مقالاتمقالات مختارة

كيف أبطل القرآن مزاعم اليهود بأحقيتهم بأرض كنعان؟

بقلم معتز الجبري

يقول مناحيم بيغن: “ساعدنا الرب على قهر قوات العدوان ونحن نضمن البقاء لشعبنا، ليس فقط في هذا الجيل فحسب، وإنما كذلك في الأجيال القادمة. لا نُؤيد بالقوة، نُؤيد بالحق، والحق وحده”.(1)

ليس صحيحًا أن المنتصر هو من يكتب التاريخ، لكن القوي ليس مضطراً أن يبرر الحاضر، فيده التي تمسك بالسيف تجعل الحق في فمه. ومع ذلك فإنه يسوّق نفسه بمبدأ ما، أو يتترّس بعقيدة ما، وهذا ما يفعله اليهود عندما يحتلون أرض الأغيار تحقيقًا لوعد الرب، فيقدمون أنفسهم على أنهم أدوات الله في تحقيق حكميه الشرعي والقدري.

أتحدث هنا عن اختزال الصهاينة علاقتهم بالرب ووصاياه في التوراة إلى وعد منه لإبراهيم-عليه السلام-بمنح أرض فلسطين لذريته، هذا الوعد الذي اختزل بدوره في نسله من إسحق. إنها عقيدة راسخة ليس فقط عند اليهود بل تبنتها مجموعات من النصارى المتصهينين، وتبلورت محاولاتهم في تنفيذها على أرض الواقع منذ القرن التاسع عشر، تمهيدا لعودة المسيح-عليه السلام-.

لا يطول الوقت بمن يطالع التوراة أن يجد النصوص التي تتضمن الوعد الإلهي بمنح أرض كنعان لنسل إبراهيم، فهي تتركز في السفر الأول من العهد القديم.  فيما يلي أورد بعضها وأسلّم جدلاً بصحّتها دون التذكير بإشكالات تحريف طالت أسفار الكتاب المقدس بعهديه:

“وقال الرب لأبرام اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك. فأجعلك أمةً عظيمةً، وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركةً. وأبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (سفر التكوين، الإصحاح 12 : 1-3).

“واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض. وظهر الرب لإبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض” (سفر التكوين، الإصحاح 12 : 6-7).

“لأن جميع الأرض التي أنت ترى، لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد. وأجعل نسلك كتراب الأرض، حتى إذا استطاع أحدٌ أن يعد تراب الأرض، فنسلك أيضاً يُعَد. قم امشِ في الأرض، طولها وعرضها، لأني لك أعطيها” (سفر التكوين، الإصحاح 13 : 15-17).

تشبث اليهود بتلك النصوص، لكن الأشد حماسًا لها طوائف من النصارى قامت مذاهبهم على حرفية الكتاب المقدس، وضرورة تمرير ظاهر نصوصه كما هي، واستقوا منها عقيدة تبنّوها بهَوَس، وعملوا مع العصابات الصهيونية على تأسيس “إسرائيل” والدفاع عنها دون هوادة.

وإذا كان ميزان القوى مختلًّا لصالح هذا التحالف الصهيوني-الصليبي فليس أقل من أن نواجه الفكرة بما يدحضها، والعقيدة بما يبطلها. ومهما كانت هذه العقيدة العنصرية متهافتة؛ فإنه يجب أن يوازيها عند المسلمين منهجًا قرآنيًا واضحًا للتصدي لها.

تستقي هذه الدراسة المتواضعة هذا المنهج من سورة البقرة، ويؤكد هذا البحث المختصر ضرورة النظر في القرآن الكريم بشكل كلّي، وربط الآيات بعضها ببعض دون التوقف التفصيلي عند آحادها والاتّكاء على وحدة الموضوع في السورة القرآنية، ومن فضول القول بأن ذلك التدبر المطلوب لكتاب الله يجب ألا يتضارب مع اللغة العربية وأساليب أهلها، ويجب ألا يخالف ما أجمع عليه أهل التفسير بالأثر أو المتفق عليه من أسباب النزول، لكن هذا التدبر يُعنى بتلمّس كيف يؤسس القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة قواعد يترسخ عليها الحق الثابت في نفس المؤمن، مما يملأ قلبه باليقين والاطمئنان لمعتقده، ويمنحه أدوات تمكنه من المقارعة الفكرية لأهل الباطل ودحض مزاعمهم.

