مقالاتمقالات مختارة

كن مع الله يكن معك

كن مع الله يكن معك

بقلم خليل الزاوي

البحر أمامنا وفرعون وجنوده وراءنا، ردّ المؤيّد بالوحي “كَلَّا أن مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ”الشعراء 62. لم يتخلّ الخالق عن كليمه عند ولادته وإلقائه في اليمّ فدُخوله إلى بيت فرعون، له سوابق في النّصر والتّأييد لم تحِد عن هذا الموقف الذي ارتعدت له نفوس أتباعه وثَبَتَ الكليم. كان الخالق عند حسن ظنّ المخلوق فتمثّل في قوله “اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ” الشعراء: 63

مع أَمرِه تزول كل المعادلات والقوانين الكونيّة، يتحوّل بحر هائج إلى طريق يبس ونار هوجاء إلى برد وسلام. جمعوا أمرهم وأجمعوا على إلقاء الخليل في نار أمرُها بأمر خالق الأكوان. مكثوا أيّاما في جمع الحطب وتدبير أمور مخطّطهم، اشتعلت النّار وارتفعت ألسنة لهيبها الحارق، وجاؤوا به على أعين الناس ليشهدوا محطّم كبرياءهم بتَحطيم أصنامهم. خطّطوا بقوانين الأرض ونسوا أن تلك القوانين وُضعت من فوق سبع سماوات، ومن وضعها قادر على إبطالها متى شاء ومثلما أراد، قال للنّار الحارقة الهوجاء كوني برداً ففقدت أهم خاصية من خصائصها وكانت برداً وسلاماً على الخليل، كان مع ربّه فكان ربّه معه، نصر دينه فنصره، ثبت عند سؤالهم له فثبّته الله، ألم يقل “أن تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ” محمد: 7.

ظلام الليل مُوحش ومُشعر بالغربة ولو كنت في غرفتك وبين أهلك، فكيف لو تعلّق الأمر بأعماق البحار؟ بل لو كان في بطن مخلوق يعيش في ظلام؟ اجتمعت ظُلمات ثلاث بعضها فوق بعض، ظلمة ليل دامس وظلمة بحر غامق وظلمة بطن ضائق، لكن لا تأثير للظّلمات في قلب أضاء بنور الإيمان فانفكّ من ظلمات الأرض واتّصل بأنوار السماء. أنوار دائمة الضياء، ضياء لا يزول بزوال أسبابه بل دائم بدوام مسبّبه، روابط لا يعرفها إلا من رُزقها وذاق حلاوتها.

بئر عميق مُجرّد الاقتراب منه يبعث الرّعب في النّفوس فكيف بالسّقوط فيه؟ بل كيف لو كان سقوطك فيه بفعل فاعل؟ لكن الأجمل في كل ّ هذا أنّك والفاعل بيد القدير القادر. يُقلّب الأمر بين يديه بحكمته ويبسطه في الأرض برحمته، هزيمة اليوم نصرٌ في الغد، وسقوط اليوم عرش ممتد، تهمة يعقبها شرف بشهادة قائلها، واستشارة عليا سبقها سجن، وسجود احترام لأب أبصر الضياء بعد ظلام فقدان الابن. شبعوا بعد جوع وأبصروا بعد ظلام وتآلفت القلوب بعد عدوان. إنه أمر الكريم المنّان يبتلي لكنه لا يخيّب، يعطيك ما تريد وزيادة، ويمنع عنك ما يؤذيك إلا لحاجة لك في عواقبها تربية وتعلّم وإنابة.

مرض أنهك الجسد لسنوات، ثقل الجسد ولم يَعُد قادراً على الحركة، ضاقت الأرض بما رحبت، تحاشاه الناس واجتنبوا مجالسته بسبب مرضه وكثرة علله وأسقامه، كانت زوجته تُعيله حتى أنّها اضطرت لبيع ضفيرتيها مقابل الطعام. تعجّب من كثرة الطعام الذي أحضرته له ذلك اليوم فسألها عن مصدره فكشفت عن رأسها، حينها نادى ربّه: “أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ” الأنبياء 83. فنزلت رحمات السماء على من ارتبط اسمه بالصّبر “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ” الأنبياء 84. حاشاه أن يُخيّب من وقف ببابه وعلّق الأمل به، وانتظر الفرج منه، وتوكّل عليه بصدق، وقابل قضاءه بصبر.

الأثر ينتهي عند الغار وانتهاؤه دليل على انقطاع سير صاحبه، همَس الرفيق “لو نظر أحدهم أسفل قدميه لرآنا”، ردّ المعلّم “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”، قال يوما موصياً: “احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً “. إنّها الثّقة بمدد السّماء وتأييد مسيّر الأمور وصاحب التّدبير، إنّه قانون النّصر والتّمكين، ابتلاء فمشقّة فصبر فنصر فتمكين، كن مع الله يكن معك.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى