إعداد د. إبراهيم السكران
• مدخل:
الحمد لله وبعد،، من المُلمّات التي فجعت مجتمعنا المسلم، ومازال ممسكًا برأسه من هولها؛ رؤية فلذات كبد البلد المسلم يستدرجون أبناء عمهم وأولاد خالتهم إلى الفلوات يلطمونهم بزخات الرصاص ويصورونهم وهم يخفقون الأرض متشحطين بدمائهم، باسم الجهاد في سبيل الله.. ويدخل الواحد منهم بحزامه الناسف مخاتلًا بين صفوف الراكعين الساجدين في بيوت الرحمن ليدُكّها على المصلين وشفاههم رطبة بذكر الله، باسم ذروة سنام الإسلام.. وعهدك بأحدهم ينفخ الضباب في استراحات الضياع يصارع في أحسن أحواله لإدراك الصلاة قبيل خروج وقتها، ثم ينقلب في أسبوع يفتيك في تكفير المعينين وإخراجهم من أصل الإسلام.. وفي موقع الحادث، وبين المتجمهرين على أشلاء المداهمات؛ تتواثب لاقطات (الإعلام الليبرالي) بمنظومة كُتّابه وصحفييه، يعرض نفسه باعتباره محامي المجتمع ضد الغلو.. ووكيل البلد في صياغة المرافعة ضد الغلاة.. فهل كان الإعلام الليبرالي (محاميًا ناجحًا÷ في كسب قضيته؟ أم كان من ذلك النوع من المحامين الذي وصفه مالك بن نبي؟ حيث يستعمل (مالك بن نبي) (ت 1973م) في بعض كتبه مصطلحًا طريفًا سماه (المحامي المُورِّط) (l’avocat compromettant) ويشرحه مالك كما يلي: “خطة يمكن أن نسميها (خُطّة المحامي المورِّط) الذي يورِّط موكله بدعوى أنه يقوم بالدفاع عنه” (بن نبي، الصراع الفكري، ص: [113]) (Bennabi، La Lutte Idéologique، p.121). هذا ما سنحاول تحليله بعلمية وموضوعية هادئة -بإذن الله- من خلال فقرات هذه الدراسة، وسأقدم أولًا بفقرات تمهيدية خمس، وهي (الفهم العلمي لمُركَّب الغلو، حجة كثرة الاستشهاد دليل الامتداد، التراث السني كرأسمال رمزي، الرأسمال الرمزي في خطاب الغلاة، تحليل نتائج الإحالات المرجعية)، ثم سندخل إلى صلب الموضوع بإذن الله، أعني الجواب على السؤال المفتوح على صدر هذه الورقة: أين وقف الإعلام الليبرالي في معركة الغلو؟ وقد عرضت هذه الورقة قبل نشرها على بعض أهل الخبرة بالعلم والفكر، واستفدت من ملحوظاتهم وتصويباتهم ما حمدت الله معه أنني استشرتهم، والله وحده يجزيهم على صنيعه خيرًا. • الفهم العلمي لمُركّب الغلو: الغلو المقصود هنا هو الغلو الذي وصل إلى حالة استحلال الدماء المعصومة بالتأويلات الدينية الباطلة، كالغدر بالأهل والأقارب من أهل لا إله إلا الله واستدراجهم خارج البنيان وقتلهم وتصوير ذلك تبجحًا، وقتل الثوار الذين يجاهدون الطغيان النصيري، وهدم المساجد على المصلين الراكعين الساجدين، وتجرئة الشاب الجاهل على الحكم بإخراج المعيّنين من الإسلام بالجملة، والاستهانة بدماء غير المحاربين من النساء والأطفال والمستأمنين، ونحوها. وهناك من تناول هذه الظاهرة في سياق المناكفات واللدد، فضيّع القدرة على التحليل العلمي الهادئ للظاهرة، ولا شيء أكثر حزنًا من ضمور الاستعداد للفحص الهادئ الجادّ للظواهر في زحام المغايظات والمشاحنات الفكرية والتراشق الإعلامي. ومن تأمل هذه الظاهرة بعلمية وموضوعية هادئة؛ أدرك أن الضال بالغلو هو أولًا فرد ضمن (جماعة غلو)، وهذه الجماعة تقدم له مُغذِّيات التلاحم المعنوية والمادية، كالتساند والتآزر والتأكيد المستمر للشرعية والمهمات المشتركة الخ، والأفراد في هذه الظاهرة وإن اجتمعوا في مقولات عامة مشتركة إلا أن بينهم تفاوتًا في الخلفيات والبواعث، فمنهم القيادات الجائعة للنفوذ والهيمنة التي تسعى عبر توظيف الأفكار الحرورية لاستقطاب المتحمس الأعمى وتشتيت المزاحمين، وفيهم الشاب الصادق المخدوع الذي يستخدمه رؤوس الغلاة حطبًا في مشروعهم، وبينهما شرائح متعددة، سنتناول بعضها فيما يلي: فهناك الشاب الصادق المجروح من المظالم التي تقع على المسلمين وأهل السنة في كل مكان، وهوانهم على الناس، لكنه محدود العلم ومحدود الخبرة فلا يعلم كيف ينصر دينه وأمته ويسترد عزتها، فيرى هذا الخطاب الذي يتظاهر أنه يتحدى العالم، ويستقطبه بالبيانات الصوتية العنترية والمقاطع الهوليودية المُضلِّلَة التي تركز كلها على فكرة (الاستمالة بحكايات الغلبة)، والاستمالة بحكايات الغلبة نموذج تفسيري ظهر لي من خلال دراسة وثائق التنظيم يمكن تلخيصه بالحكاية التالية: “اجتمعت الأمم علينا ومازلنا ننتصر، وأن الأمم تخاف منا، وأن الناس يتوافدون يبايعون خليفتنا، وأن الشباب ينشقون عن الفصائل ويأتون إلينا، وأن العامة في المناطق التي نحكمها منبهرين بنا وبإدارتنا للاقتصاد ونهينا عن المنكر، وأننا في رفاه… الخ”. وللتعزيز البصري لهذه الحكاية يصورون أحيانًا أنفسهم متحلّقين حول ألوان الأطعمة، بل والحلويات، وأطفال البلدات الشامية حولهم جوعى محاصَرون، ويصورون عمليات حقيقة ووهمية، ويلتقطون صورًا لأرتال سياراتهم من زوايا فنية يراد بها صناعة الهالة وتعزيز حكاية الغلبة وتوالي الظفر. هذا التصوير لحكايات الغلبة الوهمية بغرض استقطاب الشباب وتجنيدهم؛ يجري إنتاجه بشكل دوري ومستمر في خطابات العدناني العنترية الرسمية للتنظيم، وفي مقاطعهم الهوليودية. فإذا اقترب منهم الشاب الصادق محدود العلم بدؤوا يغذونه بالتأويلات الدينية المغلوطة والاقتباسات العشوائية من كتب التراث التي تؤكد له بشكل مستمر شرعية وبسالة عمله، بل و(كفر وردة وضلال) كل المنافسين الجهاديين! فضلًا عن (كفر وردة) قطاعات العلم والدعوة والإصلاح والثقافة في دول المسلمين اليوم، وأن كل العالم اليوم تقريبًا عملاء للنظام العالمي وأنهم هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة القائمة في وجهه، وأنه يرتعد خوفًا منهم. وقد يكون مثل هذا الشاب الصادق في نصرة الدين عنده شيء من العلم، وليس جاهلًا محضًا، ولكن عنده غيرة زائدة عن القدر الشرعي تحمله على التغاضي عن الانتهاكات الشرعية في الدماء المعصومة في سبيل مغايظة ومراغمة الدول المعاصرة، فما يزال به الأمر حتى يصل لتزيين تلك الجرائم العظيمة. وهذه الشريحة كثرت عنها الدراسات الحديثة ويسمونها أحيانًا (الشباب المسلم الغاضب) (angry Muslim youth)، ويفسرون بها سبب انخراط شباب مسلم من أصقاع متباعدة عاش حياته في العواصم الأوروبية أو في أنحاء العالم العربي في بعض كيانات الغلو، برغم أنه لم يكن بين هؤلاء الأفراد أي تكوينات فكرية مشتركة مسبقًا، لا سلفية ولا غير سلفية. وهناك شريحة -أيضًا- في قاعها النفسي العميق خدوش وشِجاج وقروح من تجربة اعتقال له أو لبعض أقاربه، فما يزال الكمد يتضخم حتى يصبح في سبيل الانتقام والنكاية يبحث عن أشد خطاب معارض للدولة التي اعتقلته، حتى لو كان خطاب غلاة سفاحين، فيتبناه للثأر وشفاء الغيظ في البداية، ويلتمس لهم المعاذير، ثم ما يلبث أن يصبح جزءًا عضويًا من هذا الكيان والخطاب، ويعادي أشد العداء كل عالِم أو داعية أو مثقف يبدي أدنى مرونة مع الدولة التي اعتقلته أو اعتقلت قريبًا له، قال الإمام ابن تيمية: “من اعتاد الانتقام لابد أن يقع في الظلم، فإن النفس لا تقتصر على قدر العدل الواجب لها”. وهناك -أيضًا- الشاب الذي فيه نزعة غريزية للبطش والعجرفة والتسلط والشِّجار، حتى قد يكون تورط مسبقًا بمشكلات في أقسام الشُّرَط، ووجد في خطاب الغلاة الجبروتي ما يشبع نهمته أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا، بلبوس ديني، فتجده يدخل مع الغلاة بحماسة، بل ربما يصوّر نفسه برشاشه وهو يهين أحد المخالفين بتلذذ، كما قال ابن تيمية: “وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله” (الفتاوى: [28/207]). ولدى هذه الشريحة قابلية واسعة جدًا لأي تأويل ديني يعزز هذا السلوك العنجهي المُحبّب لها، واستعداد واسع لتخطئة المعلومات الشرعية غير الملائمة. وهناك شريحة -أيضًا- يمكن توصيفها بصورة أدق باعتبار أنها لم تدخل مع الغلاة والغلو بعد اكتماله النهائي، وإنما واصلت الطريق التدريجي معها لاعتبارات صلات تاريخية، بحيث أن كل خطوة ترقّق ما بعدها، فقد يكون شارك مع بعض الجماعات في جهاد مشروع في أصله، ونشأت بينهم علاقات حميمية بحيث يمثلون له (سند وعزوة) لا يحتمل الغضاضة عليهم، فيتأول لهم بصورة متوالية كل دركة ينزلونها في مشروع الغلو حتى يصبح جزءًا من المنظومة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد قال الإمام ابن تيمية: “ولأجل هذا وَقَع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض، بالمعاشرة والمشاكل” (الاقتضاء: [1/547]). وهناك شريحة -أيضًا- تكثر في القيادات والمرجعيات داخل جماعات الغلو، يكون لديها هوى خفي في شهوة الرياسة والنفوذ، فتجدها توفر المستندات والتأويلات لشرعنة الغلو، إما لحصد الحضور داخل المنظومة، أو لتوسيع هيمنة الجماعة، أو لكسر المنافس الجهادي، ولدى هذه الشريحة قابلية واسعة للتأويلات المساندة لسلطتهم بسبب هذا الهوى الخفي، ولصرف المعطيات الشرعية التي تقلص هيمنتهم عن ظاهرها. وإذا زاد الباحث في فحص هذه الظاهره فسيلاحظ المعطى المفاجئ فعلًا، وهو أن قطاعًا واسعًا من المنتسبين للغلاة ممن قاموا بجرائم داخل المجتمع المسلم وكان لها دوي إعلامي؛ ليس لهم تجربة تديّن سابق أصلًا، بل بعضهم ذكر والده في مقابلة معه أنه كان يتغيب عن الصلاة في المسجد، ونشر الإعلام لشخص آخر حياته الصاخبة بالموسيقي والمحرمات، ونحو ذلك، بما يعني أنه لم يوجد لهم تجربة كافية للتشكل بأي منظومة شرعية أصلاَ. وأما ما تعلنه جماعات الغلاة من الاستدلالات والاحتجاجات والاستشهادات بالقرآن والحديث وتراث أهل السنة، فعامته لا يخرج عن آلية (وضع نصوص الشرع ونصوص العلماء في غير موضعها)، وسأضرب لذلك أمثلة تبيّنها: فتجدهم يدورون حول عدة مفاهيم قرآنية وأثرية مثل: الكفر بالطاغوت، وكفر الحكم بغير ما أنزل الله، وكفر تولي الكفار، وقتال أبي بكر للمرتدين، ونحوها، فيضعونها في غير موضعها بتجريدها من قيودها وشروطها وموانعها، فمثلًا يأتون إلى من أَجَّلَ تطبيق بعض الأحكام الشرعية للعجز وعدم القدرة والإمكان، فينزلون عليه كفر الحكم بغير ما أنزل الله، برغم أن أهل العلم كافةً لا يختلفون أن من شروط التكليف أصلًا الوسع والاستطاعة. أو يأتون إلى النصوص الشرعية في ردة من تولى الكفار وناصرهم على استئصال المسلمين وعلو كلمة الكفر وظهور دين الكفار، ثم يسقطونها على شخص في أحد الكيانات التي ينازعونها، وغاية حجتهم صورة يتناقلونها بينهم بشيء من التهويل فيها جلوسه وتبسمه مع مسؤول كافر في أحد الدول المعاصرة، ويجعلونها حجة على مظاهرة الكفار على المسلمين! برغم أن أهل العلم لا يختلفون أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ السفراء والرسل وفاوض الكفار وحاورهم، وتبسم وتلطف لبعضهم بحسب المصلحة الشرعية الراجحة. فإذا تأمل الباحث الموضوعي هذه الصورة بكاملها، في البواعث والاستدلالات، تبيّن له أن حصيلة الخلل مُركّب من أمرين غالبًا: الغلط في العلم، واتباع هوى النفس. وهل هذا استنتاج شخصي؟ لا، بل هذا أمر نبّهنا عليه القرآن، وإليه ترجع عامة أصول الخلل في التيارات الفكرية المنحرفة المنتسبة إلى الإسلام طوال التاريخ، وقد قال الله سبحانه: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم من الآية:23]. واتباع الظن غلط في العلم وهو من جنس الشبهة، واتباع الهوى خلل في الإرادة وهو من جنس الشهوة، وأعمال ابن آدم هي حصيلة العلم والإرادة، فتكمل وتنقص بحسبهما، وقال الإمام ابن تيمية: “إذا خالط الظن والغلط في العلم هوى النفوس ومناها في العمل؛ صار لصاحبها نصيب من قول الله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ} [النجم من الآية:23]”. وقد كان الإمام ابن تيمية يكرر هذا النموذج التفسيري للتيارات المنحرفة كثيرًا، كقوله: “كل من خالف الرسول لا يخرج عن: الظن، وما تهوى الأنفس”، وقال: “عامة مواضع التفرق والاختلاف تصدر عن: اتباع الظن، وما تهوى الأنفس”، وقال: “وثمّ قسم آخر وهم غالب، وهو أن يكون له هوى فيه شبهة، فيجمع الشهوة والشبهة”. واستعمل ابن تيمية هذا المعنى -أعني تركُّب الأمر من الظن والهوى- في تفسير كثير من الفتن في الدماء والمحدثات في أصول الدين. (انظر مثلًا: الاستقامة: [2/253]، منهاج السنة: [4/543]، النبوات: [1/420]). وكلامه في هذا كثير منتشر، كقوله مثلًا: “الباغي قد يكون متأولًا معتقدًا أنه على حق، وقد يكون متعمدًا يعلم أنه باغٍ، وقد يكون بغيه مركبًا من شبهة وشهوة، وهو الغالب” (المنهاج: [4/385]). فالشبهة تفسد العلم والتصور والإدراك، فيرى الأمور على غير ما هي عليه، في فهم النص وتصور الواقع، كليهما. وعامة المحاولات التي سعت لتفسير (ظاهرة الغلو) دخل عليها نقص الدقة من جهة التفسير الاختزالي للظاهرة، كمن حاول نفي أن يكون لهم شبهة في العلم، أو من جعلهم صادقين عقائديين ضد الطغيان المعاصر ولم يتفطن للهوى الظاهر والخفي، أو من جعلهم كلهم -أفردًا وقيادات- مجرد سياسيين مطلقًا لا بواعث صادقة عندهم أو عند بعضهم البتة، أو من جعلهم مجرد صنيعة استخباراتية محضة، أو من نفى عنهم مطلقًا أية اختراق خارجي، فكل هذه التفسيرات غير دقيقة، والأدق -في نظري- أن هذه الظاهرة (مركبة)، فيها شبهة في العلم، ونوع هوى في الإرادة، وهم شرائح متفاوتة البواعث والمقاصد والأغراض وإن تقاسموا مقولات نهائية مشتركة فيها انحراف وإجرام. هذه جولة مختصرة حول ظاهرة الغلو الجماعاتي، هدفها فقط بيان (التركيبية) في هذه الظاهرة، ولمزيد التفصيل يمكن مراجعة خمس دراسات سابقة: (1-رسالة إلى المنتسب لتنظيم الدولة. 2-قتل الأهل والأقارب عند تنظيم الدولة. 3-منزلة المجاهدين عند تنظيم الدولة. 4-تفجير مساجد أهل السنة. 5-التعبد لله بتقبيل أقدام الولاة). • حجة (كثرة الاستشهاد دليل الامتداد): إلى أي مدرسة فكرية يرجع الغلو؟ ومن أين استمدوا أفكارهم في استحلال دماء المسلمين؟ للجواب عن هذا السؤال يستخدم بعض الناس حجة خلاصتها أن (كثرة الاستشهاد دليل الامتداد)، وكمثال على ذلك يقولون: “طالما أن بعض الغلاة يُكثِر من الاستشهاد بابن تيمية فهو امتداد له وتطبيق لفكره ونتيجة لفقهه”، ويتحاشى هؤلاء عادةً الفحص والتمحيص لعلاقة الفكر المُستشهَد به، بتطبيقات المُستشهِد. وسنعرض هاهنا أربعة نماذج لنبرهن بها عدم دقة هذه الحجة، وأنه قد يوجد في عالم الأفكار والتيارات كثيرٌ ممن يستشهد بفكر ويكثر من الإحالة عليه والنقل عنه ومع ذلك لا يقبل الباحث والمتابع الإقرار للمُستشهِد بصحة استشهاده، إما لغلط في العلم أو هوى في التأويل أو ما هو مركب منهما، وهذه النماذج الأربع هي (الفراعنة والدستور الديمقراطي، إيران وآل بيت النبوة، الحداثيون والشاطبي، الخوارج والقرآن). أ-النموذج الأول: الفراعنة والدستور الديمقراطي: حين يستعرض الباحث سيرة عتاة المستبدين في العالم العربي كالأسد والقذافي وزين العابدين بن علي وأشباههم، وما فعلوه من الاضطهاد والقمع والحياة الاستخباراتية واستحلال الدماء والأموال، ثم يستعرض خطاباتهم وكلماتهم، يلاحظ أنهم جميعًا يحتجون ويستشهدون بمبادئ الحريات والحقوق والديمقراطية الخ، بل ويرصعون دساتيرهم -التي هي أعلى وثيقة قانونية في الدولة- بمثل هذه الشعارات، وهذه بعض الأمثلة: في دستور سوريا الأسد: “الحرية حق مقدس، والسيادة للشعب، ولكل مواطن حق الإسهام في الحياة السياسية، وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم وكرامتهم، ولا يجوز تعذيب أحد، جسديًا أو معنويًا، أو معاملته معاملة مُهينة، والمساكن مصونة، لا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بحسب القانون، ويصبح المرشح رئيسًا للجمهورية بحصوله على الأكثرية المطلقة” (دستور الجمهورية العربية السورية، المواد: 2، 25، 26، 28، 31، 84). وفي دستور ليبيا القذافي: “ليبيا ديمقراطية، والسيادة للشعب، والملكية العامة للشعب، حرية الرأي مكفولة، القضاة مستقلون، الخ” (دستور الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية، المواد:1، 8، 13، 28). وفي دستور اليمن بعهد علي عبد الله صالح “الشعب مالك السلطة، ولكل مواطن الحق في الإسهام في الحياة السياسية، وللمواطن حق الانتخاب والترشيح، وتداول السلطة سلميًا، ولا يجوز لأي شخص تولي منصب الرئيس لأكثر من دورتين، والقضاء سلطة مستقلة، وتؤكد الدولة العمل بحقوق الإنسان، والثروات الطبيعية تستغل للمصلحة العامة” (دستور الجمهورية اليمنية، المواد:4، 5، 6، 8، 42، 43، 112، 149). ونحو هذا في كل دساتير الدول الجبروتية الفاسدة في العالم العربي، ويكثرون -أيضًا- من الاستشهاد بهذه المفاهيم في خطاباتهم وكلماتهم في المحافل. فهل يمكن أن يقول باحث موضوعي إن مفاهيم الحرية وسيادة الشعب وكرامة الشعب ومنع التعذيب وصيانة المساكن وحق الإسهام في الحياة السياسية والانتخابات هي المسؤولة عن عنف هؤلاء المستبدين وبطشهم وإرهابهم لأنهم يعلنون دومًا الاستناد لها ومرجعيتها ولأن (كثرة الاستشهاد دليل الامتداد)؟ أم أن هذا مجرد توظيف وتطويع واستغلال؟! وليس المراد بهذا النموذج القول بأن الغلاة مماثلون للمستبدين في مدى الإيمان بالشعارات التي يرفعها كل منهم، لا قطعًا، بل المقصود فقط بيان خطأ الاحتجاج بأن (كثرة الاستشهاد دليل الامتداد). فلو قال قائل: فلماذا تتابع كل هؤلاء الفراعنة العرب على اختيار (الفكر الديمقراطي) لتبرير جرائمهم؟ فالجواب: لأن المجرم يبحث (تلقائيًا) في مجاله التداولي عن أكثر منظومة فكرية لها قبول وجاه، وفي النظام الدولي المعاصر تعتبر مبادئ الفكر الديمقراطي هي الفكر الذي يحقق ذلك. ولذلك لا تجد أحدًا يوافق أصلًا على صحة هذه الاستشهادات والاحتجاجات، ولا تجد أحدًا يقول إن جرائم الاستبداد هي تطبيق للدساتير الديمقراطية، لأن هذا مؤداه (تسليم الشرعية الديمقراطية والحقوقية للمجرم). ب-النموذج الثاني: إيران وآل بيت النبوة: حين عرض الدستور الإيراني أسس النظام قال: “على أساس الكتاب، وسُنَّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين” (الدستور الإيراني، المادة: 2/أ). ويعني بالمعصومين الأئمة الاثني عشر من آل البيت وهم علي والحسن والحسين وذريته، رضوان الله عليهم، ويدخل في العصمة عندهم طبعًا النبي صلى الله عليه وسلم وابنته فاطمة رضي الله عنها. وينص الدستور على صيغة اليمين التي يؤديها رئيس الجمهورية “مستعينًا بالله ومتبعًا لنبي الإسلام والأئمة الأطهار عليهم السلام” (الدستور الإيراني، المادة:121). وهؤلاء الأئمة الأطهار الذين تُظهِر إيران اتباعهم ويُقسِم رئيس الجمهورية على ذلك؛ هم هؤلاء الأئمة الاثنا عشر من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والتصور التفصيلي لفقه (آل بيت النبي صلى الله عليهم وسلم) عندهم يجسده المذهب الشيعي الاثنا عشري، كما ينص الدستور الإيراني صراحة: “الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنا عشري، ويبقى هذا المبدأ قائمًا وغير قابل للتغيير إلى الأبد” (الدستور الإيراني، المادة:12). وفي المادة المتعلقة بطرق تعديل الدستور نص الدستور على الأحكام المطلقة التي لا تقبل التعديل ومنها “المذهب الجعفري الاثني عشري غير قابل للتعديل” (الدستور الإيراني، المادة:177). حسنًا، السؤال هنا: هل تعرف بالله عليك عالمًا أو مثقفًا مسلمًا يُصدِّق فعلًا أن هذه الجرائم التي تقوم بها إيران وميليشياتها في التنكيل والتفنن في التعذيب والتقتيل لأهل السنة أنها امتداد وتطبيق لفقه وأخلاق آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم بناءً على أن (كثرة الاستشهاد دليل الامتداد)؟! لا شك أنه لا يوجد أحدٌ أصلًا من المسلمين يُصدّق هذا الهراء! فهذا مما يبيّن خطأ هذه الحجة وهي أن (كثرة الاستشهاد دليل الامتداد)، وأي باحث يدرك أن المنتسبين للتشيع متفاوتون، ففي كثير من عوامهم البسطاء من هو جاهل بفقه آل البيت ويتبع الظن والباطل والوهم الذي يظنه راجع إليهم، ويظن أنه ينصرهم بذلك، وفي أهل الاطلاع فيهم كثير جدًا ممن يدرك بطلان المذهب في نفسه أو تعتريه شكوك كثيرة فيه لكن فيه هوى، إما هوى مشاحنة للخصوم أو هوى نفوذ أو غير ذلك، وفيهم من حاله مركب من الأمرين. وليس المراد هاهنا القول بأن العلاقة بين الشيعة وآل البيت، والعلاقة بين الغلاة والتراث، هي علاقة متماثلة، بل المراد فقط إيضاح خطأ الاحتجاج بأن كثرة الاستشهاد دليل الامتداد، فكثرة استشهاد المنتسبين للتشيع بفقه آل البيت ليست دليلًا البتة على صحة كونهم امتدادًا لهم. ومن طعن في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واتهمهم بأنهم مصدر الإرهاب باعتبار أن الإجرام الميليشياتي الشيعي يحتج بهم ويكثر من الاستشهاد بهم؛ فتفسيره هذا ليس مقاومة لإرهاب هذه الميليشيات، بل هو من أشد ما يسعد هذه الميليشيات ويبهجها، لأنه يسبغ عليها شرعية البيت المطهر. ج-النموذج الثالث: الحداثيون والشاطبي: يعرف المتابعون اليوم أن الدراسات الحداثية في إعادة قراءة التراث الإسلامي سكبت من الإشادات والتنويهات بالإمام (الشاطبي) ما يملأ مكتبة الإسكندر! وتذكر هذه الدراسات أنها تسير على طريقة الشاطبي وأنها هي التي فهمته وأن مدارس أهل السنة السلفية والتقليدية هجرت فكر الشاطبي وإبداعه. (انظر مثلًا: الجابري، بنية العقل العربي، ص: [547]). ثم يعرض الحداثيون آراءهم الفقهية في مسائل الحرية وأحكام المرأة والجهاد والعلاقة بغير المسلم وأهل الذمة والحدود الجنائية الخ، ويزعمون أن هذا كله بناءً على تفطنهم واستعمالهم لمقاصد الشريعة التي بشَّر بها الشاطبي وقعّدها وأصّلها في موافقاته، ويُعيدون ويُبدؤون بإطراء الشاطبي. ويعرف أهل الخبرة بالفقه وأصوله أن الشاطبي لا علاقة له البتة بهذه الآراء التغريبية في مسائل الحرية والمرأة والجهاد والحدود الخ، لأن الشاطبي أصلًا من صقور المحافظة المذهبية في الفقه الإسلامي، وكلامه الكثير المنتشر في التعظيم البالغ لأئمة السلف واتباعهم، وتعظيم قاعدة (سد الذرائع)، وكلامه في التغليظ على جعل الخلاف حجة، والتشديد في منع تتبع رخص المذاهب، والفتيا بمشهور المذهب فقط، والتأكيد على اعتبار الجزئيات الشرعية وعدم إهمالها باسم الكليات، وتقديم المصالح الأخروية على الدنيوية، وتقديم النقل على العقل، وأن كل الأحكام تغطيها النصوص الشرعية، وتعظيم الشاطبي لمرجعية العالم وأن (المفتي قائم في الأمة مقام النبي) عنده، وتحذيره من الاعتراض على الكبار من أهل العلم، وتحقيره للفلسفة، الخ. حتى أنه نُسِب إلى التشدد والتعسير في الفتيا الفقهية وروى بنفسه هذه التهمة (انظر: الاعتصام، [1/28]). إذن لماذا يُظهِر الحداثيون هذه الإشادات بالشاطبي؟ الواقع أن الشاطبي وموافقاته ومقاصده لم يكن هو الحافز الحقيقي المحرك لهم لهذه التأويلات الفقهية لأحكام الشريعة التي ينشرونها، وإنما هي آراء تلقّوها من الفكر الغربي الحديث ولهم فيها هوى عظيم، ثم بحثوا في التراث الإسلامي عن تأصيل لها، فرأوا الشاطبي يؤكد على المقاصد العامة والضرورات الكبرى، فصارت لهم شبهة تركبت مع هواهم، فصاروا يذكرون الشاطبي وينوهون به ويشيدون بعبقريته، وحذاقهم يعلمون جيدًا التناقض بين موافقات الشاطبي والتغريب الفقهي، وأما عوام من دخل في هذه القراءات الحداثية فقد يقع عند كثير منهم التوهم فعلًا أن مقاصد الشاطبي تساند الآراء الفقهية المستغربة المحببة لهم، فيكون قد جمع بين اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ويكون حاله مركبة من شبهة وشهوة. والمراد هنا أن كثرة استشهاد الحداثيين بالشاطبي لا يعني صحة كونهم امتداد له، بل استشهادهم به دائر بين الغلط في العلم والهوى في التأويل، بما يعني أنه ليس دقيقًا أن كثرة الاستشهاد دليل على الامتداد. ومن وجه آخر فلو جاء شخص وقال: (إلى متى الصمت؟! يجب نقد الشاطبي وأنه سبب التغريب الفقهي!) فهذا القائل في الحقيقة لا يزعج الحداثيين البتة، وليس هذا نقدًا لهم ولا مناقشة لفكرهم، بل هو من أعظم ما يدخل السرور عليهم، حيث يؤكد لهم صحة مسارهم وشرعيتهم التراثية التاريخية. د-الخوارج والقرآن: معروف تاريخيًا أن الخوارج قاموا على الناس يطلبون تحكيم كتاب الله في الناس، كما قال ابن تيمية: “وأصل مذهب الخوارج تعظيم القرآن وطلب اتباعه”، وقال أيضًا “الخوارج لم يكونوا زنادقة بل كان قصدهم اتباع القرآن” (الفتاوى: [13/208]، الإخنائية: [213]). ومع ذلك سفكوا الدماء، وبقروا البطون، وكفّروا خيار المسلمين وفضلاءهم، وكان شرّهم على أهل الإسلام أعظم من خطرهم على أهل الأوثان. فهل يمكن أن يقول الباحث الموضوعي أن الخوارج هم امتداد للقرآن وتطبيق له وأثر من آثاره باعتبار أن كثرة الاستشهاد دليل على الامتداد؟! وهل يمكن أن يقول شخص “كيف نتساءل عن سبب خروج الخوارج وهم يحتجون بالقرآن فمؤكد أن القرآن هو سبب غلوهم”؟! لا، قطعًا، فليس في من يُظهِر الإسلام من يقول بذلك، وإن كان قد يعتقده في الباطن من فيه نفاق يواريه، بل جميع من يُظهِر الإسلام كالمتفقين على أن ما يزعمه الخوارج من القيام بالقرآن وتعظيمه والعمل به والتشوف لتحكيمه؛ أنه غلط في الفهم وسوء في التصور وخطأ في الاستدلال وجهل حاد، كما قال الإمام ابن تيمية: “وصار الخوارج يتتبعون المتشابه من القرآن، فيتأولونه على غير تأويله، من غير معرفة منهم بمعناه، ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن” (الفتاوى: [13/210]). ولفت ابن تيمية الانتباه إلى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم المسبقة إلى مسألة (غلط الفهم) عند الخوارج فقال: “فإن الخوارج لم يكونوا زنادقة منافقين، بل كان قصدهم اتباع القرآن، لكن لم يكونوا يفهمونه، كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» (صحيح البخاري؛ برقم: [3344])، فالمبتدع العابد الجاهل يشبههم من هذا الوجه” (الإخنائية: [213]). فإذا ثبت هذا، وهو أن القرآن بلغ الغاية في البيان والهدى والدلالة والإرشاد، ومع ذلك تأوّله الخوارج ووضعوه في غير موضعه بالغلط والجهل وسوء الفهم، حتى استحلوا به دماء المسلمين، فكيف يستبعد أن يتأول بعض الغلاة المعاصرين بعض تراث وفتاوى أهل السنة ويضعها في غير موضعها ويسيء فهمها وتصورها وتنزيلها على الواقع؟! ومن الجدير بالذكر التنبيه إلى أن هذ الغلط في الفهم والجهل في التصور والاستدلال عند الخوارج لا يسلم من هوى ظاهر وخفي، ولذلك من حذق السلف سمّوهم (أهل الأهواء)، فالخوارج وإن كان يغلب عليهم التدين بالباطل وقد يظهر منهم الصدق في القيام بالتكفير والقتال المنحرف؛ إلا أن من تأمل سيرتهم استبان له دقة السلف في تسميتهم أهل الأهواء، فيظهر عندهم أهواء كثيرة تمتزج بغلطهم في العلم. ومن ذلك مثلًا أن نجدة بن عامر لما وقع ابنه في مكفّر أحدث عندهم (العذر بالجهل) (مقالات الإسلاميين، الأشعري، ت ريتر: [90]) وقايةً لابنه مما لم يكونوا يقبلونه سابقًا، كما أن فرقة الحسينية من الخوارج “يقولون بالإرجاء في موافقيهم خاصة” (مقالات: [119]) وهذه امتيازات حزبية باعثها هوى العصبية، وكان قطري بن الفجاءة يستخلف على جماعته رجلًا من قبيلته فشكوه وعاتبوه فكفّر من عاتبه فثارت بينهم الانشقاقات (مقالات: [87])، ونافع بن الأزرق أحدث تكفير من لم يهاجر إليه (مقالات الإسلاميين: [86]) وهذا فيه طلب رياسة ظاهر، ونحو هذه الظواهر التي تؤكد امتزاج الهوى بالغلط في الفهم عند النموذج الرئيسي للغلاة وهم الخوارج، وقد أشار الإمام ابن تيمية إلى هوى الرياسة عند بعض الخوارج (منهاج السنة: [5/250]). • التراث السني كرأسمال رمزي: كان علم الاجتماع الماركسي يطرح مفهوم الطبقة (Class) مختزلة في البعد الاقتصادي، وفي سياق منافرته المعروفة لماركس أضاف عالم الاجتماع الألماني الأشهر ماكس فيبر (1920م) مكونات جديدة ضمن مفهوم المكانة (Status)، ثم واصل عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو (2002م) هذا المسار ضمن مفهوم (الرأسمال الرمزي)، وهو امتداد لفيبر (Susen & Turner (ed)، The Legacy of Pierre Bourdieu، p.34)، وهو بالمعنى العام: أي مورد من موارد المكانة والقيمة ضمن ثقافة معينة، وبات يوظّف تخصيبيًا في سياقات كثيرة، من ضمنها دراسات مصادر الشرعية السياسية، ولقي رواجًا واسعًا. و(التراث السني)، سيما رموزه من أئمة الدين، هو من أعظم أرصدة الرأسمال الرمزي، لأنه يتضمن الحق والصدق والهدى في نفس الأمر، ولما له في نفوس المسلمين من المكانة والجاه والتوقير والانتماء، ولذلك فقد يقوم به ويرفعه صادق في العمل بموجبه، وقد يرفعه ويوظّفه من يخالفه بسبب هوى وأغراض، ظاهرة أو خفية. وقد نبّهت النصوص الشرعية على التحذير من ظاهرة توظيف الدين للمصالح الخاصة كبناء النفوذ أو الثروة وأشباه ذلك، ويجمعها أهل العلم في أبواب خاصة بالإخلاص والتجرد ونحوها، كحديث الترمذي «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ» (جامع الترمذي؛ برقم: [2654]). ويكثر في كلام السلف التنبيه على هذه الظواهر المنحرفة لحرك الدين في المجتمع، كالبيت المتداول لإمام أتباع التابعين في زمانه عبد الله بن المبارك: يا جاعل الدين له بازيًا *** يصطاد أموال المساكين (روضة العقلاء: [37]). وهذا تشبيه بليغ للغاية من ابن المبارك، حيث صور الدين كجارح قد يتخذه بعضهم وسيلة صيد لاقتناص الفريسة من الحظوظ الدنيوية. وهذا لا يقتصر على (العلم)، بل حتى (الجهاد) فقد كان من رؤوس الملوك من يقاتل منافسيه لحظوظ الرياسة ويظهر ذلك في قالب الجهاد الشرعي، ويدخل في هواه بعض المنتسبين للفقه فيسبغون الشرعية الجهادية على قتال الملك، وقد فصّل هذه الظاهرة الإمام ابن تيمية في مواضع (مثلًا: الفتاوى: [4/450-452]). وهل كل من ظهر للناس منتسبًا إلى تراث أئمة السنة يكون نتيجة له ومحسوبًا عليه؟ لا، طبعًا، لأنه قد يكون من باب الجهل والغلط في الفهم وسوء التصور وخطأ التطبيق وهو نوع من (اتباع الظن)، وقد يكون تطبيقه لبعض الأحكام وتنزيلها على بعض الوقائع هو نوع من التوظيف بسبب الهوى الظاهر أو الخفي، أو قد يكون مركبًا منهما وهو الأكثر في الواقع. وكلا الأمرين حاضران بشدة في النصوص الشرعية، فقد نبهت النصوص على خطر القول على الله بغير علم والتشديد في الجرأة على الفتيا وهي من أعظم أسباب الغلط في العلم، كما نبّهت على خطر اتباع الهوى ابتغاء صرف وجوه الناس ونيل الجاه والسلطان أو هوى المشاحنة والشنآن، وكثيرًا ما يجر الهوى صاحبه إلى تبني التفسيرات المغلوطة إذا كان فيها سندٌ لهواه. الرأسمال الرمزي في خطاب الغلاة: يُظهِر الغلاة في خطابهم الرسمي الاستناد لثلاث مصادر: القرآن، والحديث النبوي، وكتب التراث الإسلامي بمشاربه المختلفة، وسأعرض نماذج لذلك: فأما إظهار (الاستشهاد بالقرآن)، فأعلى مصدر رسمي للتنظيم هو البيانات الرسمية بصوت المتحدث الرسمي العدناني، وهذه نماذج منتخبة من بياناته وعدد الآيات فيها: -بيان بعنوان (ثم نبتهل): الاستشهاد بـ(11) آية قرآنية. -بيان بعنوان (الآن الآن جاء القتال): الاستشهاد بـ[13] آية قرآنية. -بيان بعنوان (إنما أعظكم بواحدة): الاستشهاد بـ[13] آية قرآنية -بيان بعنوان (دولة الإسلام باقية): الاستشهاد بـ[17] آية قرآنية. -بيان بعنوان (إن ربك لبالمرصاد): الاستشهاد بـ[20] آية قرآنية. -بيان بعنوان (هذا وعد الله): الاستشهاد بـ[25] آية قرآنية. -بيان بعنوان (السلمية دين من؟): الاستشهاد بـ[35] آية. وأما إظهار (الاستشهاد بالحديث النبوي) فتنظيم الدولة شحن مجلته الرسمية باستدعاء الأحاديث النبوية الشريفة، وينقل عن المصادر المشهورة مثل: صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن النسائي، سنن ابن ماجه، الدرامي، مسند أحمد، ابن حبان، الحاكم، الطبراني، الخ. (انظر مثلًا: مجلة دابق، ع: [4]، ص: [15]، [30]، [33]، [34])، (مجلة دابق، ع: [5]، ص: [7]، [8]، [25]، [26]، [27]، [29])، (مجلة دابق، ع: [6]، ص: [16]، [17]، [26]، [63]). ويدخل في هذا دخولًا أوليًا توظيف (أحاديث الملاحم) وهي من الأمور والأهوال التي تكون آخر الزمان كحديث دابق ونحوه. وطريقتهم في التخريج أنهم يذكرون اسم المصدر هكذا (رواه البخاري، رواه مسلم، رواه الترمذي، الخ) ولا يذكرون الموضع، لا بالجزء والصفحة، ولا برقم الحديث، ويضيفون أحيانًا الحكم على الحديث فيقولون: حديث حسن، حديث صحيح. ولا ينقلون أحكام الأئمة عليه ولا يبينون وجه التصحيح إن كان هناك خلاف في تصحيحه وإعلاله. وأما إظهار (الاستشهاد بمصادر التراث الإسلامي) بمشاربه المختلفة، فسنأخذ عينةً لفحص هذه المصادر، وهي مجلة تنظيم الدولة الرسمية (مجلة دابق)، وهي مجلة بات يعرفها الإعلام الليبرالي، ويكتب عنها، ويتحدث عن محتوياتها ووزنها التمثيلي (انظر مثلًا: جريدة الرياض؛ العدد: [17046] والعدد: [17053]، والعدد: [17060]. وجريدة الجزيرة؛ العدد: [15842]. وصحيفة عكاظ؛ العدد: [5292]). وهاهنا عرض لكل عدد من أعداد هذه المجلة، وأسماء المصادر التراثية التي صرحوا بالرجوع لها، وأنبّه أن أرقام الصفحات هنا تشير إلى رقم الصفحة في مجلة دابق نفسها من ذات العدد، أي موضع ورود المرجع في المجلة: -العدد الأول: تفسير ابن كثير؛ ص: [14]، تفسير القرطبي؛ ص: [23]، السنن الواردة في الفتن لأبي عمرو الداني؛ ص: [35]. -العدد الثاني: تفسير الشوكاني؛ ص: [6]، تفسير الطاهر ابن عاشور؛ ص: [8]، فتح الباري لابن حجر؛ ص: [11]، تفسير ابن كثير؛ ص: [21]، ابن القيم مختصر الصواعق (22]، زاد المعاد لابن القيم؛ ص: [22]، القول المنبي للسخاوي؛ ص: [22]، تفسير الطبري؛ ص: [22]، الدرر السنية؛ ص: [22]، النبوات والواسطية لابن تيمية؛ ص: [23]، مفتاح دار السعادة والصواعق المرسلة وشفاء العليل ثلاثتها لابن القيم؛ ص: [23]، التبيان في أقسام القرآن لابن القيم؛ ص: [27]، الفوائد لابن القيم؛ ص: [29]، ابن الصلاح عبر إغاثة اللهفان؛ ص: [30]. -العدد الثالث: مدارج السالكين لابن القيم؛ ص: [5]، شرح السنة للبغوي؛ ص: [7]، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير؛ ص: [7]، كفاية الحاجة شرح ابن ماجة للسندي؛ ص: [7]، مدارج السالكين لابن القيم؛ ص: [8]، إتحاف الجماعة في أشراط الساعة للشيخ حمود التويجري [8]، مجموع الفتاوى لابن تيمية؛ ص: [10]، تفسير ابن كثير؛ ص: [11]، جامع العلوم والحكم لابن رجب؛ ص: [26]، مدارج السالكين لابن القيم(26]، بهجة المجالس لابن عبد البر؛ ص: [29]، زاد المعاد لابن القيم؛ ص: [30]، فتح الباري لابن حجر؛ ص: [30]، تفسير ابن كثير؛ ص: [31]، الفروسية لابن القيم؛ ص: [31]، مجموع الفتاوى لابن تيمية؛ ص: [31]، مدارج السالكين لابن القيم؛ ص: [33]، روضة المحبين لابن القيم؛ ص: [34]، الزهد للإمام أحمد؛ ص: [34]. -العدد الرابع: الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب؛ ص: [10]، الطبقات الكبرى لابن سعد؛ ص: [11]، فتح الباري لابن رجب؛ ص: [16]، جامع العلوم والحكم لابن رجب؛ ص: [16]، شرح صحيح مسلم للنووي؛ ص: [17]، مدارج السالكين لابن القيم؛ ص: [37]. -العدد الخامس: تفسير الشنقيطي؛ ص: [6-7]، تفسير الكشاف للزمخشري؛ ص: [7]، تفسير ابن الجوزي (زاد المسير)؛ ص: [8]، معجم البلدان لياقوت الحموي؛ ص: [28]. -العدد السادس: النقل عن الإمام مالك؛ ص: [9]، النقل عن الصاحب بن عبّاد؛ ص: [9]، شرح صحيح مسلم للنووي؛ ص: [10]، النقل عن الإمام محمد بن عبد الوهاب من عقيدته التي أرسلها لأهل القصيم؛ ص: [11]، النقل عن الفضيل بن عياض؛ ص: [14]، فضل علم السلف لابن رجب؛ ص: [17]، الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبد الوهاب؛ ص: [19]، الدرر السنية؛ ص: [19]، الفتاوى الكبرى لابن تيمية؛ ص: [19]. -العدد السابع: تاريخ الطبري؛ ص: [7]، البداية والنهاية لابن كثير؛ ص: [7]، تاريخ الطبري؛ ص: [18]، تاريخ ابن كثير؛ ص: [18]، تفسير ابن كثير؛ ص: [21]، تفسير الطبري؛ ص: [21]، الإيمان الأوسط لابن تيمية؛ ص: [22] و[23]، تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب؛ ص: [22]، الجواب الكافي لابن القيم؛ ص: [55]، سيرة ابن هشام؛ ص: [55]، الدرر السنية؛ ص: [60]، صفة النفاق للفريابي؛ ص: [63]، مجموع الفتاوى لابن تيمية[64]، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي؛ ص: [68]. -العدد الثامن: تاريخ دمشق لابن عساكر؛ ص: [12]، الإبانة الكبرى لابن بطة؛ ص: [12]، الاعتقاد للبيهقي؛ ص: [12]، تاريخ دمشق لابن عساكر؛ ص: [13]، مسند الفاروق لابن كثير؛ ص: [13]، جامع الأصول لابن الأثير؛ ص: [13]، المغني لابن قدامة؛ ص: [32]، الدرر السنية؛ ص: [32]، الإبانة الكبرى لابن بطة؛ ص: [39]، السنة لعبد الله بن الإمام أحمد؛ ص: [40]، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي؛ ص: [40]، الشريعة للآجري؛ ص: [40]، السنة لعبد الله بن الإمام أحمد؛ ص: [41]، السنة للخلال؛ ص: [41]، البداية والنهاية لابن كثير؛ ص: [41]، السنة لعبد الله بن الإمام أحمد؛ ص: [43-45]، اللالكائي؛ ص: [43]، مسائل أحمد وإسحاق بن راهويه؛ ص: [44]، تعظيم قدر الصلاة لابن نصر المروزي؛ ص: [44]، الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام؛ ص: [45]، السنة لابن أبي عاصم؛ ص: [45]، تيسير العزيز الحميد؛ ص: [46]، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي؛ ص: [46]، الكلمات النافعات للشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب؛ ص: [46]، الرسالة للإمام الشافعي؛ ص: [47]، المنثور في القواعد الفقهية للزركشي؛ ص: [47]، نواقض الإسلام للإمام محمد بن عبد الوهاب؛ ص: [48]، الرسائل الشخصية للإمام محمد بن عبد الوهاب؛ ص: [48]، السنة للخلال؛ ص: [49-51]، صفة النفاق للفريابي؛ ص: [49]، الإبانة الكبرى لابن بطة؛ ص: [49]، الفتاوى الكبرى لابن تيمية؛ ص: [50]، منهاج السنة لابن تيمية؛ ص: [50]، شرح صحيح مسلم للنووي؛ ص: [52]، مجموع الفتاوى لابن تيمية؛ ص: [52]، الدرر السنية؛ ص: [52]. -العدد التاسع: تفسير الطبري؛ ص: [9]، تفسير ابن المنذر؛ ص: [9]، غريب القرآن لابن قتيبة؛ ص: [9]، المغني لابن قدامة؛ ص: [12]، تفسير ابن أبي حاتم؛ ص: [13]، مجموع الفتاوى لابن تيمية؛ ص: [13]، مدارج السالكين لابن القيم؛ ص: [13]، جامع الأصول لابن الأثير؛ ص: [13]، الترغيب والترهيب للمنذري؛ ص: [13]، تفسير الطبري؛ ص: [18]، مغازي الواقدي؛ ص: [45]، الطبقات الكبرى لابن سعد؛ ص: [45]، زاد المعاد لابن القيم؛ ص: [45]، البداية والنهاية لابن كثير؛ ص: [47]، فتح الباري لابن حجر؛ ص: [48]. -العدد العاشر: مجموع الفتاوى لابن تيمية ص: [9-16]، المغني لابن قدامة؛ ص: [16]، مسائل الإمام أحمد وإسحاق رواية حرب؛ ص: [17]، الآداب الشرعية لابن مفلح؛ ص: [17]، مختصر منهاج القاصدين للمقدسي؛ ص: [17]، إحياء علوم الدين للغزالي؛ ص: [17]، غياث الأمم للجويني؛ ص: [19]، صبح الأعشى للقلقشندي؛ ص: [21]، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير؛ ص: [21]، الأحكام السلطانية للماوردي؛ ص: [22]، المحلى لابن حزم الظاهري؛ ص: [22]، البداية والنهاية لابن كثير؛ ص: [23]، المغني لابن قدامة؛ ص: [24]، زاد المعاد لابن القيم؛ ص: [29]، حلية الأولياء لأبي نعيم؛ ص: [45]، البداية والنهاية لابن كثير؛ ص: [46]، الترغيب والترهيب للمنذري؛ ص: [50]، المغني لابن قدامة؛ ص: [52]، الإنصاف للمرداوي؛ ص: [52]، المغني لابن قدامة؛ ص: [53]، تيسير العزيز الحميد لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب؛ ص: [56]، الكلمات النافعات؛ ص: [57]، مجموع الفتاوى لابن تيمية؛ ص: [57]، الدرر السنية؛ ص: [58-63]، مجموع الفتاوى لابن تيمية؛ ص: [63]. ويدخل في هذا دخولًا أوليا (توظيف معجم البسالات التاريخية) وهي المعارك الإسلامية ذات الصدى والجاه في التاريخ الإسلامي، والإيحاء بأن جرائمهم امتداد لتلك المعارك الشريفة، وسعيهم للالتصاق بهذه المعارك الفاضلة كثير منتشر في نصوصهم، ومن نماذجها قولهم في بيان رسمي: “فو الله لنعيدن بدرًا وأحدًا، لنعيدن مؤتة وحنين، لنعيدن القادسية واليرموك، لنعيدن اليمامة، ونعيد حطين وعين جالوت، ونعيد جلولاء والزلاقة، والزلاقة الثانية وبلاط الشهداء، سنعيد الفلوجة الأولى والثانية، وقسمًا، قسمًا؛ لتعودنّ نهاوند..” (العدناني، بيان بعنوان: فيقتلون ويقتلون). • تحليل نتائج الإحالات المرجعية: شاهد القارئ الكريم محاولة مصممي خطاب الغلو أن يظهروا أنهم يعبرون عن رؤية علمية لا مجرد بلطجة عسكرية، وأن جرائمهم في استباحة دماء المعصومين هي مقتضى تقريرات أهل العلم، وأنهم صدروا عن كتب العلوم الشرعية ذات الثقل والوزن، وأن صلتهم بكتب التراث وثيقة. وتبعًا لذلك يُظهِرون الإحالة إلى كل العلوم الإسلامية، ويوصلون رسالةً للقارئ أنهم لا يحصرون أنفسهم في علم العقيدة والتوحيد، ومن هذه العلوم: كتب التفسير (الطبري ابن الجوزي القرطبي ابن كثير السيوطي الشنقيطي ابن عاشور مثلًا)، وشروحات الأحاديث (شرح البخاري وشرح مسلم مثلًا)، والفقه المقارن (المغني مثلًا)، والسيرة النبوية (الواقدي وابن هشام مثلًا)، وغريب الحديث (النهاية لابن الأثير) وكتب التواريخ والطبقات والتراجم (تاريخ الطبري وتاريخ دمشق لابن عساكر والبداية والنهاية مثلًا)، بل حتى كتب السلوك والتصوف كإحياء علوم الدين للغزالي. ومن الواضح جدًا إظهارهم لأنفسهم أنهم ليسوا حكرًا على عالم معيّن أو مدرسة بعينها، ولذلك ينقلون عن علماء من مذاهب مختلفة: فمن المالكية مثلًا: ابن عبد البر والقرطبي، ومن الشافعية: الجويني والماوردي والغزالي وابن الصلاح والنووي وابن كثير والزركشي وابن حجر والسخاوي. ومن الحنابلة: ابن الجوزي وابن قدامة وابن مفلح وابن رجب والمرداوي. كما يظهرون الإحالة إلى كتب ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب. ومذهب أهل الحديث المستقلين كابن حزم الظاهري والشوكاني. كما يُظهِرون الإحالة إلى العلماء المعاصرين المعتنين بعلم مقاصد الشريعة كالإمام الطاهر بن عاشور، بل وحتى الزمخشري المعتزلي ينقلون عنه من تفسيره الكشاف المعروف. ثم بعد هذه الاقتباسات العشوائية من القرآن والحديث وكتب التراث يتم استعمال المادة في تبرير استحلال دماء المعصومين وأموالهم، وهو أمر لم يفهمه من هذه المصادر عامة علماء أهل السنة طوال القرون، ويقع هذا الخلل عند الغلاة بذات المسلك المركب من الغلط في العلم والفهم والتصور، مع نوع من الهوى إما للحزب أو لبغض الخصم والمنافس. وعامة غلطهم في العلم منشؤه -كما سبقت الإشارة- وضع نصوص الشرع ونصوص العلماء في غير مواضعها، وتفريغ الأحكام من شروطها وموانعها. وهل تقتصر خطورة تقنية (تفريغ الأحكام من شروطها وموانعها) على الأحكام الشرعية فقط؟ لا، قطعًا، فأي منظومة تشريعية أو قانونية يستطيع أي سفاح أو مفسد -بجهل أو هوى أو مركب منهما- أن يستغل أحكامها في البطش بالناس مع تفريغها عن شروطها وموانعها. فمثلًا لو جاء شخص لأي قانون في العالم يحكم بأن (الخيانة العظمى عقوبتها الإعدام) وهي قوانين كثيرة تحكم بمثل هذا الحكم، ثم أخذ يوزّع التخوين على المخالفين، ورتّب جداول لاغتيالهم باعتبار حكومة البلد مقصّرة في تطبيق القانون، فهل يمكن أن يقول قائل أن هذا القانون هو سبب الإرهاب؟ أم سيقول أن هذا المجرم إنما يوظّف حكم الإعدام مع تفريغه من شروطه وموانعه بسبب جهله وسوء فهمه أو بسبب هواه وانحيازه؟! وهكذا لو جاء مجرم سفاح له هوى في النفوذ، في بيئة تعظّم الفلسفة والفكر الفلسفي، وأخذ يغتال منافسيه السياسيين ومن يواليهم من العلماء، محتجًا بأن كتب الفلسفة تقول “اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس”! فهل سيقبل عُشّاق الفلسفة هذا الفهم؟ أم سيقولون أن هذا توظيف وتطويع للفلسفة لخدمة برامج سياسية عسكرية إجرامية؟! وهكذا تفاوت تطبيق الحدود بين القاضي (العالم) بين المسلمين، والقاضي (الجاهل) بين الغلاة، فهل يقال إن جرائم القاضي (الجاهل) هي بسبب كتب الفقه الإسلامي؟! والمراد أن من يقول أن الغلاة هم مجرد مطبقين لتراث أهل السنة، أو من يقول هم الأجرأ في تطبيقه؛ أنه نظير من يقول إن أي حكم قانوني له شروط وموانع فمن طبقه بلا مراعاة شروطه وموانعه فهو المطبّق الحقيقي له، وهو الأجرأ، فهل يقول هذا من يحترم العلم والموضوعية؟ وهذا الأسلوب -أعني الظهور بمظهر المسلم والتكلم باللغة الشرعية مع حرف المسار إلى أغراض غير شرعية بجهل أو هوى أو بما هو مركب منهما- هل هو أسلوب كشفه لنا التاريخ فقط؟ لا، بل النبي صلى الله عليه وسلم نبهنا مسبقًا إلى حدوث مثل هذه الظاهرة وهذه التقنية في التضليل، ففي الصحيحين من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ظهور «دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ»، وحين سئل عن وصفهم ذكر أسلوبهم في الإغواء فقال: «نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» (صحيح البخاري؛ برقم: [3606]، صحيح مسلم؛ برقم: [1847]). فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم ظهور دعاة على أبواب جهنم يتكلمون باللغة الشرعية ذاتها، على أحد الوجهين في تفسير الكلام هنا، وهذا معنى عام يدخل فيه كل من شَرَكهم الوصف ولا يختص بطائفة بعينها، فقد يكون ممن يستخدم اللغة الشرعية لتبرير استحلال الدماء، أو ممن يستخدمها لتبرير استحلال الفواحش. • مسلك العلماء والمصلحين في تجريد الغلو من تلبّسه بالشرعية السنيّة: تكرار العلماء والدعاة والمصلحين لقضية بطلان اتصال الغلو بالمصادر السنية، وأن الغلو ليس امتدادًا له، وكشف زيف هذا الانتساب؛ هو كلام كثير منتشر، وصدرت فيه عشرات البيانات ومئات الفتاوى والتنبيهات والخطب والمحاضرات والمواعظ، ولن يحوجنا للاستشهاد عليه، وهو الخط الذي تبنّته أيضًا المؤسسة العلمية الرسمية في السعودية، ولكن ومع ذلك فسأنقل شواهد مقتضبة لبعض العلماء الرسميين فقط: يقول بعض العلماء في بيان لهم: “وإن هيئة كبار العلماء لتستنكر ربط أفكار الإرهاب بمؤلفات أهل العلم المعتبرة” (بيان هيئة كبار العلماء، الدورة رقم [80]، 19/11/1435هـ). ويقول عالم آخر عن نسبة الغلو لمنهج السلف ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب “ما عليه الفرق الضالة من ينسبه إلى مذهب أهل السنة، ينسبه إلى الدرر السنية؛ هذا كذب وافتراء” (الشيخ صالح الفوزان، محاضرة التحذير من دعاة السوء، 06/01/1436هـ). ومثل هذه المواقف والتأكيدات متكررة ومعروفة، ولا حاجة أن نطيل بشواهدها، وسيأتي إشارات إلى نماذج ومواقف مشابهة أيضًا. • انزعاج الغلاة ممن يكشف انفصالهم عن المشروعية السُّنيّة: يعرف القارئ المتابع أن لتنظيم الدولة بيانات صوتية رسمية تصدر تباعًا مع الأحداث، بصوت المتحدث الرسمي لهم أبي محمد العدناني، وما رأيت شيئًا في خطابهم أكثر انزعاجًا وانفعالًا ممن يكشف انفصالهم عن منهج وطريقة أهل السنة، وزيف انتساب جرائمهم إلى أئمة السلف. ولا يثير حفيظة متحدثهم شيء مثل من يشعل الأضواء على قسمات التشابه بينهم وبين مسالك الغلاة والحرورية والخوارج في إنزال أحكام التكفير على من لا يستحقها من معصومي الدماء. وسأعرض للقارئ نماذج من هذا التسخّط والغليان المتكرر لهذا التنظيم في بياناته الرسمية، وسيلاحظ القارئ اللغة الهائجة والاستفهامات الاستنكارية: – “يقاتلوننا بزعم أننا خوارج..، فتعالَ واحكُم بنفسك فإنك واللهِ لن تجدنا إلاّ أشدّ الناس على الغُلاة والخوارج..، فَلْيَتَّقِ اللهَ فينا مَن يصِفُنا بالخوارج” (العدناني، بيان رسمي بعنوان: ثم نبتهل، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: [8]، [12]، [13]). – “مَن هو حفيد ابن ملجم..، ومَن هُم الحروريّة..، أئذا بقينا في الشام كُنّا من الخوارج؟!..، لم يجدوا ذريعةً لتلك الحرب إلاّ تُهمةَ الخوارج التي يُقاتِلُنا بها علماء الطواغيت” (العدناني، بيان رسمي بعنوان: عذرًا أمير القاعدة، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: [21]، [29]). – “وتصفنا بأننا أحفاد ابن ملجم، وتصفنا بأننا خوارج؟! فاتقوا الله في أنفسكم! اتقوا الله في المجاهدين!..، وأنهم سيتعلّقون برقابكم قائلين: يا رب إن هؤلاء اتهمونا بأننا خوارج..، وإن دافعنا عن أنفسنا ورددنا عليهم: بكوا في الإعلام، ووصفونا بالخوارج..” (العدناني، بيان رسمي بعنوان: ما كان هذا منهجنا ولن يكون، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: [8]، [9]، [10]). – “لن يجدوا لصدّكم عن الخلافة: إلا عذرَين باطلَين؛ الأول: هو نفس ما يتهمون به الدولة سابقًا؛ بأنها دولة خوارج..” (العدناني، بيان رسمي بعنوان: هذا وعد الله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: [22]). – “إني داعٍ فأمنوا…، اللهم عليك بمن يحارب المجاهدين بحجة أنهم خوارج..