تحذير ثلاثي الأبعاد

“البقرة” أطول سورة في القرآن؛ فعدد آياتها 286، وهي آيات طوال. وللسورة فضائل عظيمة وردت في السنة النبوية؛ قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ لكلِّ شيءٍ سَنامًا وإنَّ سَنامَ القُرآنِ سورةُ البقرة…”(2)، والسنام مستعار من البعير ويدل على العلو والرفعة.

111 آية من السورة تتحدث بشكل مباشر عن قصص بني إسرائيل، فضلًا عن الآيات الأخرى وثيقة الصلة بهم، وبهذا يمكن القول إن شطر السورة المدنية يتحدث عن بني إسرائيل، وهذا أمر لافت لنظر من يدرسها لسببين:

أولا: لأن موضوع القصص ليس من خصائص السور المدنية التي يغلب عليها التحدث عن العبادات والمعاملات والأحكام الشرعية والحدود التي تنظم المجتمع المسلم الجديد وعلاقاته.

ثانيا: أن اليهود في مجتمع المدينة المنورة لم يشكّلوا من حيث العدد إلا قلة وشراذم متفرقة، كلما نقض فريق منهم بنود المعاهدة مع النبي– صلى الله عليه وسلم-أجلاهم عن المدينة.

فلماذا إذاً كان هذا التركيز على اليهود -بني إسرائيل-؟

لا شك بأن لهذا التركيز علاقة بالتحذير من دورهم المحوري في الإفساد، وضلوعهم في حركة النفاق الناشئة في مجتمع المدينة، وتأليبهم مشركي جزيرة العرب لاجتثاث الدولة الإسلامية الوليدة. وفي الوقت نفسه تحذير للأمة الجديدة من أن تسلك مسالك اليهود المعوجّة فتكون عاقبتها مثلهم بنزع خلافة الله منها. فضلا عن تلك الأسباب الواضحة للتركيز على تاريخ بني إسرائيل في القرآن عموما وسورة البقرة تحديدا فإني أظن بأن الله تعالى الذي يعلم ما سيكون من أمر هذه الشرذمة من علوّ في الأرض في زماننا هذا، يبصّر أمة الإسلام بدروس هامّة في فهم عدوّها الأسوأ لتخوض معه معركة وجودية من أطول المعارك في التاريخ، لأنها تعبّر عن الصراع بين الحق والباطل.

إن من يدرس سورة البقرة يقف فيها على وقفات هامة في تاريخ البشر، ويستخلص منها شروط استخلاف الله لأمة من الأمم في الأرض، والقوانين الإلهية التي تحكم ذلك، ومن تلك القوانين يتبين بشكل قطعي أن الله لا يحابي أمة ولا ينحاز إلى شعب، مما ينسف مزاعم الصهيونية والمتصهينين في حق إلهي لهم في أرض الميعاد.

فإلى هذه الوقفات الهامة بشيء من التفصيل…

وظيفة شاغرة لا يصلح لها الملائكة

(الآيات 30- 39)

أكرم الله آدم-عليه السلام-بأن جعله خليفته في الأرض، وحجب هذا الشرف عن ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. بل إن الله أمرهم بالسجود لآدم تكريما له، فسجدوا ولم يشذّ عن هذا إلا إبليس حسدا لآدم وتكبرا عليه.

ثم كان الدرس الأول لآدم-عليه السلام-ولزوجه (من خلال التجربة والمعاينة) قبل ممارسة مهام خلافة الله في الأرض، وهو أن إبليس عدوّهما الحريص على إيقاعهما في ذات مصيره، والمتفرّغ لإفساد مهمتهما في الأرض بوضع العراقيل والآفات في طريقهما.

وفتح الله لآدم وذريته باب التوبة عند كل سقطة على الطريق، ومداواته من كل آفة تجتاحه من إبليس، وشرط عليه اتباع منهج الله على الأرض التي استخلفه عليها، وهو منهج متكامل يجلب لمن يلتزمه السعادة والأمن في الدارين. وأما المستنكف عن المنهج فمصيره النار.

“قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (سورة البقرة: 38-39)، تلك هي شروط استخلاف الله لآدم وذريته في الأرض تبدو جليّة واضحة، وذلك هو المَعْلم الأول والأهم في تاريخ البشرية.

