على التحول إلى مشروع حقيقي منافس وقادر على إحداث التغيير، إذا ما وجد نخبة من المفكرين والرياديين قادرة على إبقاء الشارع، دون تشتيت، ضمن الأفكار الأساسية التي يروج لها المشروع المحافظ. وهذا يتطلب التركيز على عدد من الاستراتيجيات.
عدم الخوض في الجزئيات التي يسعى أصحاب رأسمالية المحسوبية إلهاء الشارع بها لتشتيتهم عن الأهداف العليا: العدل والإحسان، ونبذ الفرقة، وفلسطين. فالتشتيت لا يبعد عن الهدف وحسب، بل وينشر الفرقة من خلال التعمق في اختلاف الآراء على صغائر الأمور، ومن ثم يؤدي إلى نشر حالة من الخلاف. تابعت أحد التغريدات لضابط أمني رفيع يعترض فيها على إخراج حكومة الرزاز لأربعة وزراء من منطقة واحدة، تلك التغريدة ومصدرها ومضمونها تهدف، بلا شك، إلى الإغراق بتفاصيل لا تسمن ولا تغني من جوع، فالشارع الأردني لم يكن يقبل بحكومة الرزاز ابتداءً لأنها حكومة غير منتخبة، فليخرج منها من يخرج وليدخل من يدخل لأن ذلك لن يغير من حقيقة أنها لا تمثل إرادة الشعب.
لا يعني عدم الإغراق في التفاصيل تجاهلها، بل هي مفيدة جداً عند ربطها مع بعضها لتشكل المشهد الكلي، ولعل المشهد الكلي هنا هو: المجتمع الأردني العربي المسلم المحترم للأقليات الدينية والعرقية الأخرى، هذا بالإضافة تثبيط آليات عمل طبقة الليبرالية المتنفذة من أجل حماية مصالحها وإطالة أمد سلطتها.
لا يمكن للأفكار العظيمة أن تنتشر بالرعونة والعنف. لقد فشلت الشيوعية في كل مكان لأن من تبنوها بطشوا بشعوبهم. وما انتشرت كل الأفكار الجميلة إلا بالحكمة والموعظة الحسنة. فكيف لمن يروج لمشروع يتحدى الظلم أن يكون أرعناً أو متهوراً أو سباباً أو لعاناً؟!
كل الحذر من راكبي موجات المعارضة الأردنية، فطريقة عرضهم وأساليبهم، وحجم ودقة التسريبات التي تتوافر لديهم تنبي بأمور غير مقبولة. وكم من هؤلاء تبين أنه يتواصل مع جهات معينة من أجل أن يكون مجموعة من الأتباع تسهم في حرف الشارع عن مساره؟! ولعل أبرز سمات راكبي الموجة أنهم يطعنون ببعضهم، ويسيئون لكل من يختلف مهم، ولا يتوانون عن قذف الأعراض والتشهير.
لم يفلح المشروع الليبرالي الأردني لأنه لم يقدم أي قيم مضافة للشارع الأردني وقضاياه الأساسية: العدل والإحسان، والوحدة، والأقصى. وقد أدى الإخفاق في مخاطبة تلك القيم إلى استدعائها، من المكنون الثقافي العروبي الإسلامي للشارع الأردني، فتشكلت على هيئة مشروع يتحدى مشروع النخبة الليبرالية التي روجت لرأسمالية المحسوبية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)