كونجالي ماراكار: بربروس الهند الذي أوقف المد البرتغالي
بقلم صبغة الله الهدوي (خاص بالمنتدى)
في بداية القرن السابع عشر، حيث كانت طموحات البرتغال في قمتها، تتطلع إلى اكتشاف ميناء يضمن لها الرخاء والسخاء، فكانت مليبار محط أنظارها ووجهتها المفضلة لما كانت زاخرة بالقرنفل والفلفل والزنجبيل التي زينت موائد الأثرياء واستقطبت التجار من أنحاء العالم، فكانت التجار العرب تتردد إلى سواحل مليبار بل كانت لها القبول بين الشعب المليباري لقرون عدة لما كانت تتسم بسمات الرقة واللطف والإخاء إلا أن الأمور بدت تتغير رويدا رويدا لا سيما بعد أن اكتشفت أوربا رأس الرجاء الصالح لتطول أطماعها نحو البلدان الثرية الآسيوية،.
وأما في مليبار كان مسلموها في خير وازدهار، وكانوا تحت إمارة الملك الهندوسي العادل سامري الذي كان محبوبا لدى الشعب المليباري والذي كان له النفوذ الطائل في كاليكوت التي تعد وقتها ميناء التجارة الدولية في مليبار، فكان العلماء يحترمون ساموتري ويعترفون بإمارته وسيادته ليكون الملك السامري محبوبا ومقبولا لديهم كما كان الملك يهتم برعاية المسلمين ويساعدهم في بناء المساجد وفي إفساح المجل للإخوة العرب، فكان البحر العربي الجسر الذي يربط بين مليبار والخليج العربي، فمن ملك البحر ملك البر ، فالسيطرة على البحر العربي دائما كانت للملك ساموتري، فلم يسمح لأي أحد أن يتوغل في سيادته فكان كونجالي ماركار (الأول والثاني والثالث والرابع) قائده الأعظم المكلف بالحفاظ على سيادة البحر، فكان أسدا شجاعا يجسد في بطولته وملاحمه الأسطورة خير الدين بربروس الذي قهر الأساطيل الإسبانية، ولآل ماركار دور كبير في الرباط على البحر العربي ولحفظه آمنا مطمئنا تحت سيادة ساموتري، فكانوا أربعة كلهم قاموا بدور بطولي ضد الاحتلال البرتغالي، بل كانوا أسود البحر العربي لأكثر من ثمانية عقود، بل كانوا الصخرة الشماء التي تحطمت دونها كل الأساطيل البرتغالية، فمن رأس الرجاء الصالح إلى حدود الصين لم تواجه البرتغال عدوا مثل آل ماراكار الذين وقفوا في وجه السفن العملاقة البرتغالية بقواربهم الصغيرة التي كرت وفرت بعد أن سددت ضربات قوية وشنت غارات بحرية مثيرة.
فرغم الوشاة والبرامكة التي دائما سعت في كسر العلاقة بين الملك وقائده كسب كونجالي ماراكار كلهم ثقة كبيرة لدى الملك والشعب، فإنه وإن كان الملك هندوسيا لم يتدخل في شؤون الأديان الأخرى بل كان حاميا وراعيا على رعيته بغض النظر عن العقيدة والدين، لكن يتغير المشهد في عام 1528م حيث وقع ساموتري على اتفاقية مع البرتغال تسمح لها لبناء قلعة في فناني التي هي المركز الاستراتيجي تجاريا وعسكريا، وفعلا خيبت هذه الاتفاقية آمال التجار المحليين لتتسع الفجوة بين الملك وآل ماراكار بل ليبتعدوا من وجه ساموتري مستقلين بشعبيتهم وحماستهم، فتمركزوا حول قلعة فوتاوفاتانام، فلم توفي كونجالي الثالث تولى قيادة القلعة كونجالي الرابع الذي سطر تاريخ المجد والإباء بدماء قانية على أمواج البحر العربي الهائجة، فكانت هذه القلعة السد العالي في وجه السيول البرتغالية التي أدركت بحتمية مقتل كونجالي الرابع حتى تسود على البحر العربي ومنه إلى أعماق آسيا كلها، فدبرت كل التدبير، وحاكت