بنو إسرائيل يَشْغـلون الوظيفة

(الآيات 40- 48)

يقفز سياق سورة البقرة مباشرة من استخلاف آدم إلى استخلاف بني إسرائيل، مؤكدا على شرط الاستخلاف.

“يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ” (سورة البقرة: 40-41)

والملفت للانتباه أن سوراً أخرى في القرآن ذكرت سير الرسل-عليهم السلام-مع أقوامهم على نحو تاريخي متسلسل؛ كسورة الأعراف وهود والأنبياء وغيرها، وأما سورة البقرة فإنها قفزت عن فترات تاريخية طويلة في عمر البشرية، وتحدّثت عن بني إسرائيل بمفهوم الأمة المستخلفة من الله، وهذا يعضّد ما ذهبت إليه من أسباب تركيز القرآن على سيرتهم.

إن الآيات واضحة لا لُبس فيها، وتشترط أنه إذا أوفى بنو إسرائيل بما عهد الله إليهم من الإيمان به، وبرسله وإقامة شرعه فإن الله يوفي بعهده معهم، وهو تشريفهم بخدمة دينه ورضاه عنهم.

وقبل مُضيّ الآيات في التذكير ببعض بنود عهد الله فإنها بدأت بالمشكلة الكبرى في حاضرهم لدى تنزل الآيات، تلك المشكلة هي أهم ناقض لعهدهم مع الله، وهو رفضهم الإيمان بوحي الله الأخير للبشر (القرآن) وتكذيب من جاء به (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به)، وفي هذا توبيخ لهم فهم أولى الناس بالإيمان بمحمد لأن عندهم من العلم بأنه الحق ما ليس عند غيرهم، فهم يجدون علاماته عندهم في كتبهم ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وكانوا ينتظرون خروجه بلهفة ليس اشتياقا لوحي السماء بل تلهفاً لملك يلملم شعثهم؛ فيقودهم في قتل غيرهم من الأمميين معلنا استمرار اصطفاء الله وتفضيله لبني إسرائيل على سائر الأمم.

لقد خرج النبي الموعود وجاءت صفته مطابقة لما عندهم، لكن المفاجأة أنه كان من الأمميين أنفسهم!! سخط اليهود على هذا الاصطفاء ولسان حالهم: لماذا فعل رب إسرائيل بشعبه ذلك؟! لماذا تنكّر لبنيه وأحبائه؟! لماذا انتزع الملك والنبوة من أبناء الحرة (سارة) ليضعهما في ابن الجارية (هاجر)؟!

لقد تملّكهم الغيظ وأكل قلوبهم الحسد منطلقين من أوهام عنصرية مريضة تشابه أوهام إبليس الذي تملّكه الغيظ والحسد عندما اختار الله آدم لخلافته في الأرض، وكان علوه واستكباره بعنصر النار الذي خُلق منه على الطين الذي خُلق منه آدم؛ فاعتبر ذلك حجة كافية لردّ أمر الله.

وعودة إلى الآيات 40 إلى 48 فإنها تختصر “عهد الله” باتباع النبي الخاتم وامتثال أوامره، حتى عندما أوردت بعض بنود العهد من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنها خصّت بالاهتمام جزءا من الصلاة (واركعوا مع الراكعين) وفي هذا “إيماء إلى وجوب مماثلة المسلمين في أداء شعائر الإسلام” كما يقول ابن عاشور في تفسيره. (3)

وخُتم المقطع الذي بين أيدينا بأن الله لن يحابيهم على تقصيرهم يوم الحساب ولن يشفع لهم ما ظنوه تفضيلا أبديا لهم على سائر البشر؛ “وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ”. (سورة البقرة: 48)

أمّة تتنفس الخطيئة

(الآيات 49- 102)

وضّح الله معالم الطريق لبني إسرائيل أتمّ التوضيح، وأحسن بيان، فكيف كان مسلكهم بعد هذا الاصطفاء الإلهي لهم بالنبوة والخلافة؟