، وعليك بمن يحرض على المجاهدين ويفتى بقتلهم بحجه أنهم خوارج” (العدناني، بيان رسمي بعنوان: يا قومنا أجيبوا داعي الله، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: [27-28]). – “فاستنفروا وسائل الإعلام في العالم تجادل بالباطل، خافوا على الإسلام والمسلمين من إفساد وبطش الخوارج في الدولة الإسلامية زعموا!” (العدناني، بيان رسمي بعنوان: إن ربك لبالمرصاد، مؤسسة الفرقان، الدقيقة: [22]). ولعل القارئ لاحظ كمية الحنق في خطاب المتحدث الرسمي باسم الغلاة تجاه كل من يكشف للناس نزول الغلاة عن قلعة السنة، وهرولتهم في ميدان البدعة والمحدثات والشذوذ، وهذا ما يفسر سعي رؤوس الغلاة في منشوراتهم لإثبات الشرعية التاريخية عبر الإيحاء المتكرر بصيغ متنوعة بأنهم امتداد لمدرسة أهل السنة ومنهج السلف ودعوة كبار المصلحين كشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب. والمؤشر الأهم في خطاب المتحدث الرسمي باسم الغلاة أنه لم يذكر هذه القضية مرةً ولا مرتين، بل يكررها في خطاباته -كما شاهدنا نماذجها- ويعرضها بصيغ النفي والاستفهام الاستنكاري والتنديد ونحوها من الصيغ التي يمكن استنتاج الحالة النفسية للمتحدث منها. حسنًا، بعد هذه العروض لتصوير السياق، واستيعاب التكوين المركب لظاهرة الغلو، ونمط تشكّله مع تفاوت منتسبيه، وصيغة رهانات الغلو على الشرعية، ورأسمالهم الرمزي الذي يناضلون عليه، دعنا ننتقل الآن لعرض الإجابة على السؤال المركزي لهذه الدراسة: • استراتيجية الإعلام الليبرالي في تسليم الشرعية السنية للغلاة: لا يمكن فحص هذه الاستراتيجية بكلام إنشائي، فلا بد من (عينات) نعرضها على المشرحة ونقرأ تفاصيل مكوناتها، وعادةً ما يعاني الباحث من شح العينات والنماذج والمعطيات والشواهد، غير أني هاهنا أعاني من حالة معاكسة، فالنماذج والشواهد التي توضح تأكيدات الإعلام الليبرالي وحماسته لإثبات أصالة الغلو وشرعيته التاريخية وامتداديته التراثية، وأنه ليس شذوذًا عن علوم المسلمين ومنهج أهل السنة؛ هي من الكثرة بحيث تعذّر علي عرضها كلها، ولجأت إلى انتخاب نماذج منها فيها تنوع في الكاتبين وفي المصادر. ولكني واجهت عائقًا آخر، وهو أن ذكر العينات والنماذج سيدخلنا في مناقشة (أشخاص)، وليست المشكلة بطبيعة الحال في مناقشة الأشخاص بعلم وعدل، ولكن المشكلة أن مثل هذه المناقشات الآحادية لو وقعت فستسحب المستوى البحثي إلى آحاد وأفراد، وهذا خلاف الغرض كليًا، فالأطروحة التي أعرضها هنا بين يدي القارئ غرضها مناقشة (منظومة إعلامية ليبرالية) أريد البرهنة أنها مصرّة على “تسليم المشروعية السنيّة لمجرمي الغلاة”، وأنها تعيد التأكيدات على أصالة الغلو وانطلاقه من المصادر الفقهية الإسلامية المعتمدة طوال تاريخ المسلمين، وإزاء ذلك لجأت لطريقة وسط تجمع بين الأمرين، فانتخبت اقتباسات معزوة للمصدر الإعلامي لكنها مهملة اسم الكاتب، لتحقيق كونها (عيّنات) بينها خيط ناظم لخطاب تصوغه آلة إعلامية، لا ردود على أشخاص وأفراد من الصحفيين. فلنبدأ الآن في تصفح العيّنات: في صحيفة الجزيرة يقول أحد الكتاب الليبراليين في عزو الغلو والتفجير إلى تراث أهل السنة: “منذ ظهر هذا التنظيم القذر داعش ونحن نقول إنه التطبيق العملي للتنظير السلفي..، قبل عشر سنوات قلناها صريحة: إن الإرهاب الذي يضربنا في العمق هو نتاج الوعي السلفي قبل أن يكون نتاج أي فكر آخر..، افتح أي كتاب عقائدي سلفي، سترى برنامج العمل الداعشي بالتفصيل مدعوما بالأدلة” (صحيفة الجزيرة، العدد: [15298]). في هذا التصوير الذي يعرضه الكاتب عدة معطيات: المعطى الأول: أنه يرى أن جرائم الغلاة ليست شذوذًا ولا انشقاقًا عن فقه المسلمين بل تدل عليه كتب السلف، بما يعني أن الغلاة لم ينحرفوا عن كتب العلم ومنهج أهل السنة والسلف، بما يعني أن المجتمع المسلم اليوم هو الذي انحرف عن تراثه وترك استحلال الدماء! والمعطى الثاني: أن تراث أهل السنة ومنهج السلف ليس فيه نصوص مجملة أو هفوات تم إساءة فهمها أو تأويلها وتحريفها مثلًا من قبل الغلاة، بل يقول لنا هذا الكاتب الليبرالي أن كتب السلف هي بذاتها فيها (برنامج عمل) الغلاة! ومعنى (برنامج عمل) أي أن كل تفاصيل الجرائم التي قام بها الغلاة هي نص منظم ومرتب ومخطط مسبقًا في كتب الفقه والعقيدة والتفسير والحديث عند أهل السنة. والمعطى الثالث: أن هذا الرأي لم يقله الليبراليون مرةً ولا مرتين، بل يقول لنا هذا الكاتب الليبرالي أن لهم عشر سنوات وهم يكررون وينشرون هذا التأكيد لأصالة الغلاة وامتداديتهم التراثية وشرعيتهم التاريخية. حسنًا، ماذا يفهم الشاب المسلم من هذا التقرير الذي يذكره هذا الكاتب الليبرالي؟ الذي يفهمه الشاب المسلم أن كل التفجيرات والاغتيالات التي وقعت بتفاصيلها إنما هي مأخوذة من كلام أهل السنة وأئمة السلف وعلومهم وتحقيقاتهم وتحريراتهم، بل وكما يقول “مدعومة بالأدلة”، وهذا يعني أن من قام بهذه الأفعال هو المتبع لكتب أهل العلم وللدليل الشرعي، وأن المجتمع هو المقصّر في الاتباع لموجب ومقتضى كتب العلم والدليل. هذه الرسالة التي يوصلها مثل هذا الخطاب الليبرالي الذي يقول صاحبه أنهم اجتهدوا في نشره منذ عشر سنوات؛ هو أفخم هدية وأغلى منحة يمكن أن يزفّها الإعلام الليبرالي بين يدي أبي بكر البغدادي، ولا يمكن أن يتصور أبو محمد العدناني ومؤسسته الإعلامية خدمة تسويقية لشرعية جرائمهم أكثر من هذه الخدمة؟ وهل بُحّ صوت العدناني في إصداراته الصوتية إلا لتكلف إثبات هذا التصوير؟ وفي صحيفة الوطن يقول كاتب آخر: “بلادنا عرفت هذه الأعمال الإجرامية بأيد سعودية قبل أن تولد داعش..، فكرة قتال الكافر وفكرة قتل المرتد لم يبتكرها هؤلاء الشباب ولا ابتكرتها داعش..، هي أفكار موجودة في تراثنا الحديثي والفقهي منذ أكثر من 1000 سنة” (صحيفة الوطن، 12 أغسطس 2015م). أي مسلم يعلم أن قتال الكافر وارد في كتاب الله، وقتل المرتد ثابت بالسنة النبوية، ولكل منهما شروط وموانع علمية دقيقة معروفة، ونعلم -أيضًا- أن جرائم الغلاة هي من استباحة دماء المعصومين بغير حق، ولكن الربط بين الجريمة وبين النص الشرعي هو المهمة التي يشتغل عليها الغلاة وينفقون فيها جهدهم وإعلامهم، وهي التي ينازعهم العلماء فيها ويكشفون دجلهم في إسقاط النصوص على جرائمهم. ولكن الكاتب هاهنا يخبرنا بأن موقف الغلاة لم يكن انحرافًا لا عن القرآن ولا عن السنة، بل جرائم الغلاة مستندها الشرعي آيات قتال الكافر وسنة قتل المرتد، وهذا أظنه موقف مقدّر جدًا لدى الغلاة، ولن ينسى الغلاة هذا الجميل أبدًا من الكاتب. ثم لعلك تلاحظ هذا العمق التاريخي الذي منحهم إياه بسخاء (ألف سنة)..! أيّ شرعية تراثية وتاريخية عميقة أكثر من ذلك يطمح لها الغلاة؟ شهادة بعشرة قرون من الأصالة هدية للغلاة من الإعلام الليبرالي! ومن شدة حماس الإعلام الليبرالي في إثبات أصالة (غلاة تنظيم الدولة) وارتباطهم بعلوم الشريعة الإسلامية، وشرعيتهم التراثية والتاريخية، فإن كتّاب الإعلام الليبراليين لا يتورعون عن استخدام عبارات شديدة الصراحة والوضوح، ففي صحيفة الرياض يقول أحد الكتاب الليبراليين: “والحاصل أن التراث الفقهي/العقدي يوفر سندًا شرعيًا للإرهاب الداعشي” (جريدة الرياض، العدد: [16644]). أي أن جرائم الغلاة ليست شذوذًا ولا انحرافًا بل هي أفعال أصيلة تعتمد على علوم العقيدة والفقه الإسلاميين! وأي قارئ من الغلاة يقرأ مثل هذه التحليل والتصريح بمثل هذه النتيجة فإنه يطير فرحًا بهذه الشهادة وتورثه اليقين بصحة طريقه الذي شهدت له به الأعداء! كاتب آخر منسوب لليبرالية، ينشر دوريًا في صحيفة الجزيرة، ويكتب باستمرار محاجًا بأن جرائم الغلو ليست انحرافًا عن تراث أهل السنة بل امتداد له، وقد كتب مرةً في حسابه التواصلي “يلومون داعش! داعش لم تفعل أي فعل، إلا وله مستند واضح وصريح في التراث التقليدي!”. والذي يفهمه القارئ من هذا الموقف أن جرائم الغلاة ليست جهلًا وفهمًا مغلوطًا لكلام علماء المسلمين، ولا ليًا لأعناق تراث أهل السنة، ولا تعسفًا في توظيف واستغلال التراث الإسلامي، بل يؤكد لنا هذا الكاتب أن تراث أهل السنة (مستند) فعلي ودالّ عليها. بل يخبرنا الكاتب نفسه أن رأيه هذا ليس حتى من قبيل الاستنتاج الاجتهادي، بل بلغ عنده أعلى مراتب الظهور، فتراث أهل السنة (مستند واضح وصريح) لجرائم الغلاة، وهذه هدية غالية الثمن للغلاة، تستحق وليمة تقدير للكاتب يقدمها له إعلام الغلاة الذي أرهقه النقد العلمي الذي يبين جهلهم وسوء فهمهم وتحريفهم لكلام العلماء. وهذا يعني طبقًا للكاتب أن المجتمع المسلم اليوم هو الذي انحرف عن تراث أهل السنة الشرعي، وأن الغلاة هم الذين تمسكوا فعلًا بمنهج أئمة السلف وفحول علماء التراث الإسلامي! وهذا الكاتب نفسه، نشر مرةً أخرى يقول: “يجب أن لا نكذب على أنفسنا، كل من يقول لا علاقة لنا بفكر داعش فليقرأ كتاب (المغني لابن قدامة) وهو عمدة الكتب المرجعية للحنابلة”. وفي هذا التحليل عدة معطيات خطِرة، دعنا نتناولها بهدوء: فكتاب (المغني لابن قدامة) هو أشهر نموذج رمزي مُعبّر عن (الفقه المقارن للمذاهب الأربعة لأهل السنة)، لأن طريقة تصميم الكتاب أن يعرض في المسألة أولًا أقوال فقهاء الصحابة كعمر وعلي وزيد وابن مسعود وابن عباس ونحوهم، ثم أقوال أئمة كبار فقهاء التابعين مثل سعيد بن المسيب والحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح ونحوهم، ثم أقوال فقهاء الأمصار والأئمة المتبوعين كالأوزاعي والليث بن سعد وسفيان الثوري، وخصوصًا أئمة المذاهب الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ويذكر أدلة كل قول، ويشير دومًا لمذهب أهل الرأي بالعراق ومذهب فقهاء أهل الحديث ومدرسة الحجاز. لذلك، وبسبب تركيبته المقارنة المتوازنة والشاملة بين فقهاء الأئمة المتبوعين لأمة الإسلام؛ صار للكتاب وزنٌ مرجعيٌ استثنائيٌ في كل المذاهب، حتى أن شيخ الشافعية الأشهر في القرن السادس/السابع العز بن عبد السلام (ت660م) كان يقول “لم تطب نفسي بالفتيا حتى صار عندي نسخة المغني”، بل إن شيخ المؤرخين الذهبي الشافعي جعل دواوين الإسلام التي عليها مدار علوم أهل الإسلام أربعة، ومنها “(المغني لابن قدامة) (سير النبلاء: [18/193]). ويعرف أهل الخبرة جيدًا أنه في الأطروحات الأكاديمية المعاصرة في كل الدول العربية (بلا استثناء) أن كتاب (المغني لابن قدامة) يحتل ثقلًا لا يوازيه مصدر آخر في كثرة الإحالة إليه في هوامش هذه الدراسات حين التعرض لمسألة فقهية، في معرفة آراء فقهاء وأئمة الإسلام. حسنًا، حين يلاحظ القارئ الوزن التمثيلي لكتاب (المغني) بالنسبة لفقه المذاهب الأربعة لأهل السنة، ثم يرى الكاتب الليبرالي يصرّح بحماسة أن: جرائم الغلو ليست شذوذًا ولا فعلًا غريبًا بل هي تطبيق وتفعيل لما في كتاب المغني الذي يمثل أشهر مصدر مُعبّر عن الفقه المقارن لأهل السنة. فأي مكسب وظفر للغلاة في تبييض صحيفتهم وتبرئة ساحتهم وتلميع جرائمهم أكبر من ذلك؟! ولو قيل لأحد الغلاة أننا مقتنعون أنكم تطبقون كتاب (المغني) الذي جمع فقه (المذاهب الأربعة لأهل السنة) لربما أفرغ رشاشه في السماء رقصًا على وقع الأناشيد القتالية احتفالًا بهذا الاعتراف! ثم يتوهم الإعلام الليبرالي أنه بهذه الشهادة على علمية الغلو يقاوم الغلو! أرأيت بالله عليك؟! وذات الكاتب بنفسه نشر جملة أخرى في حسابه التواصلي قال فيها: “اغتيال الدواعش لاقاربهم حينما يحسون أنه مشرك أجازه ابن تيمية)”. وهذه الشهادة الليبرالية للغلاة شهادة لا تُقدّر بثمن، وتستحق أن يطبعها الغلاة في مطوية ويوزعونها على المراهقين لاغتيال أقاربهم! فقد كان أهل العلم يبينون ويشرحون للشباب المتدين الشروط الثقيلة والمتحرزة في التكفير والقتل، وأن نصوص الأئمة الكبار فحول العلماء من كل المذاهب الأربعة في مسألة قتال المشركين من الأقارب وغيرهم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزواتهم ليست كما يفهمه الغلاة اليوم. ولكن كاتب الإعلام الليبرالي يؤكد أن جرائم الغلاة في استدراج أقاربهم إلى الفلوات، وقتلهم بالتأويلات الباردة السمجة؛ هو فعل غير شاذ، ولا منحرف عن طريقة العلماء، بل أجازه أحد أهم المحققين فيتاريخ الفقه الإسلامي، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية. ثم إن العلماء يعلقون الأحكام بالشروط والموانع الثقيلة التي لا يفتي فيها المبتدئ وقليل الخبرة، ولكن كاتب الإعلام الليبرالي يقول يكفي (الإحساس) بأن قريبك ورحمك (مشرك) وحينذاك فإنه تنطبق عليه فتوى ابن تيمية! ويعلم الجميع اليوم أن الغلاة لا يكترثون بتحري الشروط والموانع المغلّظة في التكفير واستباحة الدماء، ويزعمون أن نصوص العلماء تدل على ذلك، وكاتب الإعلام الليبرالي يؤكد لهم فهمهم، وأنه لا حاجة للشروط والموانع المغلّظة، بل يكفي (الإحساس)! فيمكنك أن تمشي بسلاحك بين الناس وإذا (أحسست) أن فلانًا عنده ميول شرك؛ ففتوى ابن تيمية تتنزل على الجريمة التي تريد، حسب الرسالة التي يقدمها لنا الإعلام الليبرالي! ومن له أدنى خبرة بكتب العلم وجرائم الغلاة يدرك أن من أهم نقاط الغلط التطبيق الخاطئ لنصوص العلماء، ولكن الإعلام الليبرالي يقف في صف الغلاة ويشهد لهم بصحة فهمهم الخاطئ لنصوص الفقهاء والأئمة! والشاب المتردد المتحير الذي يراقب المشهد إذا قرأ هذا الجزم بأصالة الغلاة فستتبخر شكوكه بشهادة الخصوم، ولن يرى في من يربط حزامه الناسف لإساحة دماء المعصومين إلا أنه شاب شجاع ينطلق من مستندات التراث الشرعي السني وليس منحرفًا ولا شاذًا فكريًا، وأنه ينطلق من فقه الأئمة الكبار! وفي صحيفة الرياض عنونت كاتبة لمقالة بعنوان (داعش بين بطش وتراث يحتاجان تفكيكًا) وقالت من ضمن تحليلها لمستندات الغلاة: “التراث العلمي المكتنز في بعضها عنفًا والذي يستند عليه هؤلاء في مواقفهم” (صحيفة الرياض، العدد: [17032]). كان الذي لفت انتباهي في هذه العينة وأنا أفحص النماذج هو أنها لم تجعل القضية في نصوص تراثية مجملة أو محتملة أو خطأ في التحريف والتأويل والتوظيف لدى الغلاة، بل المشكلة أن تراث أهل السنة (يكتنز) عنفًا! فما نتيجة ذلك؟ النتيجة أن جرائم الغلاة هي جزء يسير من هذا الاكتناز! وهذا يعني أن ما لم يتم تنفيذه من الجرائم الممكنة في تراث أهل السنة مازال وفيرًا ينتظر المجرمين! وفي صحيفة الوطن يقول كاتب آخر: “النظرية الدينية واحدة، وإن اختلفت الممارسات ما بين سلفية نظرية وسلفية جهادية، فالجهادية تذهب إلى إنزال النص على الواقع في حين تتحرج النظرية من هذا الإنزال” (صحيفة الوطن، 15 أغسطس 2015). والذي يفهمه الشاب من هذا التحليل أمرين: الأول: أن جرائم الغلاة هي الشجاعة في تطبيق ما تمليه كتب علماء المسلمين في الفقه والحديث والتفسير. والثاني: أن العلماء الذين يحرمون هذه الجرائم مخالفون للتراث الإسلامي السني وفقه أئمة السلف. فهل يريد الغلاة أكثر من إثبات ذلك؟ وهل يحلم الغلاة بمؤازرة ومساندة علمية أكثر من هذا التوصيف؟! وقد سبقت الإشارة إلى أن فقهاء أهل السنة المعاصرين يجتهدون في بيان أوجه الشبه بين فكر الغلاة المعاصرين وفكر الخوارج البدعي الطارئ، ولكن الإعلام الليبرالي يؤكد خطأ هذه الإدانة للغلاة، وأن الغلاة ليسوا خوارج، بل هم الصورة الحقيقية الصادقة لأهل السنة! من يصدّق ذلك؟! ففي صحيفة عكاظ يقول أحد كتّاب الإعلام الليبرالي: “في حين ينكر السلفيون ارتباط داعش بالسلفية، ويصفونها على أنها دولة خارجية، لكن المتتبع للفكر الداعشي سيجد أن التكوين الديني لداعش هو تكوين سني أقرب له من التكوين الخارجي، لمن يعلم تفاصيل الالتقاء والاختلاف” (صحيفة عكاظ، العدد: [4820]). ومن تأمل هذا التحليل علم أنه في محصلته النهائية مرافعة ومحاماة عن الغلاة من قِبل الإعلام الليبرالي! وأن الغلاة المجرمين هم أهل السنة حقًا، وأنهم ليسوا خوارج طارئين على فقه المسلمين، فأي شهادة بالأصالة والشرعية أكثر من ذلك؟! وفي صحيفة الشرق يقول كاتب آخر: “كل ما يستند إليه هؤلاء القتلة هو من تراثنا الذي نرفض المساس به..، من هذا التراث ينهل هؤلاء القتلة، ومنه استقى البغدادي أمير داعش خطبته..، فهؤلاء الإرهابيون يستدلون ببعض ما ورد في كتب ابن تيمية رحمه الله، وببعض ما ورد في رسائل محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وبعض رسائل أئمة الدعوة النجدية” (صحيفة الشرق، العدد: [948]). البغدادي ينطلق من فقه الإمام ابن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب! كيف لو علم البغدادي بهذه الشهادة الثمينة له؟! أظنه سيطرّزها في لوحة بخط الثلث، ويعلقها فوق منبره! حين أنظر في كمية الأبحاث والأوراق التي تسعى لإظهار غرابة وشذوذ جرائم الغلاة وكشف زيف انتسابها لكتب العلم، ثم انظر كيف تُهدَم هذه الجهود العلمية بمثل هذا السيل الإعلامي المتكرر الذي يردد التأصيل بأن هذه الجرائم ليست غريبة على فقه المسلمين! بل هي امتداد وتطبيق لفقه فحول أئمة الإسلام! أقول في نفسي: يا فرحة الغلاة بمثل هذه الشهادات. بل وصل الحال ببعض متطرفي الليبراليين أنه لم يربط فقط بين التراث الإسلامي والغلو، بل ربط بين النص المقدس نفسه وبين جرائم الغلو، فتراه يلمّح ويدور ويخاتل ويقول: “هناك نصوص في الشريعة مفتوحة قد يفهم منها ما يعزز هذه السلوكيات الإجرامية”، أو يقول مثلًا: “هذه الجرائم هي فهم للشريعة مقابل فهم آخر”، أو يقول: “هذه الجرائم البشعة هي الأقرب لظاهر النص دون تأويل”! ونحو هذه الجمل التي تخفي من المراوغات أكثر مما تظهر من المعنى، ولم أرغب أن أجعل مثل هذه التوجهات الليبرالية المتطرفة هي الأساس لأن الأغلب في الإعلام الليبرالي المحلي هو ربط جرائم الغلو بتراث أهل السنة، وتحاشي التصريح بمصدرية النص الشرعي ذاته في هذه الجرائم. وهذه عيّنات فقط، ويوجد مثلها في الإعلام الليبرالي، في المقالات الصحفية واللقاءات الفضائية والروايات الأدبية ومنشورات الليبراليين على شبكات التواصل؛ أضعاف أضعاف ذلك، وليس المراد الاستقصاء، بل المراد التمثيل فقط، وهو أمرٌ لا ينكره الليبراليون للأسف، بل يقرون به على أنفسهم، ويؤكدون دومًا قناعتهم بأصالة الغلو وشرعيته التاريخية وامتداديته السنية، وأنه ليس شذوذًا ولا مروقًا عن مدرسة أهل السنة ومنهج أئمة السلف الكبار، مما يؤول في النهاية إلى خدمة إعلامية لا تقدر بثمن لفرك المتلطخ من سمعة الغلاة. ومع ذلك فسنقدم صيغًا أخرى لتلخيص هذا المشهد. • شهادات من الداخل الليبرالي نفسه: برغم أن النصوص الليبرالية في تسليم المشروعية السنية للغلاة كثيرة كما سبقت الإشارة له، إلا أننا يمكن أن نختصر على أنفسنا الوقت في فحص المزيد منها وتحليلها بعرض شهادات من الداخل الليبرالي نفسه تؤكد لنا هذه الصورة الكلية لمشهد الإعلام الليبرالي، وهذا لن يختصر الوقت فقط، بل سيوفر لنا مزية موضوعية أخرى، حيث قد يتساءل بعض القراء فيقول: لعل هذا العرض السابق لموقف الليبراليين في عزو الغلو للتراث السني هو قراءة وتفسير خصم؟ ولذلك فستكون رواية الشاهد الليبرالي للمشهد الليبرالي نفسه مزيد تأكيد لدقة العرض. وسأعرض نماذج من هذه الشهادات: يقول الكاتب/الباحث علي العميم موضحًا موقف الليبراليين -بجميع فروعهم الداخلية- في تفسير العلاقة بين العنف والتراث: “وفي السنوات الأخيرة تكرس حكم عند جمهرة من الليبراليين الحكوميين، وعند الليبراليين المناضلين، وليبراليي الدونمة -ليبراليو الدونمة تعبير أقصد به قومًا يُظهِرون الليبرالية ويبطنون الشيوعية- إن الوهابية هي العامل الأساس في نشر التزمت والتشدد والغلو وفي نشأة العنف والإرهاب الإسلامي” (علي العميم، صحيفة عكاظ، العدد: [5347]). وعلي العميم باحث معروف معني بتاريخ الفكر العربي المعاصر، وهو من داخل الوسط الإعلامي الليبرالي، وهو هاهنا يلخص اتجاهات الميدان الليبرالي، بفروعهم الداخلية الثلاثة بحسب تقسيمه: الليبراليون العاملون من داخل النظام، والليبراليون ذوو الميول المعارِضة، والليبراليون القادمون من خلفيات ماركسية ويوظفون الشعارات الليبرالية لتغير المزاج الثقافي فقط. ويقول لنا العميم أن جمهور هؤلاء تقريبًا لا يميلون فقط لتسليم دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للغلو، بل (تكرّس) لديهم هذا الحكم، وأن جرائم الغلو هي التطبيق الحقيقي لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية. وهذا الموقف في الحقيقة هو الذي يسعى الغلاة لتكلف برهنته -كما سبق إيضاحه- ويتعاون الإعلام الليبرالي مع إعلام الغلاة في نشره وبثه وتكريسه، بشهادة الداخل الليبرالي نفسه. وتلخص كاتبة أخرى -منسوبة لليبرالية- مشهد التعارض والسجال بين جبهتين، جبهة العلماء التي تسعى لكشف انفصال الغلاة عن المشروعية السنية، وجبهة الليبراليين التي تسعى لتسليم المشروعية السنية للغلاة فتقول: “يتبرأ الفقيه والمثقف من إرهاب داعش؛ يرميه الفقيه على الخوارج، ويرميه المثقف على الوهابية السلفية” (صحيفة الرياض، العدد: [16866]). يلاحظ القارئ في ثنايا هذا التصوير الإقرار أن العلماء يجتهدون في عزل المشروعية السنية عن الغلاة وكشف مناطق الصلة بين فكر الغلاة القديم والجديد، وأن الليبراليين -والكاتبة تسميهم المثقفين لإضفاء بعد موضوعي- يجتهدون في تسليم المشروعية السنية للغلاة بطول تاريخها ولحظاتها الشرفية المشعّة في نفوس المسلمين. وهذه الشهادة لها بالنسبة لدراستنا قيمة مضاعفة، فهي لا تقتصر على تصوير موقف الاتجاه الليبرالي في إثبات الشرعية التاريخية الغلو، ولا تقتصر على تصوير موقف العلماء في كشف بطلان شرعية الغلو، بل وضعتهما ضمن السياق نفسه كجبهتين متقابلتين فعليًا، وكل هذا بشهادة من الداخل الليبرالي نفسه. فإذا أضاف القارئ لهذا استحضار شغف الغلاة بإثبات شرعيتهم التاريخية وانفعالهم ممن يكشف مشابهتهم لمسالك الخوارج كما سبق نقل شواهده؛ اتضح تحت الشمس البازغة كيف أن الإعلام الليبرالي وضع نفسه في ذات المدرّج الذي تقف فيه رابطة مشجعي الغلو، وردد معهم ذات الهتافات، وجيّر خدماته الإعلامية للغلاة، بوعي أو بغير وعي. ومن المواقف الطريفة الشبيهة لهذه المسألة أن الكاتب الصحفي جمال خاشقجي أراد إدانة الانقلاب السيسي بمصر، فكتب في صحيفة (الحياة) يربطه بحكم المماليك العسكري وقال: “هو استعادة العسكر لسلطة في حوزتهم منذ ألف سنة، واستمرار لسلطة المماليك”. هذا التوصيف من جمال خاشقجي أثار انتباه الكاتب/الباحث علي العميم، إذ رأى فيه منحةً للانقلاب العسكريِّ تعطيه شرعيةً تاريخية خلافًا لما قصده خاشقجي، فكتبَ علي العميم في صحيفة (عكاظ) ناقدًا لهذا التوصيف يقولُ: “كما أنها على عكس ما يريده، تمنح شرعية للحكومة المصرية الحالية، وهذه الشرعية -دعوني أسك لها اسمًا- هي شرعية تاريخية ألفية” (عكاظ: ع: [5319]). واللافت، وأنا أتابع ردود الأفعال لهذه المناقشة، أنني رأيت عددًا من الليبراليين راقت لهم هذه الفقرة في النقد جدًا، وأخذوا يرددون أنه: بالفعل فإن ربط الانقلاب السيسي بالحكم العسكري المملوكي هو إسباغ شرعية تاريخية على الانقلاب خلاف ما يتوهم خاشقجي! وليتك تراني وأنا في غاية الاستغراب أقول لنفسي: يا للعجب! ربط الانقلاب السيسي بالدولة المملوكية العسكرية يعطيه شرعية تاريخية ألفية، وربط جرائم الغلو بالمذاهب الأربعة لأهل السنة وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب لا ينتج شرعية تاريخية! • تطابق استراتيجية الإعلام الليبرالي مع الإعلام الإيراني: المهمة المطلوبة هنا ليست مناقشة شخصيات شيعية أو متشيعة، وإنما برهنة أن الإعلام الإيراني يتبنى استراتيجية (ربط إجرام الغلاة بالتراث السني)، ولذلك سأنتخب عددًا من الصحف الشيعية المعروفة بالولاء الإيراني/النصيري، من سوريا ولبنان والعراق والبحرين، وسأعرض من خلالها بضعة نماذج، لا لمناقشات آحاد وأفراد من الكُتّاب الشيعة والمتشيعين، بل لاستكشاف الشريان الناظم لهذه المنظومة الإعلامية الإيرانية. يذكر الباحثون أن الصحف الرسمية الثلاث التي احتكرت الصحافة لعقود في سوريا لأسباب حزبية وطائفية، هي (البعث، والثورة، وتشرين)، وفي مقال منشور في صحيفة (تشرين) يقول الكاتب عن مرجع جرائم الغلاة: “مرجعية تنظيم داعش الإرهابي هي: أفكار وفتاوى محمد بن عبد الوهاب، وابن تيمية” (صحيفة تشرين السورية، 19/08/2015م). ويقول كاتب آخر في ذات الصحيفة النصيرية: “وما تلا هذا من حروب وفتاوى تكفير مازال يُعمل بها إلى الآن، ولم يكن الفكر الوهابي، المدعوم بفكر ابن تيمية؛ إلا الابن الشرعي لتلك السلالة المتوحشة” (صحيفة تشرين السورية، 02/01/2016م). وفي مقالة منشورة بصحيفة الأخبار اللبنانية -المقربة من حزب الله الشيعي- يلخّص الكاتب فكرته في (عنوان) مقالته بهذه الصراحة والوضوح فيقول: “داعش الامتداد الطبيعي للوهابية” (صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد: [2561]). واستعرض فيه الكاتب -ناقلًا- أوجه الشبه المتكلّفة بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية وبين جرائم الغلاة. ويصرّح كاتب آخر في ذات هذه الصحيفة -المقربة من حزب الله- أن الفرق بين جميع حركات الغلو وتراث أهل السنة هو فرق (أسلوبي وتقني) فقط، لا موضوعي! حيث يلخص فكرته في عنوان المقالة بقوله: “داعش والوهابية.. فكر واحد بتقنيات جديدة” ثم يقول ضمن تحليلاته: “أفكار جماعات الإرهاب والتكفير ليست جديدة، إنما هي ذاتها وليدة أفكار الوهابية، لا فرق بين الفريقين إلا بالاسم فقط، فالعقيدة واحدة والأفكار متطابقة..، وهي موجودة منذ انتشار أفكار ابن تيمية ثم جرى إحياؤها مع محمد بن عبد الوهاب واتباعه، أما الفرق الوحيد هو أن نشرها واتباعها وتطبيقها أصبح بأساليب مغايرة عما كانت عليه وبتقنيات جديدة” (صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد: [2714]). وفي مقالة أخرى في ذات الصحيفة المتأيرنة يقول كاتب آخر: “انبثق داعش من إطار فكري سلفي سنّي، باعتبار ابن تيمية مرجعًا وموجهًا رئيسيًا” (صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد: [2646]). وفي مقالة أيضًا بذات هذه الصحيفة المقربة من حزب الله يقول الكاتب: “من يقرأ بشكلٍ علمي ما آلت إليه مجتمعاتنا لناحية انتشار التكفير الإجرامي والعنف الداعشي؛ يُدرك أنّ العامل الفكري والايديولوجي هو السبب الأساسي، ويُمكن تلخيص هذا العامل بالسلفية الوهابيّة وثقافتها” (صحيفة الأخبار اللبنانية، العدد: [2809]). وفي صحيفة الديار اللبنانية -وهي بوق إيراني بامتياز- يقول أحد الكُتّاب: “الجماعات التكفيرية تنطلق بأساليب عملها من أسس موجودة في كتابات كبار علماء المسلمين السُنة امثال ابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرها” (صحيفة الديار اللبنانية، 7مارس2015). وصحيفة الديار لم يجعلها مالكها ورئيس تحريرها (شارل أيوب) منبرًا لتمجيد حزب الله وتشويه خصومه فقط، بل هو ذاته مرتزق متلوّن جعل من نفسه بوقًا للحزب، برغم خلفيته المارونية، حتى أنه في أحداث القصير الإجرامية (مايو 2013م)؛ نشر على الشبكة بلغة ديماغوجية مكشوفة قائلًا: “يا أبناء الحسين، أنا الماروني شارل أيوب، لا أريد مكسبًا ولا شعبية، بل أفتش في عمق وجداني الذي ورثته عن والدي وأجدادي، عن بطولات الحسن والحسين، وأبو العباس، وستنا زينب، ولا أرى إلا البطولات أمامي، ولا أرى إلا أهل البيت، هم أصحاب البيت، وأسياد البيت، وهيهات منا الذلة، كم هي عظيمة تلك العبارة، كم هي فاعلة في دمنا الحار..، والله لو قال كلمة واحدة، لو قالها السيد حسن نصرالله: “يا أبناء الحسين، هيهات منا الذلة، ويا أبناء الحسين الى الجهاد، وستنا زينب لن تُسبى مرة ثانية”، فإن ذلك كافٍ لتغيير وجه التاريخ كله..، ووالله لزحفت جحافل من كل العالم”. وفي الصحيفة العراقية (المراقب العراقي) -وهي منبر إيراني شديد التطرّف- يقول الكاتب: “داعش؛ واحدة من إفرازات العقلية الوهابية البدوية..” ثم يقول: “المذهب الحنبلي المتشدد الذي يعتنقونه والذي ازداد تشددًا على يد ابن تيمية” (صحيفة المراقب العراقي، 26مايو2015م). وفي عدد آخر من ذات هذه الصحيفة العراقية الشيعية شديدة التطرف يقول كاتب آخر عن حادثة تفجير المسجد بمنطقة الصوابر بالكويت: “المجرم الوهابي هو انتحاري يحمل فكرًا جهاديًا بامتياز، وعقيدة تيمية تمتد من لحية معاوية إلى لحية ابن باز” (صحيفة المراقب العراقي، 28يونيو2015م). ويقول كاتب آخر في ذات هذه الصحيفة العراقية المتّسمة بشيء من الرعونة الشيعية/الإيرانية: “كل مدرسة تكفيرية يكون انبثاقها من المدرسة الأم وهي المدرسة الوهابية..، مستندين إلى عقائد أحمد بن تيمية، ووارثها محمد بن عبد الوهاب” (صحيفة المراقب العراقي، 4أغسطس2015م). وفي جريدة (حزب الدعوة) العراقي، وهو الحزب الشيعي المتطرف المعروف، يقول أحد كتّابها: “هذا الفكر الوهابي الذي انتشر في المجتمعات الاسلامية كالسرطان؛ هو الذي شلّ قدرة الكثير من شباب الامة وأفرغ أدمغتهم، إلا من التكفير والتطرف والعنف” (جريدة حزب الدعوة العراقي، 5 نوفمبر2014م). وفيما يخص هذه الرؤية التي تعبر عنها وسائل البث والنشر الإيرانية/النصيرية فإن صحيفة الوسط البحرينية -وهي لسان المعارضة الشيعية بالبحرين- تروي مشهدًا لكبار الرؤوس في هاتين الدولتين الإجراميتين وهما يتداولان ذات الفكرة، حيث تقول الصحيفة: “قال الرئيس السوري بشار الأسد اليوم الأربعاء 15يناير2014م، خلال لقائه مع وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف: “إن خطر الفكر الوهابي بات يهدد العالم بأسره وليس دول المنطقة فحسب”” (صحيفة الوسط البحرينية، العدد: [4190]). فانظر كيف أن المجرم النصيري بشارًا الأسد، والمجرم الآخر وزير الخارجية الإيراني؛ يتداولان أن تراث أهل السنة هو مصدر الخطر! حسنًا، ليس من المناسب أن نواصل عرض المزيد من الشواهد، فالمقصود التمثيل فقط، والمهم أن القارئ حينما يلاحظ حماس الإعلام الإيراني في إثبات أن جرائم الغلو هي امتداد لتراث أهل السنة وأئمتهم المصلحين، سيلاحظ أنه هو ذات التفسير الذي يتبناه الإعلام الليبرالي والذي لخّصه الباحث الليبرالي علي العميم بقوله: “وفي السنوات الأخيرة تكرس حكم عند جمهرة من الليبراليين -الحكوميين والمناضلين وليبراليي الدونمة- إن الوهابية هي العامل الأساس في نشر التزمت والغلو ونشأة العنف والإرهاب” (نص سبق نقله). • شكر الإعلام الإيراني للإعلام الليبرالي على جهده في ربط الغلو بالتراث السني: لاحظت في ثنايا الكتابات الشيعية إشادات متفاوتة بموقف بعض الليبراليين السعوديين في إدانتهم لتراث أهل السنة بأنه منشأ جرائم الغلو المعاصرة، وأحيانًا يلتقط بعض الشيعة عبارة لكاتب ليبرالي سعودي يربط فيها الجرائم بكتب أئمة السلف أو ابن تيمية أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم يدرجونها ضمن عروضهم باعتبارها شهادة من أصحاب الدار أنفسهم. صحيفة تشرين وهي كما سبق- صحيفة سورية حكومية نصيرية، وإحدى الصحف الكبرى الثلاث التي احتكرت الصحافة السورية لعقود، فيها تنويه بكلام لصحفي سعودي منسوب لليبرالية، مازال يكتب في الصحافة، وهو رئيس تحرير سابق لصحيفتين سعوديتين، حيث تحدثت الصحيفة عما سمته “دلالات الفكر الداعشي” ثم قالت: “وحذّر** من أنه إذا لم يتم تنوير المجتمع السعودي بخطورة الفكر المتطرف المعشش في كل بيت سعودي فلن ننجح في مواجهة تسيّب هؤلاء المطاوعة، ولفت** إلى أن فتاوى ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب كانت سياسية لها ظروفها، وأنهما ليسا نبيين” (صحيفة تشرين السورية، 10/02/2015م). وهذا الصحفي السعودي المنسوب لليبرالية، وهو رئيس تحرير سابق لصحيفتين سعوديتين، طمست من النص التصريح باسمه، لأن غرض هذه الورقة هو دراسة الإعلام الليبرالي المحلي كمنظومة، لا كأشخاص وآحاد وأفراد. وأظن الذي أطرب هذه الصحيفة المتأيرنة في كلام هذا الصحفي السعودي المنسوب لليبرالية ثلاثة معطيات: ربط الغلو بالتراث السني، وزعم انتشاره في كل بيت سعودي، واتهام الإمامين المجددين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب بأن علمهما (سياسي) وليس مستنبطًا من (الشريعة)! (وكالة أنباء فارس) الإيرانية (Fars News Agency FNA)، وهي تسعى لتصوير نفسها أنها مستقلة، بينما يجري وصفها في الإعلام بأنها (شبه رسمية) (semi-official)، لاحظت أنها -أيضًا- سلكت ذات المسلك في التنويه والإشادة بكتابات الإعلام الليبرالي المحلي في ربط جرائم الغلو بالتراث السني. ففي شهر مارس الفائت، وتحت عنوان (كاتب بصحيفة سعودية يعطي دليلا على ارتباط فكر داعش بالسعودية) تقول الوكالة: “قال الكاتب في صحيفة الجزيرة السعودية** في تغريدة له على تويتر: “يجب أن لا نكذب على أنفسنا، كل من يقول لا علاقة لنا بفكر داعش فليقرأ كتاب المغني لابن قدامة وهو عمدة الكتب المرجعية للحنابلة”. وكان كتاب المغني لابن قدامة قد طبع على نفقة الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز ال سعود” (وكالة أنباء فارس، 24 مارس 2016م). وأعتذر للقارئ أنني قد طمست اسم الكاتب أيضًا، لأن غرض هذه الورقة دراسة الإعلام الليبرالي كمنظومة لا كأعيان، كما سبقت الإشارة. ثم لاحظ دهاء هذا الإعلامي الإيراني، حيث التقط هذه العبارة دون غيرها من آلاف التغريدات لليبراليين السعوديين، والسبب أن كتاب (المغني) هو مستودع فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة، فإذا تمت إدانة كامل هذه المذاهب الأربعة بأن جرائم الغلاة تطبيق لها، فهذا نصر فكري مؤزر للمشروع الشيعي الإيراني وأنه هو الضحية لإرهاب المذاهب السنية الأربعة! ولذلك فهذا التصوير، بأن جرائم الغلاة تطبيق لكتاب (المغني) الجامع للمذاهب السنية الأربعة؛ لعله أسخى منحة وأثمن غنيمة مزدوجة قدّمها الإعلام الليبرالي المحلي لإعلام الغلاة وللإعلام الإيراني سويًا، ولذلك فمن غير المستغرب البتة أن يبدي الطرفان إعجابهما الخاص بهذا التصوير، وشكر الكاتب على ذلك. وفي صحيفة الوسط -لسان المعارضة الشيعية بالبحرين- وبعد أن تحدث الكاتب عن ربط الغلاة ببعض المصادر التراثية السنية وجّه شكره للإعلام الليبرالي المحلي على مشاركته للشيعة بهذا الربط، حيث يقول الكاتب: “لعل ما يُحسب للصحافة السعودية امتلاكها كتيبةً من الأقلام المحلية الكبيرة تنتمي لاتجاهات مختلفة، وتتمتع بهامش معقول من حرية الصحافة يُمكّنها من تشخيص وتحليل الأسباب الموضوعية والذاتية لبروز الظاهرة (الداعشية) وسُبل استئصالها من جذورها..” (صحيفة الوسط، العدد: [4707]). ونحن نعتقد أن هذا شكر في محله، وهو يدل على وفاء الإعلام الإيراني للخدمات التي يقدمها له الإعلام الليبرالي، وشعوره بالامتنان له. حسنًا، ماذا يريد الإعلام الإيراني أو المتأيرن من هذا الربط الذي يستدعيه بشكل مكثّف بين تراث أهل السنة وجرائم الغلو؟ أعتقد أن الأمر شديد الوضوح، ذلك أن (الإعلام الإيراني) يحدق عينيه باستمرار لالتقاط أي مشهد -حقيقي أو ملفق- للردح عليه وتشويه مجتمعات أهل السنة المعاصرة، فتراه مثلًا يلتقط أي هفوة في أيام مناسك الحج ويفتح لها المانشيتات ويقرع لها طبول التحشيد والتعبئة، ومن كان هذا شأنه: كيف يُظنّ أن يفوّت جرائم الغلاة دون استثمارها واستغلالها وتوظيفها التام في التنفير والتشويه ضد مجتمعات أهل السنة؟! فانظر كيف استفادت إيران من الخطاب الليبرالي، فالرهان الذي تردده وسائل الإعلام الإيرانية، الرسمية والديماغوجية، أن الدولة السعودية هي داعم الإرهاب، وأن التنظيمات الإرهابية ترضع من الفكر الديني الذي ترعاه الجهات الرسمية فيها، ومن الكتب التي تطبعها ذات هذه الجهات، وكان المسؤولون السعوديون يواجهون دومًا هذه الدعاوى الإيرانية بحجج مختلفة كما سبق أن رأينا. على أية حال، هذه مصلحة الإعلام الإيراني من التكلف في توريط تراث أهل السنة عن مسؤولية جرائم الغلو، ولكن السؤال المرهق حقًا: ما شأن (الإعلام الليبرالي المحلي) بذلك؟! وأي مصلحة للإعلام الليبرالي المحلي بتسليم المشروعية السنية للغلاة وتأكيد أن الغلاة هم امتداد أهل السنة والتطبيق الصحيح لفقه أئمة الدين المجددين؟! الإعلام الإيراني يخلط دومًا بين موقفين: الموقف الرافض للهيمنة الإيرانية وفكرها العقدي الفاسد، وهذا ليس عيبًا أن ينسب لأحد، بل غاية الشرف أن يُنسَب لابن تيمية وابن عبد الوهاب أنهما أحد ملهميه وموارده، وبين الموقف المتبني لتكفير المسلمين بغير مكفّر واستباحة دماء المعصومين بأدنى الحيل، وهذا موقف منحرف شاذّ عن تراث أهل السنة بجميع مذاهبهم. وإذا كنا نعرف ما مصلحة الإعلام الإيراني من هذا التعتيم على المسافة الفاصلة بين الموقفين، لأجل استثمار جرائم الغلاة في إدانة الفقه السني المقاوم للهيمنة الإيرانية، فإننا مازلنا في غاية العجب من سلوك الإعلام الليبرالي لهذه الاستراتيجية الإيرانية في إيداع الرأسمال الرمزي السني في أرصدة الغلاة؟! وإن كنت أظن أن شحوب منزلة التراث الفقهي السنيِّ في الوعي الليبرالي، صوَّر له أنه إذا قام بالربط بين الغلو وبين الفقه السنيِّ بطريقتهم في التشهير الصحفي؛ فسينتجُ هذا تخلي المسلمين عن الإرث الفقهي السني الضارب في أوتاد التاريخ! ولا أدري كيف لم يتفطن الإعلام الليبرالي إلى أنه سيرتطم بالنتيجة في المسار المعاكس تمامًا، وأن هذا الربطَ العشوائيَّ بين الجريمة والشرعية السنية التاريخية تفرش المستند للغلو وتكنس الأحجار عن أرتاله. • اختلاف استراتيجية الإعلام الليبرالي عن خطاب المسؤولين السعوديين: أعترف أن من أثقل المشاهد عندي في الساحة الفكرية مشهد المزايدات المتبادلة على تمثيل الموقف الرسمي، وهي بصراحة مهمة متدنية لا يطيقها من يحمل في جيبه قلمًا حرًّا مستقلًا. ولكن كان يمرُّ بي بعضُ الجدل بين الإعلام الليبرالي وبعض الدعاة الإسلاميين الذين يميلون للعمل من الداخل المؤسسي نفسه، وكان يلفت نظري دومًا أن الإعلام الليبرالي يزايد على غرمائه هؤلاء باستمرار: بأنه هو الأكثر ولاءً وتمثيلًا للدولة، وأنه هو المعبّر عنها وعن توجهاتها الحقيقية، وأنه هو الأكثر حرصًا على مواجهة الغلو وإفشاله الخ. ثم يستثمر الإعلام الليبرالي هذا التصوير لإرهاب المخالف له، فيأتي بعض المنتسبين للتدين تحت هذا الضغط وهذا السياق التهويلي ويربط جرائم الغلاة بفقه أهل السنة والسلف، ظنًا منه أنه بهذا الموقف يتحاشى مخالفة سياسة الدولة! وحين كنت أتصفح مواد هذه الدراسة كنت أمرّ أحيانًا بمواقف لمسؤولين في النظام السياسي السعودي يتبنون فيها خطابًا في تفسير جرائم الغلو يختلف عن طرائق الإعلام الليبرالي، ولا أكتم القارئ أنني تفاجأت من صراحة ووضوح تعارض الخطابين، ومبعث الدهشة هو -كما سبق الإيضاح- أن الإعلام الليبرالي لا يكف عن الإشارة أنه هو الموالي والمحامي الحقيقي عن الدولة، وفي نفس الوقت المسؤولون السعوديون يختلفون عنه بصورة معاكسة في عزو موارد الغلو، بل ويُبدي هؤلاء المسؤولون السعوديون حماسة ظاهرة لنقض هذا التفسير الذي يتبناه الإعلام الليبرالي المحلي ذاته، وتظهر على هؤلاء المسؤولين أمارات التوتر والانزعاج حيال هذه الرؤية في تسليم الشرعية السنية للغلاة. وفي البداية لم أهتم بجمع هذه المواقف للمسؤولين السعوديين لأنها لم تكن موطن بحثي، ولكن لما تعددت وكثرت أمامي رأيتها تجاوزت مستوى الموقف الفردي، إلى كثرة يمكن من خلالها استكشاف خط ناظم يشكّل منها (مسلكًا) لا مجرد (موقف فردي)، ولذلك رجعت إليها وجمعتها. سأعرض هنا بعض الشواهد ثم أعود لمحاولة تقديم بعض التفسيرات، وبطبيعة الحال لن أستطيع عرض كل المواقف للمسؤولين السعوديين، ولكنني سأختار أربعة نماذج بحيث تمثل رأس الهرم السياسي، والوزارات الحكومية الثلاث ذات الصلة، وهم: ملك الدولة السعودية سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وزير الداخلية السعودي الأسبق الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود، ووزير الخارجية السعودي الحالي د.عادل الجبير، ووزير الشؤون الإسلامية الحالي الشيخ صالح آل الشيخ. وبطبيعة الحال، وبكل وضوح أيضًا، ليس المقصود من عرض هذه الشواهد لمواقف المسؤولين هو الاحتجاج بها، فإن الحق يحتج له بالأدلة الشرعية لا بكلام المسؤولين، وإنما المقصود تفكيك هذا الوهم الذي يرهب به الإعلام الليبرالي الناس. فأما الملك سلمان فقد نشر مقالة في صحيفة الحياة دفاعًا عن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تجاه أخطاء بعض الصحافيين، جاء فيها قوله: “السلفية الصحيحة هي ما كان عليه السلف الصالح من منهج ملتزم بالكتاب والسنة، ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هي عودة إلى ذلك المنهج، ولم تستخدم السلفية لأغراض حزبية أو اسمية كما شاع في عصرنا الحديث، للأسف الشديد..، وأكرر هنا المناداة بأن من يستطيع أن يجد في كتابات الشيخ ورسائله أي خروج على الكتاب والسنة وأعمال السلف الصالح فعليه أن يبرزه ويواجهنا به” (سلمان بن عبد العزيز، صحيفة الحياة، العدد: [17190]). وثمة مقالات وكلمات أخرى له فيما يخص دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو علماء الشريعة في الجزيرة، منها: كلمته في الجامعة الإسلامية (ربيع الآخر 1432هـ)، ومقالته التي نشرت على هيئة رسالة إلى رئيس قناة المستقلة (مارس 2012م) ومنها ردّه على تركي الدخيل وفيها دفاع عن ابن عثيمين وبكر أبو زيد (جمادى الآخرة 1430هـ)، وله غيرها أيضًا. وأما وزير الداخلية السعودي الأسبق الأمير نايف بن عبد العزيز آل سعود فإنه في ندوة مشهورة عن (السلفية) عُقِدت في الرياض في شهر صفر لعام 1433هـ، ألقى كلمة جاء فيها: “السلفية الحقة هي المنهج الذي يستمد أحكامه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي بذلك تخرج عن كل ما أُلصِق بها من تُهم، أو تبناه بعض أدعياء إتّباع المنهج السلفي..” ثم قال: “وإيضاح الحقائق تجاه هذا المنهج القويم، الذي حُمِّل زورًا وبهتانًا ما لا يحتمل، من كذب وأباطيل ومفاهيم مغلوطة، كالتكفير والغلو والإرهاب وغيرها” ثم قال: “إخواني الكرام: إننا نؤكد لكم على أن هذه الدولة ستظل -بإذن الله- متبعة للمنهج السلفي القويم، ولن تحيد عنه ولن تتنازل”. وأما وزير الخارجية السعودي، د.عادل الجبير، فله كلمة مشهورة تم تداولها والتعليق عليها بكثرة في شبكات التواصل، حين سئل عن نسبة أفعال تنظيم الدولة إلى الإسلام، ولكن هذا السؤال الذي وجّهه ذلك الصحافي إلى الوزير؛ له خلفية وسياقات وقصة أحب أن أعرضها على القارئ كي يتصور دلالات ذلك السؤال: تبتدئ القصة بشاب يتدفق حماسة اسمه موسى سيرانتونيو (Musa Cerantonio)، وهو مولود في ملبورن عام 1985م، ويحمل الجنسية الأسترالية، ولكن والده من أصل إيطالي، وأمه إيرلندية، وهما كاثوليكيان متمسكان، وأسلم موسى عام 2002م، وعمره آنذاك (17) عامًا، ثم صار له نشاط إسلامي واسع في ملبورن، برغم كونه مازال في أوائل العشرينات بسبب إمكانياته في الحديث الجماهيري الجذاب، ثم دراسته في التاريخ والإعلام. ثم مع الثورة الشامية المباركة اختطف عقله تنظيم الدولة، وأغووه بغلوهم وأنهم هم الممثلون للتراث السني التاريخي، وكانت أكثر فكرة أثّرت عليه هي “فكرة الخلافة” فقد كان له اهتمام بها أثناء قراءته التاريخية السابقة، بل وذكر أن فضائية إسلامية استبعدته سابقًا بسبب إشاراته المتعددة لموضوع الخلافة. وقد توهّم صدقية التنظيم في رفع اسم الخلافة، ولم يتفطن أنه مجرد شعاراتية للاستقطاب والتجنيد، وأن الخلافة الذي جاء مدحها في الشرع ليس هذا معناها ولا طريقها أصلًا، وإنما الخلافة تكون بشورى ورضا واختيار الأمة، لا بانفراد طائفة وتكفيرها لغيرها واستباحة دمائهم وأموالهم وهدم المساجد وغدر الأقارب! وإنما هذا أقبح دركات الملك الجبري الذي يتوسل الغلو لتحصيل الرياسة واستئصال المنافس السياسي. وربما كانت هذه القابلية للإغواء بسبب حداثة سن سيرانتونيو وحماسته المتدفقة وضعف خبرته بالعلوم الشرعية، لكن الذي وقع أن سيرانتونيو وظّف شبكة علاقاته الشبابية الدعوية في استراليا، وحماسته المتدفقة؛ في تجنيد الأتباع المقاتلين على الأرض، والمناصرين الشبكيين، وبث الدعاية لصالح تنظيم الدولة، بل ووجدت عددًا من المختصين الغربيين ذوي الصلة يصفونه بأنه أنشط وأقدر الشخصيات الدينية في أستراليا في تعبئة وتجنيد الشباب لصالح تنظيم الدولة. ولما شعر سيرانتونيو بخطر عليه في أستراليا، غادرها دون أن يعلم أحد أين هو؟ وفي مطلع يوليو 2014م أعلن سيرانتونيو على حسابه الشخصي بتويتر أنه وصل إلى أرض الخلافة في الشام، حيث كتب (Al-Hamdulillah I have arrived in the land of khilafah in Ash-sham)، وعمره حينها (29) عامًا. ولكن السلطات الفلبينية فاجأت المتابعين، حيث أعلنت لاحقًا في وسائل الإعلام عن القبض عليه في سيبو، وأظهرته مصورًا، وتبيّن أنه لم يذهب للشام حينها، وتمت إعادته لاستراليا، ثم أُفرِج عنه ولكن صودر جواز سفره. وفي هذه الأثناء، أي في أواخر عام 2014م، كان الصحفي الكندي (جريم وود) مكبًا على دراسة تنظيم الدولة، ولما فكّر بالذهاب للعراق والشام لكتابة تقرير صحفي مطول عن التنظيم عدل عن ذلك بسبب شدة الخطر الأمني إلى طريقة أخرى، وهي التواصل مع أنصار التنظيم خارج العراق وسوريا، ولأجل ذلك سافر (جريم وود) إلى استراليا ولندن والتقى بعدد من أنصار التنظيم، وكان أكثر من أخذ عنه المعلومات وأخص من نقل عنه التصورات كما يذكر الصحفي (جريم وود) نفسه؛ هو هذا الشاب (موسى سيرانتونيو)، حيث التقى به في نوفمبر 2014م، وعمر سيرانتونيو آنذاك (29) أو (30) عامًا. ثم بعد بضعة أشهر نشر (جريم وود) تغطيته هذه في المجلة الأمريكية المشهورة (ذا أتلانتيك)، بعنوان (ماذا تريد داعش؟) في عدد مارس 2015م، وهذا التقرير أحدث شيئًا من الجدل لأن فيه إصرارًا واضحًا وحجاجًا مباشرًا في إثبات أصالة تنظيم الدولة وأنه أحد التفسيرات المعتبرة للإسلام، وأنه (حركة إسلامية صميمة)، حتى أن (جريم وود) ذاته ذكر عن نفسه أنه لما نشر هذه التغطية كثر إعادة نشرها على تويتر من قبل أنصار تنظيم الدولة حفاوةً بها. ثم بعد ذلك، في مؤتمر ميونيخ للأمن، في فبراير 2016م، كان أول سؤال وُجِّه لوزير الخارجية السعودي عادل الجبير، هو من إعلامي اقتطف اقتباسًا من مقالة (غريم وود) المشار لها وفيها “الحقيقة أن تنظيم الدولة إسلامي، وإسلامي تمامًا، صحيح أنه اجتذب معتوهين وهواة مغامرة، ولكنه مستمد من تفسيرات متماسكة بل وعلمية للإسلام” ثم طلب من الوزير التعليق. فكان من جواب الوزير أن قال: “كل دين فيه منحرفون يسعون لاختطافه، داعش يمكن إعتبارها إسلامية بالقدر الذي يمكن اعتبار حركة (KKK) مسيحيّة، ألم يحملوا الصّليب؟! ألم يفعلوا كل شيء باسم الدّين والمسيح؟! أليسوا يعتقدون أن المسيح يأمرهم بتصفية وقتل أولئك المنحدرين من أصل أفريقي؟! هل يستطيع المرء حقًا أن يقول أن حركة (kkk) تعتبر منظّمة مسيحية؟! وهناك مجموعات أخرى يمكن للمرء أن يشير إليها، هناك مجازر أخرى ارتُكِبت باسم صيانة بلدان ومناطق لتكون نقيّةً من غير المسيحيين! وهناك أشخاص كهؤلاء في الديانة اليهودية ولكنهم لا يُنسَبون إلى اليهودية، وهناك أيضًا أشخاص مثل هؤلاء في الهندوسية ولا يُحسَبون على الهندوسية، وأي شخص يدّعي أن داعش إسلامية فهو ساذج” (نص الكلمة باللغة الانجليزية منشور في: http://www.albawabaeg.com). وحركة (kkk) التي أشار لها الوزير هي حركة نصرانية يمينية عنصرية متطرفة في أمريكا، تعتقد تفوق العرق الأبيض، وتعادي المهاجرين وتقتل الأفارقة تديّنًا، ومرّت بتحولات تاريخية، وقُدِّر عددهم في عام 2012م بما يقارب (8000) عضو. والأهم أن يلاحظ القارئ كيف أن الصحافي الكندي (جريم وود) وقع ضحية تأثير الشاب الاسترالي المتحمس (سيرانتونيو)، وسيرانتونيو بدوره وقع تحت تأثير الغلاة في الشام بسبب متاجرتهم بمسألة (الخلافة)، ثم انتقل هذا لإغواء إلى الجدل الصحفي الغربي حتى استُخدِم في مجادلة وزير الخارجية السعودي، حول الأصالة السنية للغلاة. وأما وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح آل الشيخ فقد قال في حوار معه: “إنه من الخطأ أن ينسب داعش لابن تيمية، أو للدعوة السلفية، أو لما يسمونه -ونحن لا نقر هذه التسمية- الدعوة الوهابية، هم يأخذون نقلًا من هنا، ونقلًا من هناك، لكن القرآن والسنة منهم براء، وكذلك السلفية منهم براء، وابن تيمية منهم براء، وعلماء الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب وتلامذته، والدعوة الإصلاحية في العالم أيضًا؛ منهم براء”. يلاحظ القارئ بشكل واضح في لغة المسؤولين السعوديين الحرص الظاهر على تجريد الغلو من أسانيده الشرعية والسلفية والتاريخية، بل ظهر في خطابهم انزعاج وتوتر ضد من يسلّم المشروعية السنية للغلاة، وهذا مسلك يتعاكس بصورة ملموسة مع المسلك الذي اختاره الثلاثة (الإعلام الليبرالي والإعلام الإيراني وإعلام الغلاة) في تأكيد أصالة الغلو وامتداديته التراثية في فقه أهل السنة وأئمتهم. والحقيقة أن هذه المفارقة بين الإعلام الليبرالي وخطاب المسؤولين السعوديين يمثل بالنسبة لي لغزًا لم أفهم أبعاده جيدًا، فالإعلام الليبرالي الداخلي، يزود الخطاب الخارجي المعادي بالمستندات الكافية لإدانة النظام السياسي السعودي، كما أنه يتضمن في ذاته تحريضًا للغرب على النظام السياسي السعودي، فالنظام السياسي السعودي يعلن دومًا اعتزازه بصلته بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والسلفية وينشئ جامعات إسلامية تدرس العلوم الشرعية يقرر شيوخ هذه الجامعات على الطلاب كتب أهل السنة، فإذا قيل للعالَم بشكل متكرر هذه الكتب والمصادر والتراث هي سبب الجرائم وسفك الدماء، فإن هذا سيكون في النهاية تحريضًا ضد النظام نفسه، أم أننا هنا أمام الحالة التي سماها مالك بن نبي (المُحامي المُورِّط)؟ على أية حال، يهمني -بكيفية خاصة- أن أؤكد التنبيه إلى أنه ليس المراد هاهنا الاحتجاج للحقائق الشرعية بكلام الملوك والوزراء، فإن الحق لا يُحتج له حتى بكلام أئمة الدين الكبار الذين جمعوا عمق العلم ودقة الورع، فكيف بمن دونهم؟! وإنما يُحتَجّ للحق بالدليل، وهذه مسألة منهجية بدهية وإنما أحببت التأكيد عليها بصورة شديدة الوضوح، كما أنه ليس المقصود المزايدة على تمثيل الموقف الرسمي فهذه أساليب يترفع عنها النبلاء. وإنما كان الغرض من عقد هذه الفقرة أن نوضّح لمن يخشى إرهاب الإعلام الليبرالي بأنه لا صحة لاستطالتهم عليك بأن مسلكهم يمثل الموقف الرسمي، فحذار أن تهدي تراث أهل السنة للغلاة تحت ضغط الإعلام الليبرالي توهمًا أن من يخالف هذا فهو يخالف سياسة الدولة وقد يتعرض للمساءلة والخطر! • وجوه انتفاع الغلاة من خطاب الإعلام الليبرالي: قد يقول معترض: ولكن الشاب المُستقطَب للغلو لا يتابع الإعلام الليبرالي، فكيف يتأثر بتأكيد الإعلام الليبرالي على عمق الشرعية التاريخية للغلاة؟ ولا يمكن مناقشة هذا الاعتراض إلا بتبديد الغيوم عن تنوعات المستهلك النهائي للخطاب الإعلامي. فبدايةً هناك الشاب الحائر الذي لم يحسم بعد قراره، فالعلماء يقولون له إن الغلاة منحرفون شاذون عن تراث أهل السنة، والغلاة يقولون له إنهم هم الممثلون النموذجيون لتراث أهل السنة، وشريحة الشاب الحائر المتردد ليس بينها وبين الإعلام الليبرالي حواجز، ولذلك فحين يرى هذا الشاب الحائر تأكيدات الإعلام الليبرالي المتوالية على أن الغلاة هم الأجرأ والأشجع في تطبيق تراث أهل السنة، فإن هذه الشهادات تقوّي قلبه على الميل للغلاة، وبخاصةٍ حين يستعينُ الإعلام الليبرالي ببعض أصفيائه من المنتسبين للدعوة والعلم فيتحدثون في الإعلام بذات هذا المسلك. كما أن من المستهلكين النهائيين للخطاب الإعلامي الآباء والأهالي، فإذا رأوا الإعلام الليبرالي يؤكد لهم صبحًا ومساءً أن هؤلاء الغلاة صادقون يطبّقون ما قرؤوا في العقيدة والفقه وابن تيمية الخ، ضعف في قلوب هؤلاء الأهالي الشعور بضلال هؤلاء الشباب الغلاة، وشعروا أن الخطر عليهم سياسي/أمني فقط، وليس انحرافًا دينيًا اعتقاديًا! ولعل هذه أخطر الآثار، لأنها تساهم في صناعة ثقافة مجتمعية متسامحة تجاه الغلو باعتباره مجرد خلاف سياسي لا خللًا دينيًا، وأنفذ العناصر في تغذية الغلو صناعة المناخ المجتمعي المساند. كما أن الغلاة أنفسهم، من خلال ما يظهر من منشوراتهم، يتابعون الإعلام العالمي والإقليمي بكثافة، ويقتطفون منه ما يشهد لهم، وعلى سبيل المثال ففي مجلة (دابق) -المجلة الرسمية لتنظيم الدولة- زاوية ثابتة في كل عدد من أعداد المجلة اسمها (من كلمات العدو) يقتبسون فيها كل مرة كلمات وعبارات من الإعلام المعادي بحيث تثبت دعاواهم، باعتبارها (إقرار خصم)، ومثل هذه الكتابات الليبرالية في تأكيد أصالة الغلاة وشرعيتهم التاريخية هي مادة تقع في القلب من هذا الاهتمام الإعلامي للغلاة. والخلاصة أن خطاب الإعلام الليبرالي في تأكيد الشرعية التاريخية للغلو: يقوّي قلب الغلاة على باطلهم، ويلكز الشاب الحائر لحسم قراره باتجاههم، ويفتح اسطوانات الأكسجين المجتمعي لاحتضان الغلو، ويكسر قلب المصلح المجتهد لدحر الغلو. ومن أضرار هذا الخطاب الليبرالي أيضًا ما سبق إيضاحه من انتفاع الإعلام الإيراني به في التحريض ضد مجتمعات ودول أهل السنة. • وزن الرأسمال السني في الخارج الفكري: قد يقول أحد الليبراليين: وهَبْ أننا سلّمنا التراث السني للغلاة، وافترض أننا اعتبرنا فعلًا جرائمهم تطبيقًا لفقه أئمة السنة، فكان ماذا؟! وما الوزن العلمي والقيمة المعرفية لهؤلاء الأئمة أصلًا؟ ومن ذا تراه يهتم بهم وكتاباتهم القديمة الواقعة خارج التاريخ؟! وللجواب على هذا السؤال لن نتحدث بطبيعة الحال عن كامل التراث السني، وإنما سننتخب شخصيات كثر في الإعلام الليبرالي تشريف جرائم الغلو بربطها بهم. دعنا أولًا نقرأ الوزن العلمي للإمام ابن تيمية، فأمامنا لإيضاح وزنه ثلاثة طرق: إما أن نعرض خلاصة علمه وإبداعه، وهذا متعذر إذ لا تحتمله حدود هذه الورقة بطبيعة الحال، وإما أن ننقل شهادات علماء أهل السنة على فطحلته وربانيته، ولكن قد يعترض بعض القراء بالقول بأن هذه شهادات من الداخل السلفي فهي محل تهمة بالتحيز والمحاباة، ولذلك سألجأ إلى الطريق الثالث، وهو عرض خلاصة لشهادات من الخارج السني. • مؤشرات حول الوزن المعرفي لابن تيمية: هناك اليوم ما يسميه بعض الباحثين الغربيين (طفرة الدراسات الغربية عن ابن تيمية)، وتتناول عامة هذه الدراسات بكثير من الانبهار والدهشة التحليلات المعمقة لابن تيمية في مسائل الفلسفة الإغريقية والمنطق الأرسطي وفي مسائل العدل الإلهي وقواعد فهم النص والتشريعات القضائية ومفهوم الدولة، وتسلط الضوء بكثافة خاصة على إشكالية (الموازنة بين مطلب المثال الشرعي للخلافة وبين الواقعية السياسية) عند ابن تيمية، فضلًا عن علاقته بالغزو المغولي واستجاباته العلمية والعملية لذلك. وقد أشار باحثون غربيون إلى غزارة هذه الدراسات (انظر مثلًا: Bazzano،2015،p.106) بل ونشرت بعض كبريات دور النشر الغربية بيبليوجرافيات مصنفة موضوعيًا ومحشاة حول الدراسات الأكاديمية الغربية عن ابن تيمية (انظر مثلًا:Hoover، Oxford،2012). وبداية تلك الدراسات الموسعة والمخصصة، كانت فرنسيًا مع هنري لاوست (1939م)، وأنجلوساكسونيًا مع مكاري (1976م)، ثم تصاعدت هذه الدراسات منذ الثمانينات حتى بلغت ذروتها في التسعينات ومطلع الألفية، في كبرى الأكاديميات الغربية، ومنها ورقة نيكولاس هير (1981م) عن تجريبية ابن تيمية، ودراسة د.جون هوفر عن العدل الإلهي عند ابن تيمية (2002م)، وبابر جوهانسن عن نظرية الإثبات عند الشيخ (2002م)، وأنكه فون كوجلجن (2005م) عن نقد ابن تيمية للمنطق ومشروعه البديل، ومنهم من ركّز على السيرة الذاتية للشيخ مثل كاترينا بوري (2001م). وممن أكثر من ترجمة نصوص ابن تيمية للفرنسية خصوصًا ثم الانجليزية البلجيكي د.جين ميشو، وترجمة حلاق لمختصر الرد على المنطقيين (1992م)، وهي أعمال كان لها حضور ونقاش. ولا يسعني هنا أن أنقل الشواهد وأتوسع في عرض نماذج أخرى من هذه الدراسات لأن ذلك يخرجنا عن مقصود هذه الورقة، ولذلك فسأنشر عروضًا لهذه الدراسات في ورقة مستقلة، وهي ورقة ناجزة، كتبتها وانتهيت منها، وسأنشرها -بإذن الله- بعد بضعة أيام. وأما في الداخل الفكري العربي والمخالف مذهبيًا، فقد كتب بعض المفكرين ذوي الخلفية الشيعية عن عبقرية تفكيك ابن تيمية للمنطق (الوردي، منطق ابن خلدون، ص: [57]) وعن كونه آية في العلوم والإحاطة والسبق التجريبي (الطباطبائي، 1399هـ، ص: [29]، [148])، وغيرها كثير. وأما المخالف مذهبيًا من خصومه الأشعرية الذين ناظرهم وجرت بينه وبينهم خطوب ووقعات شامية ومصرية، فقد شهد له فئام منهم بعظمة التبحر في العلوم وتسايل الذكاء والشجاعة والزهد واستثنائية القدرات والإمكانيات، وقد جمع نماذج من هذه الشهادات كثير من العلماء مثل ابن ناصر الدين الدمشقي (842هـ) في الرد الوافر، والشيخ مرعي الكرمي (1033هـ) في الشهادة الزكية، وغيرهم كثير. وليس من المناسب عرض تفاصيل هذه المواد هنا، وسأعرضها في ورقة مستقلة قريبة بإذن الله. فإذا تأمل الباحث خلاصة هذه الشهادات من الغرب والشرق، التاريخية والمعاصرة، من الموافق والمخالف، ثم قارن ذلك بالمواقف المجانية للإعلام الليبرالي في تفسير الغلو، أدرك كم هي الخدمة التي لا تقدر بثمن والهدية الفاخرة التي يقدمها الإعلام الليبرالي للغلاة حين يقول لهم: أنتم لستم شذوذًا ولا فكرًا منبوذًا ولا اتجاهات طارئة وغريبة، بل أنتم تتبعون عمالقة أهل السنة الذين أدهشوا الغرب والشرق بعبقرية علومهم وأعمالهم! فانظر كيف أن تسليم العملاق ابن تيمية لجرائم الغلاة السطحية هو انتحار أمني وعلمي. • شهادات في الوزن الإصلاحي للمجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب: طه حسين (ت 1973م)، هو عميد الأدب التغريبي، وموقعه الفكري معروف مشهور، ومع ذلك فإنه في كتابه (ألوان) المنشور عام (1958م) نشر تقييمًا لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قال فيه: “الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب، لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر، فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها..، وأخذت تؤثِّر، لا في الجزيرة وحدها، بل في علاقاتها بالأمم الأوربية، هذه الحركة هي حركة الوهابيين، التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب..، هذا المذهب في حقيقة الأمر ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقيّ المطهّر من شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم..، ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب، وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها؛ لكان من المرجوّ جدًا أن يوحِّد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحَّدَ ظهورُ الإسلام كلمتَهم في القرن الأول” (طه حسين، ألوان، دار المعارف، 1958م، ص:[43-45]، ومُعاد نشره في الأعمال الكاملة لطه حسين: [6/425-427]). وأصل هذا الفصل في الكتاب مقالة نشرها في الهلال 1933م، ولم أطلع عليها في المجلة وإنما نقلت من كتابه المذكور ومن أعماله الكاملة، وأخبرني بعض أهل الخبرة أن هذه المقالة طبعت أيضًا مفردةً، ولم أطّلع عليها. المفكر الأديب الأشهر عباس محمود العقاد (1964م)، أحد أغزر فرسان الحياة الأدبية إنتاجًا في عصره، وأكثر من الكتابة في قضايا الفكر والسِّيَر بروح أدبية، وليس محسوبًا على الاتجاهات السلفية، وقد عرض تقييمًا لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه (الإسلام في القرن العشرين) المنشور عام (1954م)، اعتبرها فيه حركة (نهضة) أسبق من غيرها، قال فيه: “النهضة في مصر بدأت عند أوائل القرن التاسع عشر، ولكنها بدأت في الجزيرة العربية قبل ذلك بنحو ستين سنة، بالدعوة الوهابية التي تُنسب للشيخ محمد بن عبد الوهاب..، ولم تذهب صيحة ابن عبد الوهاب عبثًا في الجزيرة العربية، ولا في أرجاء العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، فقد تَبِعه كثير من الحُجّاج وزُوّار الحجاز، وسرت تعاليمه إلى الهند والعراق والسودان وغيرها من الأقطار النائية..” (عباس العقاد، الإسلام في القرن العشرين، منشور ضمن الأعمال الكاملة له، ص: [6/290]. المفكر الحداثي المغربي، وأبرز رواد دراسات التأويل الحداثي للتراث منذ الثمانينات، محمد عابد الجابري (ت2010م)، له رأي مشهور في موقع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ العربي المعاصر، ففي نهاية الثمانينات الميلادية دار حوار شهير بين د.حسن حنفي ود.محمد عابد الجابري في شكل حلقات نُشِرت لاحقًا في كتاب بعنوان (حوار المشرق والمغرب) (1990م)، وكان مما جاء في هذا الحوار أن نشر حسن حنفي قائلًا: “أود أن أخصص آخر حلقتين للعالم العربي وفرنسا، الأولى: تحية للثورة الفرنسية مشاركةً منا في الاحتفال بذكراها المائوية الثانية..” (حوار المشرق والمغرب، ص: [106])، ثم مضى د.حنفي يذكر شواهد أثر الثورة الفرنسية في إلهام العرب النهضة. ثم تحت عنوان (لا ندين لها بل للحركة الوهابية) رد عليه د.محمد عابد الجابري قائلًا: “الحقيقة التي يمدنا بها التاريخ، هي أن الحركة التي كان لها صدى واسع في جميع أقطار العالم العربي، وكان لها حضور فعلي في كثير منها؛ هي الحركة الوهابية التي قامت قبل الثورة الفرنسية باثنتين وأربعين سنة، ولا نبالغ إذا قلنا إن تأثير الحركة الوهابية في العالم العربي زمن الثورة الفرنسية؛ كان يضاهي تأثير هذه الثورة الفرنسية في الأقطار الأوروبية، بل لربما كان أقوى” (الجابري، حوار المشرق والمغرب، ص: [112-114]). وللجابري إشارات أخرى حول الموضوع أيضًا، والمراد التمثيل. ومن أشهر آباء القراءة الحداثية للإسلام في الأكاديميا الغربية، المفكر الباكستاني ذائع الصيت بينهم (فضل الرحمن) (ت1988م)، وقد درّس في ألمع الجامعات الغربية، مبتدًا بجامعة دورهام ببريطانيا، وتأويلاته الحداثية للإسلام أضرمت ضده ممانعات اجتماعية صارمة وصلت إلى المظاهرات ضده في باكستان في الستينات، وجرت عليه خطوب سياسية، فاستقر في التدريس بجامعة شيكاغو بأمريكا، وله حضور لافت في الدراسات الغربية عن الإسلام، وصدرت عنه دراسات مستقلة، أما الإشارات والاقتباسات عنه، ومن كتبه ومقالاته، في الأكاديميا الغربية؛ فأظنه يتعذر إحصاؤها، وهذا الحضور والأضواء الغربية المسلطة عليه وعلى أطروحاته لم يتضح لي تفسيرها جيدًا، فما سِرّ هذه العناية الغربية الشديدة بفضل الرحمن؟ والمراد أن فضل الرحمن هذا كان من ضمن آرائه أن طرح وجود علاقة بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والحداثة الإسلامية باعتبارها إرهاصًا (Fazlur Rahman، Islam، p.196 ff.)، بل إن من الدراسات المستقلة عن “فضل الرحمن” أطروحة الأمريكي د.دونالد بيري للدكتوراه (1990م)، وقد تُرجِمت للعربية (2014م)، وقال فيها المؤلف: “ظهور الحركة الوهابية وصفها فضل الرحمن بأنها في أساس الحداثوية الإسلامية” (دونالد بيري، الإسلام والحداثة من خلال كتابات فضل الرحمن، الشبكة العربية، ص: [59]). المفكر المرموق مالك بن نبي (1905-1973م) يُنظر إليه عادةً كأشهر مفكر عربي عالج إشكالية (الحضارة)، وهو قد أصدر أهم كتبه تحت إطار عام (سلسلة مشكلات الحضارة)، وقد صدرت دراسات كثيرة عن نظريته في الحضارة ومقارنتها بالنظريات الأخرى، سيما في النصف الثاني من الثمانينات الميلادية، فمن الكتب مثلًا (وهي مرتبة هنا تاريخيًا): (مالك بن نبي والاتجاه الحضاري في الحركة الوطنية) لمحمد معريض وهي أطروحة أكاديمية 1982م. (مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي) لمحمد الجفائري طبع عام 1984م. (الصراع الحضاري: دراسة تحليلية في فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي) لشايف عكاشة 1986م. (المصادر الدينية والفلسفية في موقف مالك بن نبي من الحضارة) لزينب مكارم وهي أطروحة أكاديمية 1986م. (فلسفة الحضارة عند مالك بن نبي) لسليمان الخطيب وهو في الأصل أطروحة دكتوراة عام 1988م. (مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي وآرنولد توينبي) لآمنة تشيكو طبع عام 1989م. (مالك بن نبي ومشكلات الحضارة) لزكي أحمد 1992م. (مالك بن نبي: حياته ونظريته في الحضارة) لفوزية باريون وهي أطروحة أكاديمية بجامعة متشجن وطبعت عام 1993م. (فلسفة الحضارة بين مالك بن نبي وروجيه غارودي”) لمسعود بعيش وهي أطروحة دكتوراه 2006م. وهذه كلها كتب وأطروحات أكاديمية، وأما الأوراق والمقالات القصيرة عن تصورات وتفسيرات مالك بن نبي لإشكالية الحضارة فكثيرة جدًا يكاد يتعذر إحصاؤها. فإذا لاحظ القارئ غزارة البحوث التي تدرس نظريات وتحليلات مالك بن نبي لإشكالية الحضارة أدرك شدة اتصال هذا المفكر بهذه الإشكالية، حتى أن بعض الباحثين أطلق عليه لقب (طبيب الحضارة). وربما يتعجب القارئ أن هذا المفكر الحضاري (مالك بن نبي) لم يذكر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالثناء العام فقط، بل رفع دعوة الشيخ إلى فلك لا أظن من نشأ في الجزيرة العربية ذاتها يضعها في هذا الموضع، وخلع مالك على دعوة الشيخ محمد نياشين الشموخ. هل يصدق (الجيل الضحية).. هل يصدق ابن الجزيرة العربية الذي تسلط عليه التضليل الإعلامي الليبرالي طوال عقود.. أن مالك بن نبي كان يعتبر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مُعجِزة) وأنها هي (المُنقِذ) وأنها (خميرة النهضة الإسلامية)؟! حين تحدث مالك بن نبي عن رفيقه الأثير (حمّودة بن الساعي) (1902-1998م) الذي كان يقضي معه الليالي الطويلة في باريس في نقاش الشأن العام الجزائري الفكري والسياسي كما رواها مالك بنفسه، قال مالك في روايته لبعض تلك اللقاءات: “وجدت أننا على وتيرة واحدة في أهمها، وإن كان لفت نظري بعض التحفظ عند صديقي بالنسبة للإصلاح والوهابية، كان صديقي لا ينتظر منهما المعجزات، وكنت أراهما معجزتين” (مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، ص: [235]). فمالك بن نبي لم يكن يرى أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حركة إصلاحية مشكورة، بل كان يراها (معجزة) من شدة افتتانه بقدرتها على التغيير وغسيل ما لطّخه التاريخ على حقيقة وجوهر الإسلام من الترسبات في حقبة زمنية تكدّس فيها التخلّف. وحين أشار مالك إلى الاتجاه الإصلاحي الجزائري، صوّر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في صورة (المُنقِذ) لأحوال العالم الإسلامي وقال: “كنت أنتسب للطرف الإصلاحي، لأنه كان يمثل في نظري الصورة الجزائرية للفكرة الوهابية، التي كنت أرى فيها مُنقِذ العالم الإسلامي” (مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، ص: [277]). لكن لماذا صوّر مالك بن نبي دعوةَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في صورة (المُنقِذ)؟ الحقيقة أن مالك بن نبي كان يرى أنها الرؤية الوحيدة المعاصرة التي تحمل (طاقة تحريرية) قادرة على انتشال العالم الإسلامي من منحدراته الحالية، حيث يقول مالك بن نبي في سياق أحد تحليلاته: “..ستصبح هكذا منارة إشعاع للفكرة “الوهابية”، يعني في نظري سيطرة الفكرة الإسلامية الوحيدة التي تصلح بما فيها من طاقة متحركة لتحرير العالم الإسلامي المنهار منذ سقوط خلافة بغداد” (مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، ص: [306]). أو بحسب تعبير آخر لمالك، في كتاب آخر له، اعتبر فيه دعوة الشيخ محمد تملك المادة الأساسية التي يمكن منها صناعة بناء النهضة، كما يقول: “الفكرة الوهابية، وهي التي كان جيلنا ينظر إليها على أنها خميرة البعث العربي والنهضة الإسلامية” (مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص: [31]). وكان يروي نشاطه لما كان طالبًا في الحي اللاتيني بفرنسا فقال: “فدعوت في الحي اللاتيني للإصلاح، والوهّابية، والوحدة المغربية، أي للشعارات المختلفة التي كانت تغطي معنى واحدًا (الإسلام)” (مالك بن نبي، مذكرات شاهد للقرن، ص: [228]). فتلاحظ في هذا النص معطيين: الأول أنه كان يعتبر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي دعوة للإسلام، والثاني أنه من فرط إعجابه بها كان يعتبر نفسه كأنما هو واحد من دعاتها من شدة التماهي والتناغم وفرط الانبهار. ولمالك بن نبي إشارات أخرى كثيرة في كتبه عن فرادة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. هذه رؤية طبيب الحضارة القادم من الجزائر والذي تشكّل مخزونه العلمي في باريس لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إذ جعلها (المُعجِزة والمنقِذ وخميرة النهضة)، في الوقت الذي يغلّف الإعلام الليبرالي في الجزيرة العربية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويهديها لأحطّ دركات الغلو الذي وصل إلى الغدر بالأقارب وإحراق المساجد على رؤوس المصلين! ومما ينبغي التفطن له في هذه الإشكالية: أثر (الكتب الوسيطة) في فهم وتصور أغراض ومقاصد الأئمة في كتاباتهم، فتلاحظ مثلًا أن كثيرًا من فتيان الغلو لم يقرأ للإمام ابن تيمية أو للإمام محمد بن عبد الوهاب ابتداءً ومباشرة ثم خرج بمثل هذه الاستنتاجات الغرائبية في استحلال الدماء، ويدلك على ذلك أنه قد قرأ كتب ابن تيمية وابن القيم وابن كثير ومحمد بن عبد الوهاب وابن سعدي ونحوهم مئين ألوف من طلاب العلم ولم يخرجوا بمثل ذلك، وإنما عامة من يتبنى من المبتدئين والجهال من فتيان الغلو هذه الأفكار تجدهم قرؤوا ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب من خلال كتب (وسيطة) التقطت نصوصًا من هؤلاء الأئمة، ثم ركّبت منظورًا قتاليًا غاليًا منحرفًا، ثم صار هذا المبتدئ بعد أن تشكّل وعيه بهذه الكتب الوسيطة يقرأ كتب هؤلاء الأئمة بذلك المنظور، فيلتقط ذهنه ما يعززه ويسقط المعلومات غير الملائمة بشكل عفوي تلقائي، يجتمع فيه اتباع الظن والهوى الخفي، أو أحدهما. • إسباغ الهالة الفقهية والفكرية على سطحيّة جرائم الغلاة: حين يعيد الباحث الموضوعي استحضار الصورة السابقة، أعني ثورة الدراسات الغربية عن علوم ومعارف ابن تيمية، في أشهر الأكاديميات الغربية الكبرى، والتي شملت تحليلاته في الفلسفة والمنطق والتشريع وقواعد فهم النص والسياسة وقضايا المنهج المعرفي التجريبي الخ، وشهادات المخالفين المذهبيين في الفلسفة وعلم الكلام والفقه وغيرها على فرادة وعبقرية ابن تيمية، ثم يضيف لذلك شهادات المفكرين والحداثيين والأدباء عن عبقرية الدعوة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم يضع بجوار هذا كله سطحية جرائم الغلاة من الغدر بالأقارب وهدم المساجد على المصلين والتفنن والتبجح بوسائل التقتيل والتعذيب، مع الجهل الممزوج بالاستخفاف بقواعد السياسة الشرعية؛ ثم يضع أمام ذلك التصريحات المجانية المتكررة للإعلام الليبرالي بأن جرائم الغلاة هذه إنما هي تطبيق لفقه عمالقة أهل السنة! فإنه سيصاب بالحسرة والغبن على هذا الإعلام الذي وضع نفسه ساعي بريد متبرع ينشر دعاوى الغلاة. فبرغم كل تلك الاقتباسات العشوائية من القرآن والمصادر التراثية فإن أي دارس موضوعي ومنصف لمواد الغلاة لا يمكن إلا أن يتفاجأ بهذا الربط، فكلمات متحدثهم الرسمي العدناني مبنية على: الكلمات الإنشائية والسجع والمترادفات ويكثر فيها من الاستشهادات الشعرية وليس فيها استدلال مبني على تأصيل شرعي منظم، ولا تحرير للصور، ولا تنزيل وتكييف للوقائع، وأما الإصدارات المرئية فيخيم عليها النشيد والإثارة بالصور الهوليودية، ثم يصور هؤلاء المضلّلون أنفسهم وهم يقتلون الأبرياء مع رسائل صوتية في غاية الهزال والضحالة. فكيف بالله يربط هذا الضعف والهشاشة والإجرام الضحل بفقه فحول الأئمة وعباقرة العلماء في المذاهب الأربعة وعقيدة أهل السنة وأئمة السلف الذين جمعوا العلم والشهامة والأخلاق والورع؟! يا أحسن الله عزاء العلم! ومكونات خطاب العدناني -المتحدث الرسمي للغلاة- متكررة بشكل ممل، فهو دومًا يشير إلى كثرة اجتماع الأمم عليهم، وأنهم مظلومون، وأنهم ينتصرون تباعًا، الخ فالمكون النفسي في الخطاب أكبر بكثير من المعطيات العلمية بل لا نسبة بينهما. إن كنت تظن أنك تُدين (الجاهل) حين تقول له أنك تتبع (العالم)؛ فأنت واهم! أنت هاهنا تؤمِّنه مما يخاف منه، وهو تهمة الانفراد والجهل! ومن التناقض الذي لا يتوقف في خطاب الإعلام الليبرالي أنهم دومًا يصفون الغلاة بالجهل، ثم يصفونهم باتباع تراث أهل السنة وكتاب (المغني) الذي هو موسوعة فقه المذاهب الأربعة لأهل السنة وفتاوى شيخ الإسلام ورسائل الإمام محمد بن عبد الوهاب! بل ما أكثر ما تجد هذين الوصفين في مقالة واحدة! وهذا التناقض في التوصيف يشبه من يقول لشخص أنت لا تعرف النحو وإنما أضعت وقتك في كتاب سيبويه! أو من يقول لآخر أنت جاهل في الفيزياء وإنما علمك كله بما قاله آينشتاين! هل هذا بالله اتهام بالجهل! لا أدري كيف يقال لشخص أنت جاهل في الشريعة وبنفس الوقت لا تعرف إلا المذاهب الأربعة لأهل السنة والإمام ابن تيمية! بالله عليك دلنا على جاهل بهذه الصفة نثني الركب عنده! والمراد أن الإعلام الليبرالي في تفسيره للغلو يكرر دومًا هذا التناقض، أعني التناقض بين وصف الغلاة بالجهل، ثم وصفهم بالأخذ عن كبار الأئمة والعلماء والفقهاء، التناقض بين تعيير الغلاة بعدم العلم ثم تشريف سطحية الغلاة باستنساب تاريخ عمالقة العلم والإصلاح لهم. • تفسير محركات الشرعنة الليبرالية للغلو: بات من الواضح الآن أن النتيجة النهائية لخطاب الإعلام الليبرالي هي تزويد الغلو بالشرعية التاريخية وتذويب الشعور العام بشذوذه وانفراده ومنبوذيته، ولكن لماذا يقع ذلك؟ الحقيقة أن الإعلام الليبرالي يشارك فيه كُتّاب من خلفيات كثيرة ورهانات متفاوتة، ولا يمكن وضعهم في فوهة باعث واحد، فمنهم من لا يستوعب أصلًا الصورة الكلية، وإنما هو يبحث عن موقع داخل تروس الخريطة الفكرية، وتقوده غريزة الاغتذاء المهنية إلى الانخراط التدريجي ضمن خطاب يوفر له منصبًا إعلاميًا وحضور مؤتمرات وهوية فكرية الخ، وإن كان هو لا يعي بالضبط ما يجري في كامل الصورة، وهذه شريحة واسعة في الطبقات الإعلامية الخدمية البسيطة. ومنهم من ابتلاه الله بطبيعة نزق في أصل تكوينه الشخصي فتقوده المهارشات مع الدعاة والمحتسبين إلى المغايظة بتصوير الجريمة كانعكاس لتراث أهل السنة، ثم تزداد الحالة لديه اهتياجًا مع هتافات المدرّجات التيّاريّة، فهذه الحالة تتطور ضمن ما يمكن تسميته آلية (مصائر المناكفات). وهاتان الشريحتان -المعتاش والمناكِف- لا تعلمان بالضبط ماذا تصنعان، وإنما يُحرّكان في القِدر الإعلامي بلا وعي غالبًا. ومنهم من يعرف بالضبط أثر ما يفعل من ربط الغلو بتراث أهل السنة لكن لديه مصلحة أرجح بشكل واضح، وهي استغلال البشاعة الاجتماعية لجرائم الغلو إلى أقصى قدر ممكن لتشويه التدين ذاته في النفوس، ومحاصرة التدين في المجتمع، وهذه شريحة ذات هدف فكري/عقدي. ومنهم شريحة رابعة غرضها سياسي مدفون، وهذه الشريحة أحذق الجميع، فهي تستوعب بشكل واضح أن مبرر وجود الإعلام الليبرالي أصلًا أنه حصيلة توازنات قوى كبرى وإقليمية، كجزء من تقليد دبلوماسي عريق في تركيب الشرعية بين متطلبات الداخل والخارج، ولذلك فالعنصر من هذه الشريحة يلعب دور العميل المزدوج (double agent) فهو يظهر إقليميًا كمحامٍ للنظام، ويظهر للخارج كمحامي الأجندة الثقافية الخارجية، ويستمد نفوذه من ما يمكن تسميته (غَلّة تعادلات القوى)، وهذه الشريحة تبيع على الطرفين، ومن النماذج الكاشفة لهذه الشريحة الفيلم الوثائقي الذي عرضته محطة العربية بعنوان (الإسلام والغرب) سبتمبر 2010م، ثم الأحداث العاصفة التي لحقته وفاجأت المراقبين، وسبق أن فصّلت جزءًا منها في مقالة بعنوان (عمالة التغريبيين). وغير خافٍ أن هذه الأقسام والشرائح قد تتداخل، وإنما المقصود هو التمييز الإجرائي لاستيعاب تفاوت البواعث فقط. ومن المظاهر الكاشفة ظهور مفارقة أحيانًا في تفاوت التصريح بلغة الإدانة بين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية والفقه السني، فقد تجد بعض الليبراليين مثلًا يهاجم بصراحة (المغني لابن قدامة) الذي هو فقه المذاهب الأربعة، ويتحاشى التصريح بالطعن بـ(دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) التي يتظاهر الغلاة بالاقتباس عنها أكثر من غيرها، ويدرك أدنى متابع أن هذا لا صلة له البتة بأي تحليل فكري أو علمي في حجم الحضور عند الغلاة لهذه المصادر، وإنما هي مراوغة للعجز السياسي بسبب الصلة التاريخية بين الدولة والدعوة، أو بسبب علاقة نسب اجتماعي مع الإمام المجدد بحيث يشعر بالحرج أن يفهم الناس عنه أنه يقول: جدّي النَّسَبي وجَدُّ الغلاة الفكري واحد. والمراد أن عامتهم يشارك في هذه الحفلة دون أدنى شعور بالمسؤولية عن الآثار التدميرية لها. والموضوعية تقتضينا التنبيه -بكيفية خاصة- إلى أن هذا العرض لطبيعة الإعلام الليبرالي لا يعني التعميم التام قطعًا، فهناك طائفة ليبرالية محدودة تخالف في ربط الغلو بتراث أهل السنة لكنها باهتة ومخنوقة الصوت، والصوت الأعلى هو للشريحة المشرعنة للغلو للأسف، كما أن الباحث الموضوعي لا يخالف في وجود شخصيات منتسبة للتدين وبعض الملتحين الناقمين استسلمت لهيمنة الطرح الليبرالي في تسليم المشروعية السنية للغلاة، أو شاركت الليبراليين لبواعث أخرى، وخصوصًا بواعث الخصومات وتصفية الحسابات مع المخالف، أو بغرض التبرّج الفكري لاستثارة الهُتاف الليبرالي. كما أن الموضوعية تقتضينا التذكير أنه ليس المقصود أن تراث أهل السنة لا يوجد فيه أي مسألة أو استدلال محل نقد وتمحيص، فهذا لا يقول به أحد أصلًا، بل مازال أهل العلم من أهل السنة يجتهدون في تحرير الصور وتمحيص المسائل وتنقيح الاستدلالات، وينقد بعضهم بعضًا خلال ذلك، وهو تقليد علمي عريق ضارب في التاريخ، ولم يتوقف قط أصلًا حتى يقال يجب إيجاده، ولكن شتان بين من ينقد بعلمية قولًا أو استدلالًا في باب الأسماء والأحكام أو باب الدماء أو باب السياسة الشرعية، وبين من يقول إن جرائم الغلو هي تطبيق لفقه أهل السنة!. • تركيز نتائج الدراسة: شاهدنا سويًا في هذه الورقة (تركيبية الغلو) وأنه يجتمع فيه الباحثون عن النفوذ والسيطرة والعنجهية وإشباع شهوة النكاية وفيه الشاب الصادق المخدوع لجهله، وأن الغلاة يختلط فكرهم بين سوء الفهم لنصوص الشرع ونصوص التراث وبين الهوى في التأويل لتعزيز المسار. وتناولنا الحجة الأكثر دورانًا بين المنتسبين للإعلام الليبرالي التي جعلتهم ينسبون جرائم الغلو لتراث أهل السنة وهو أن (كثرة الاستشهاد دليل الامتداد) وضربنا أربعة نماذج تكشف أنه قد يُظهِر تيار الاعتزاء لمنظومة فكرية وهو لا يطبقها إما لسوء فهم أو هوى، وهذه النماذج هي: المستبدون والدستور الديمقراطي، وإيران وآل البيت، والحداثيون والشاطبي، والخوارج والقرآن. وعرضنا في هذه الدراسة السبب الذي يدعو مدرسة الغلاة إلى التركيز التلقائي أو غير النزيه على تراث أهل السنة وعمالقة العلم والإصلاح فيه أكثر من غيرهم، وهو أن هذا التراث يتمتع بشدة التوقير والقيمة في نفوس المسلمين لأنه يتضمن الحق والهدى في نفس الأمر، فهو رأسمال رمزي قد يقوم به صادق في العمل بموجبه، أو ذو هوى يميل به لهواه، كما عرضنا المصادر التي يُظهِر الغلاة الاستناد عليها من القرآن والحديث والتراث الإسلامي. وعُرِض في هذه الدراسة اتجاه العلماء في مكافحة الغلو عبر آلية تجريد الغلاة من شرعيتهم التاريخية وأصالتهم التراثية المزعومة، في مقابل الحنق والانفعال الشديد المتكرر في خطابات الغلاة ضد كل من يخرجهم من دائرة (تراث أهل السنة) إلى دائرة المحدثات والبدع والشذوذ الفقهي. ثم شاهدنا بمزيج من الألم حماسة منظومة الإعلام الليبرالي، كمًا وكيفًا، لتأكيد أن جرائم الغلو ليست شذوذًا ولا انفردًا ولا غريبة عن تراث أهل السنة، بل هي امتداد لفقه المذاهب الأربعة لأهل السنة وكبار العلماء والمصلحين كابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، وقد أكّد هذا الاتجاه شخصيات من الداخل الليبرالي نفسه، كما قال الكاتب/الباحث علي العميم: “في السنوات الأخيرة تكرّس حكم عند جمهرة الليبراليين، الحكوميين والمناضلين وليبراليي الدونمة، أن الوهابية هي العامل الأساس في نشر الإرهاب”. كما تناولنا عينات من الإعلام الإيراني في طهران ودمشق وبغداد وبيروت والمنامة وهو يكرر ذات المسلك، ويربط جرائم الغلو بتراث أهل السنة، بل ويرسل رسائل شكر للإعلام الليبرالي المحلي، وبالأسماء شخصيًا، على وقوفهم معهم على ذات المدرج، في تحميل تراث أهل السنة مسؤولية جرائم الغلو. بما يعني أن الإعلام الليبرالي في موقفه من الغلو ساعد إعلام الغلاة والإعلام الإيراني سويًا على دعاواهما. وبالمقابل رأينا أربعة نماذج للمسؤولين السعوديين، من المؤسسات ذات الصلة، الملك ووزير الداخلية ووزير الخارجية ووزير الشؤون الإسلامية، وهم يسلكون الخط المعاكس للإعلام الليبرالي في تفسير الغلو، ويرفضون بإلحاح تسليم المشروعية السنية والأصالة التراثية للغلاة، ويؤكدون بطرق متنوعة على شذوذ هذا الغلو عن فقه أهل السنة والسلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهذا التعاكس الحاد بين اتجاه المسؤولين السعوديين في تفسير مرجعية الغلو، واتجاه الإعلام الليبرالي المحلي الخاضع له سياديًا، بدا لي غير مفهوم بدرجة كافية، وتم التأكيد مرارًا وبدرجة كافية أن هذا العرض ليس غرضه الاحتجاج للحقائق الشرعية بكلام المسؤولين، وإنما تفكيك إرهاب الإعلام الليبرالي للناس بأنه يمثل الموقف الرسمي في تفسير الغلو، وبيان التناقض بينهما. وللجواب على إشكالية وجه انتفاع إعلام الغلاة بخطاب الإعلام الليبرالي مع وجود القطيعة بينهما، رأينا أن خطاب الإعلام الليبرالي في تأكيد الشرعية التاريخية للغلو: يقوّي قلب الغلاة على باطلهم، ويدفع الشاب الحائر لحسم قراره باتجاههم، ويهيئ المناخ المجتمعي لاحتضان الغلو، ويثبط المصلح المجتهد في محاصرة الغلو، كما يخدم الأجندة الإيرانية الديماغوجية في التحريض ضد مجتمعات ودول أهل السنة. وللجواب على سؤال (الوزن المعرفي لابن تيمية) رأينا طفرة الدراسات الغربية المتعمقة في علوم هذا الإمام فلسفيًا وفقهيًا وسياسيًا مع سيل طافح بعبارات الانبهار بقدراته والدهشة من عبقريته، كما اطلعنا على شهادات المخالفين المذهبيين له في التاريخ الإسلامي حتى من خصومه الذين ضربت لهم معه مجالس المناظرات، والمفكرين المعاصرين، ثم مع كل ذلك يأتي الإعلام الليبرالي ليقول للشاب في مجتمعنا اليوم ما خلاصته: “أرأيت هذا الرمز الذي تطابقت كلمات المشرق والمغرب على الذهول من إمكانياته وعلومه وعبقريته وإبداعه، فاعلم أن الغلاة يتبعونه ويترسمون طريقته”. وهذا عين الدعاية للغلو وتلميعه وتخفيف ضغط الاتهام بالشذوذ عليه، ولا يعتبر البتة مواجهةً للغلو، إلا إن كان مواجهة (المحامي المورِّط) على حد تعبير مالك بن نبي! وفي المسار نفسه أيضًا شاهدنا الشهادات الفكرية والحداثية والتاريخية من تيارات مختلفة على الوزن الإصلاحي الهائل لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومع ذلك كله يأتي الإعلام الليبرالي ويقول للشاب في مجتمعنا اليوم ما خلاصته: “أرأيت هذا الرمز الذي أعلن كثير من المفكرين المعاصرين عن فضل دعوته وإصلاحه وأننا مدينون له؛ فإن الغلاة إنما يتبعونه ويسيرون على طريقته”، وهذا مزيد تسويق للغلو وتشريف له بنسبته للدعوات الإصلاحية التاريخية الكبرى، لا مواجهة له. وهذا المسلك الذي سلكه الإعلام الليبرالي هو في حقيقته الضمنية إسباغ للهالة الفقهية والفكرية والإصلاحية على الغلو وجرائمه بتشريفه بالانتساب لعمالقة العلم والإصلاح والثقل التاريخي المرموق. وأما بواعث الكتّاب الليبراليين المنخرطين في هذه الماكينة الإعلامية بهذا التوجه فهي متفاوتة، ومن أبرزها الشرائح الأربع: المعتاش والمناكف واللاديني والعميل المزدوج، مع الإقرار والاعتراف أن ثمة كتّابًا ليبراليين منخفضي الصوت لم يكونوا تروسًا في هذه الماكينة لأسباب مختلفة، وأن ثمة أيضًا منتسبين للتدين شاركوا في هذه الحفلة الليبرالية. والخلاصة التي توصلت لها من هذه الدراسة أن الإعلام الليبرالي في ملف الغلو يمثل ما سماه مالك بن نبي (المحامي المورِّط) الذي كما يقول: “يورِّط موكله بدعوى أنه يقوم بالدفاع عنه”، فهو يعرض نفسه باعتباره (محاميًا) عن المجتمع ضد الغلو، وتكشّفت حقيقة الحال أنه (ورّط) المجتمع بتكريس دعوى شرعية الغلو، وحفر المزيد من الأخاديد التي تمكن الغلو من مد جذوره فيها بكل انسيابية، وساعد إعلام الغلاة في بناء متاريس الأصالة التاريخية لهم. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(المصدر: طريق الإسلام)