المؤامرات، ولا يخفى أن كل الاستعمارات الأوربية كانت تكن في صدرها التبشير والتنصير، فكان المسلمون خط الدفاع الأول، وقفوا مع كونجال ماراكار وتفانوا في حماية أرضهم وعرضهم، وقاوموا وتصدوا للسفن البرتغالية، لكن يوما بعد يوم ظل الخلاف يتسع بين كونجالي ماراكار وساموتري ليؤكد الملك أن كونجالي يسعى للانقلاب عليه والاستبداد بالبحر العربي، فانضم مع الجيش البرتغالي ليوقف قائده الوفي في قفص الاتهام، لكن انتشر صيت كونجالي إلى ما وراء البحر العربي فكان له علاقات مع السلطنة العثمانية والسلطنة البيجابورية الهندية لتقض كل هذه المغاورات الماراكارية مضاجع البرتغال وساموتوري معا، فاتفقا جميعا للحرب ضده بزعم أنه قام بأعمال إجرامية مع عائلة ناير هندوسية وأنه سيطر على سفينة برتغالية وقتل من فيها، فتحركا جميعا ضد هذا البطل الذي وصف بأمير المسلمين، ولكن بسبب الخلافات التي حدثت بين ساموتوري والخوف الذي أقلقه من جماهيرية ماراكار لم ينضم معهم في البداية، وفي مارس عام 1599م شهدت مليبار لحرب شاملة ضد كونجالي ماراكار، حاصرت الجيوش البرتغالية قلعة كونجالي من كل الجهات لكن كونجالي صمد وقاوم ببسالة ليذيق الفشل الجيش البرتغالي المنفوخ، فكانت الهزيمة مدوية بل كانت نكبة نكراء أصابت البرتغالي في آسيا كلها، فسرعان ما أدركت برتغال أنه لا غنى عن دعم ساموتوري للقضاء على ماراكار، فحاولت من جديد لتوقيع الاتفاقية مع سامتوري كآخر محاولة للقضاء على إمبراطورية ماراكار، وفي ديسمبر عام 1599م بعد سبعة أشهر من الهزيمة المدوية زحفت الجيوش البرتغالية بكل عددها وعتادها نحو قلعة كوتاكال، فكانت لا ترضى إلا بالإبادة واسئصال جذور الإمراطورية الماراكارية، وأما ساموتوري فكان يظن أن البرتغال سيتركون كونجالي حيا في السجن لو قبضوا عليه، لكن للحكاية نهائة مأساوية، وفي هذه المرة نجحت خطة البرتغال وفتحت قلعة كونجالي بعد كر وفر، فكانت الاتفاقية تصرح أن يستسلم كونجالي مع قواده وجنوده أمام ملكه القديم ساموتوري ففعل كونجالي كذلك لكن الجيش البترغالي المتربص بهذا المشهد انقضوا عليه ليذلوه ويهينوه، فأصاب المسلمين وجيش الناير جزع وهلع فثاروا ضد هذه الخدعة الشنيعة، لكن ساموتوري كان عاجزا بل كان طماحا ليترك كونجالي في قبضة البرتغال الدامية، وأخيرا دمروا قلعة كونجالي وأحرقوا أساطيله ومدافعه، ومحوا كل آثار تتعلق بهذا البطل العظيم، فكانوا أدرى بأن كونجالي سيبعث من مدفنه ليصدع رأسهم ويحرق حلمهم، لكن كان الخلف شيمتهم وأرسلوا كونجالي وجنوده الأربعين إلى “جووفا” مقر البرتغال في الهند ليتم الإعدام عليهم، فلم يكتفوا بذلك بل رموا أشلاء القائد العظيم في مختلف البقاع وأرسلوا رأسه إلى كانور ليبث الذعر بين أهاليها، وكانوا في منتهى النشوة من إعدام هذا البطل وحتى كان للاحتفال صدى في برتغال، ولم يرحموا عزيز قوم ذل فما كانت الرحمة من طبعهم إطلاقا.
وقد كان كونجالي ماراكار بطلا عظيما مقاوما كبيرا أوقف المد البرتغالي بشجاعته وسياسته، فبعد استشهاده تنفس المستعمرون الراحة والاطمئنان وبقي الطاعنون في خوف وهلع من الاستعمار البرتغالي إلى أراضيهم، وقد كانوا في مأمن حين كان كونجالي راعيهم لكن الخيانة وزنها ثقيل وألمها وبيل.