أجابت سورة البقرة من الآية 49 حتى الآية 102 على ذلك، وبحسب المرء أن يقرأ تلك الآيات البيّنات ليعلم أنهم قابلوا ذلك الاصطفاء الإلهي لهم بالخلافة في الأرض بخيانة الأمانة ونقض العهد، والتكذيب والإعراض، والعنت والمراء لرسل الله، بل وصل الأمر إلى قتل النبيين. وقابلوا النِّعم التي كانت تترى عليهم بالجحود والنكران، ولم يقع هذا كما هي طبيعة البشر بالتدريج، أو بنسيان الأبناء والأحفاد ما كان عليه الآباء والأجداد من شكر المنعم، بل إنهم كانوا يرون آيات الله ونعمه شاخصة أمامهم فيكفرون في أعقابها. وانسجم التاريخ الأسود للسلف مع حاضر الخلف الذين عاصروا خاتم النبيين، فوثقّت الآيات بعض خطاياهم الجديدة. وتؤكد آيات هذا المقطع مرة أخرى أن أم المصائب عند اليهود هي إعراضهم عن اتباع محمد ومناصبته العداء؛ “وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” (سورة البقرة: 101).

كما تعيد آيات هذا المقطع تأكيد القانون الإلهي الصارم؛ وهو أن الفوز برضا الله يرتبط باتّباع أوامره واجتناب نواهيه، وهذا هو العهد الذي بينه وبين البشر جميعا، فليس بينه وبين بني إسرائيل عهدٌ بمنحهم الفوقية على البشر أو غضّ الطرف عن خطاياهم يوم الحساب: “وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ  أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” (سورة البقرة : 80-81)

والخلاصة أنه لم تخلُ أمة بني إسرائيل من صالحين وقائمين لله بالحجّة، لكن لا يجد القارئ لتاريخهم أية غضاضة في التعميم بأنهم سلفا وخلفا جمعوا خبائث النفوس وشرورها فكان لهم في كل نقيصة بشرية قصب السبق، وهذا التعميم ليس من القرآن فحسب، بل في كتابهم بعهديه القديم والجديد، يقول الدكتور سفر الحوّالي: “إذا كان الحديث عن صفات اليهود الإجرامية وسلوكهم المشين عداءً للسامية كما يدّعي (الصهاينة)؛ فإن أعظم كتاب على وجه الأرض معاداة للسامية هو التوراة نفسها”(4) وهنا يحق لنا أن نسأل النصارى المتصهينين المتمسكين بحَرفيّة الكتاب المقدس؛ كيف عميت أبصارهم عن نصوصه التي تحدثت بإسهاب عن بني إسرائيل المغضوب عليهم وقتلة الأنبياء ووصفتهم بالرجس والزنا والخطيئة والارتداد، ولم يروا إلا نصوص منح الله أرض الكنعانيين لنسل إبراهيم؟!

إبراهيم يُستدعى للشهادة

إبراهيم-عليه السلام-هو حجر الزاوية في زعم اليهود بأن الله منحهم أرض كنعان، وأطلق أيديهم في اتخاذ بنيه خدمًا لهم، فكان حضور أبي الأنبياء إبراهيم-عليه السلام-في سورة البقرة ضروريًا ليشهد بالدين الحق، وليوضح قانون الله في استخلاف البشر، وليشير إلى الجدير بحمل رسالة الله للعالمين.

فيما يلي ثلاث شهادات لإبراهيم-عليه السلام-تمثل ركائز عقائدية هامة تفصل في الخلاف بيننا وبين أهل الكتاب بشكل عام، وتدحض مزاعم اليهود الشيفونية بشكل خاص.

ليس بين الله وبين خلقه نسب

قال تعالى: “وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ” (سورة البقرة: 124)

تشوّقت نفس إبراهيم- عليه السلام- أن تكون إمامة الناس للخير وحمل مشعل هداية البشر في ذريته من بعده، فسأل الله ذلك، فكان جواب الله لخليله قاطعًا حاسمًا (لا ينال عهدي الظالمين) بمعنى أن الأمر مرهون بمسلك هذه الذرية إن أحسنت فإن الله يقابل إحسانها بإحسان، وإن أساءت وظلمت فإنها لا تستحق حمل مشعل الهداية؛ فالله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسبٌ، والله هو العدل لا يفضّل أمة ظالمة لجنسها أو لونها، ومعيار التفضيل عنده يتعلق بطاعتها له وإقامتها لأوامره، وحملها الوحي الإلهي دون تبديل وتحريف، فإذا قصّرت وأعرضت فإن الله يستبدلها بغيرها.

فهم إبراهيم هذا الدرس الإلهي جيداً، حتى أنه ذهب بعيداً جداً في تطبيقه، فلمّا سأل الله أن يرزق ساكني بيت الله الحرام حيث ترك زوجه وولده إسماعيل-عليهما السلام-فإنه حصر دعاءه فيمن آمن، لكن الله لا يغيّر سنته في أنه يرزق الناس كلهم، كافرهم ومؤمنهم متاع الحياة الدنيا، أما الآخرة فإن رزقها خالص للمؤمن وأما الكافر فليس له إلا النار.

قال تعالى: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ” (سورة البقرة: 126).

الإسلام هو ملة إبراهيم وبنيه

قال تعالى: “وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” (سورة البقرة : 130-133).

إن اصطفاء الله لخليله إبراهيم مرتبط بخضوعه لله، وهو المعنى العملي للإسلام الذي كان لسان حال إبراهيم، وهو أيضا لسان مقاله، وهو الدين الذي وصّى به إبراهيم بنيه وأخذ عليهم موثقا أن يموتوا عليه، لأنه دين الرسل من لدن آدم إلى محمد، وهو المنهج الذي ارتضاه الله للبشرية ومن يأتِ الله بغيره فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

التزم أبناء إبراهيم بوصيته، لكنّ الله خصّ بالذكر تمسّك يعقوب بهذه الوصية، ذلك أن يعقوب هو إسرائيل نفسه، فلو أراد اليهود الانتساب الحقيقي ليعقوب فعليهم بالإسلام الذي جدد خاتم النبيين ما اندرس منه بسببهم، وما تم تحريفه بأيديهم.

إن منهج الله مع أنبيائه جميعا واحد؛ فقد أمرهم بتوحيده والانقياد لإرادته وأحكامه، وهذا هو جوهر الإسلام، دين الأنبياء ورسالاتهم. ويحس المرء بالانسجام النفسي مع وحدة رسالات السماء، ويشعر بقلبه يفيض محبة للرسل الكرام وموالاة وانتماءً لموكبهم المشرق والمتجذّر في التاريخ. (الآيات 135 و136)، وبالمقابل كم يشعر الذين لا يدينون بهذا بالضيق والحرج والتناقض الذي عبّرت عنه الآية 137 بالشقاق: “فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”.

إبراهيم يرنو بشوق لابنه محمد

ذكرتُ أن سيدنا إبراهيم-عليه السلام-كان متشوقا أن يورّث الله النبوة والكتاب لذريته، وتجلّى عنده الرجاء وتوجه بالدعاء بعد أن عَهِدَ الله إليه ولولده إسماعيل-عليهما السلام-رفع أساس أول مسجد في الأرض وتطهيره من الشرك والمعاصي والنجاسات، فدعا ربه أن تكون ذريته مسلمة وأن يبعث الله منهم نبيا يرشدهم.

“وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (سورة البقرة: 127-129).

يقول ابن كثير في تفسيره: “وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم، إلى سائر الأعجمين، من الإنس والجن، كما قال الإمام أحمد: … عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي…”(5).

إن العهد القديم نفسه يشهد باستجابة الله لدعوة إبراهيم؛ ففي (سفر التكوين، الإصحاح 21: 9-21) حديث عن غيرة سارة من إسماعيل ابن المصرية إلى قولها لإبراهيم: “اطرد هذه الجارية وابنها، لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. فقبح الكلام جدا في عيني إبراهيم لسبب ابنه. فقال الله لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها، لأنه بإسحاق يُدعى لك نسلٌ. وابن الجارية أيضا سأجعله أمة لأنه نسلك”…. ويمضي النص في قصة ترك هاجر وابنها وحيدين في صحراء إلى قوله: “فسمع الله صوت الغلام، ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: مالك يا هاجر؟ لا تخافي، لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو قومي احملي الغلام وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام وكان الله مع الغلام فكبر، وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فاران (مكة)…”.

وإذا وقفنا على حرفية نص العهد القديم-التي يؤمن بها الإنجيليون المتصهينون-فإننا سنجد أن الله جعل لإبراهيم من إسماعيل أمة عظيمة، في حين أنه جعل له من إسحاق نسلا وليس أمة حتى. وبالنظر إلى الواقع فإننا نجد أن أمة محمد تناهز ملياري نسمة، وأما اليهود فبضع ملايين. وعلى هذا فبأي الأمتين يصدق وعد الله لإبراهيم بجعل ذريته بعدد تراب الأرض أو بعدد النجوم، وبأي أمة يستقيم معنى النص التوراتية: “ثم أخرجه إلى خارج، وقال: انظر إلى السماء، وعدّ النجوم إن استطعت أن تعدها. وقال له: هكذا يكون نسلك. فآمن أبرام بالرب، فحسبه له الرب براً” (سفر التكوين، الإصحاح 15: 5-6).

وعلى كل حال فإن الإرث الروحي العظيم الذي ورثه محمد عن أبيه إبراهيم-عليهما الصلاة والسلام-لم يثبت في نصوص دينية فقط؛ بل نرى شواهده منذ ترك إبراهيم هاجر وولده إسماعيل في وادي مكة المقفر إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فقد ربط الله كل شعائر ومشاعر ومناسك الحج والعمرة بإبراهيم وآله، بل إن كل صلاة يصليها المسلم يختمها بصلاة وسلام على محمد وإبراهيم وآلهما الطيبين الطاهرين.

أمة جديدة وقِبلة جديدة

يبدأ الجزء الثاني من القرآن الكريم بالآية 142 من سورة البقرة بذكر تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام؛ قال تعالى: “سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (سورة البقرة: 142).

إن تحويل القبلة رمز واضح لتحوّل النبوة وإمامة الناس والخلافة من بني إسحاق إلى بني إسماعيل، وساهم موضع الآية التي ذكرت تحويل القبلة في مطلع الجزء الثاني إلى الإشارة للأمة الثانية المستخلفة من الله بعد تلك الأمة الأولى التي نقضت عهودها مع الله.

ومن هذه الإشارة الرمزية إلى الدليل الواضح على استخلاف الأمة الجديدة في الآية التالية: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (سورة البقرة: 143).

ومن دعوة إبراهيم بأن يبعث الله الرسول الخاتم من ذريته والتي ذكرتها الآية 129 إلى استجابة الله لهذه الدعوة في الآية 151؛ “كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ”، ولنلاحظ التشابه في البناء اللفظي بين الآيتين والتحول من أسلوب الغائب إلى أسلوب الخطاب: (رسولا منهم/منكم، يتلو عليهم/عليكم، يعلم، يزكي، الكتاب، الحكمة). ونلحظ تلك المشاكلة اللفظية أيضا في الآيات التي خاطب الله فيها الأمتين بتذكر نعم الله والقيام بشكرها، وأرشدهما فيها لزاد الطريق؛ الصبر والصلاة، مما يؤكد بأن العهد الإلهي هو العهد ذاته للأمتين وأنه أمانة روحية ثقيلة وتكليفٌ شرعيٌ باهظ الثمن، وليس صكّاً إلهيا بتملك الأرض وكنوزها والتسلط على رقاب الأغيار.

ولهذا فإن الآيات التالية: 154 إلى 157، تحضّر الأمة الجديدة لوعورة الطريق وما ينتظرها فيها من عقبات وامتحانات في الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس. مع توبيخ وتقريع متكرر لبني إسرائيل الذين قالوا: (سمعنا وعصينا)، والذين حرّفوا وبدّلوا وقتلوا الأنبياء وناصبوا خاتمهم العداء. وفي هذا تحذير مبطن للأمة الجديدة. وبالمقابل فقد ذكرت السورة نماذج مشرقة من بني إسرائيل يصلحون قدوات للأمة الجديدة مثل طالوت وداوود والعزير.

وتمضي سورة البقرة إلى آخرها تفصّل الحديث عن الشريعة الإلهية (العهد والمنهج) فتتحدث عن الفرائض: (الحج والصوم والصدقة والقتال…)، وترشد للأحكام والحدود التي تنظم العلاقات الأسرية والمجتمعية: (القصاص والوصية والطلاق وعدّة المرأة والدّيْن…)، وتنهى عن بعض المحرمات مثل الربا وأنواع من الأطعمة. ومن الجدير ذكره حول هذه السورة أنها تضم أعظم آية في كتاب الله، هي آية الكرسي التي يمكن اعتبارها جوهرة التوحيد.

وأما خواتيم سورة البقرة والتي ورد فضلها في الأحاديث النبوية، فإنها إعلان ولادة لأمة السمع والطاعة، أمة أسلمت لله تعالى، لم تفرّق بين الرسل الكرام فأحبتهم جميعا، ووالتهم جميعا، ومع ذلك الإيمان والانقياد الكامل لله فإنها أمة مخبتة لربها متواضعة مع الخلق لا ترى لنفسها فضلا على غيرها إلا بالتقوى، وهي دائمة التضرع أن يغفر الله لها النسيان والخطأ، وأن يعفو عنها ويعينها على حمل الأمانة، وألا يردها على أعقابها كبني إسرائيل، وهي أمة تلوذ دائما بربها متبرئة من حولها وقوتها تطلب منه النصر والمدد.

“آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ” (سورة البقرة : 285-286).

خلاص البشرية… بين رؤيتين

نسأل في ختام بحثنا: ما هي الرسالة الربانية في توريث الله اليهود أرض فلسطين، وأنه جعل ذلك عهدا أبديا لإبراهيم؟ ما هو المبدأ العقدي وأين الرسالة الروحية بتنفيذ ذلك العهد المزعوم؟.

في رؤية اليهود والمتصهينين لوعد الله لإبراهيم لا يتحقق العدل الإلهي بين ذرية آدم، ولا نرى أثراً لميزان التقوى، ولا نقرأ رسالة خير للبشر، ولا تذكيراً بيوم الحساب، إنها رؤية ليس فيها أثرٌ من الوحي الإلهي ولا قبسٌ من النبوة. إنها رؤية يتجلى فيها فقه “ميكافيلي” ويتحول بموجبها الدين إلى “أداة ملكية”.

إن مفهوم اليهود للوعد الإلهي لإبراهيم بتوريثهم الأرض يعني احتلال “إسرائيل” للمنطقة الواقعة بين النيل والفرات واستعباد أهلها، ومتابعة إفساد العالم والسيطرة على مفاصل حكمه وإشعال الحروب تمهيدا لملك السلام (المسيح الدجال) الذي يقودهم للسيطرة المطلقة على العالم، وأما المهووسين من النصارى فيمهدون الطريق لنزول مسيحهم المزعوم الذي يأخذهم إلى الغيوم ويُلقي المنكرين لألوهيته في بحيرة كبريت متقدة. فأي خلاص للبشرية المعذبة في هاتين الرؤيتين؟!.

أما وراثة الأرض في القرآن الكريم فهي تخليص لها من رجس كل طاغوت يحول بين الناس وبين معرفة الله وتوحيده، وإخراج الناس من ظلمات الشرك ودنسه إلى نور الله، وأن يعيش الناس في ظل طهارة الشريعة الربانية وينعمون بعدلها لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى؛ قال تعالى: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” (سورة الأنبياء: 105-107).

تلك هي الوراثة التي نقتبسها من الوحي الإلهي الحق، وتلك هي الرحمة التي أرسلها الله مع محمد-صلى الله عليه وسلم-ودخل فيها الأبيض والأحمر والأسود، والعربي والفارسي والهندي والصيني والرومي والتركي والكردي والبربري وصاروا بفضل الله إخوانا، كان يسع خِراف بني إسرائيل الضالة أن ينالوا تلك الرحمة، ولكن نفوسهم الملتوية وقلوبهم التي يملؤها الكبر والحسد أبت عليهم إلا ردّ الحق، فباؤوا بغضب على غضب.

إن الفرق بين نظرة المسلمين لوراثة الأرض وبين نظرة اليهود هو الفرق “بين رؤية بصيرة للوجود ورؤية ذاتيَّة مظلمة” كما يقول محمد علي آل عمر في كتابه “عقيدة اليهود في الوعد بفلسطين -عرض ونقد”.

لقد حذر عيسى-عليه السلام-بني إسرائيل من أن الله سينزع منهم الرسالة ويعطيها لمن يقوم بحقها، وبشّر بأمة غير بني إسرائيل ترث ملكوت الله فقال: “أما قرأتم قط في الكتب: الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية؟ مِن قِبَلِ الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا! لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره…” (إنجيل متّى، الإصحاح 21: 42-44).

المصادر
(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى