مقالاتمقالات المنتدى

كلمات في وداع العلامة الدكتور عبد الوهاب الديلمي

كلمات في وداع العلامة الدكتور عبد الوهاب الديلمي

 

بقلم د. الخضر سالم بن حُليس

 

تتردد ذكريات الرحيل عند حلوله.

وينشط العقل الباطن بسجل الذكريات رغم أُفوله.

رحل شيخنا العلامة الدكتور عبد الوهاب الديلمي فكان وقع رحيله شديدا على قلوبنا. ولمآثر حياته الأثر العميق في نفوسنا.

وفاءً لعلاقتي الخاصة به.

وتجديدا للمودة.

وإعمارًا للصلة بعد الموت.

وقياما بواجب التلاميذ نحو شيوخهم.

أبعث الذكريات من مرقدها… شيئا من مناقب هذا النبيل.

أما بعد:

فلقد كان الشيخ تعبيرا مثاليا عن التواضع، والبساطة العلمية، والحرص على الفضائل، والصبر على الدعوة، والحكمة في التعبير.

ما رأيته يوما نرجسيا يزهو بالعلم، بساطته تقول إنه هو. فلكأنه مصبوغ بها فطرة لا اكتسابا.

كان الشيخ كما أعرفه يُربي بأفعاله أكثر من أقواله، وكان صمته يلجمنا إذا طالت بنا المجالس.

كان مثالا تطبيقيا حيا لمعنى المسلم الملتزم. وحين حدد ابن عطاء الله السكندري موصفات الأصحاب بقوله: «لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله» فكأنه يعنيه. فصحبتهُ نهضة للحال، ومقاله محفزا للفعال.

إذا ترجمت للشيخ كتب التراجم فلن تضعه إلا بجوار العلماء الذين جمعوا بين «العلم الشرعي» و«الموقف الشرعي»، بين الذين قدموا «سلامة المنهج» على «منهج السلامة»، بين الذي جاهدوا في الله فلم يخشوا فيه لومة لائم.

إذا ترجم للشيخ أهل السير والترجمة، فستجدون ترجمته حينها في طبقة ابن جرير الطبري، وأبي حامد الغزالي، وابن تيمية، وابن عبد السلام، والشاطبي، وابن عاشور وأضرابِهم.

تتلمذت عليه في مرحلة «الماجستير» فرأيت من مسئوليته وانضباطه، ودقة مواعيده واحترامه لوعي طلابه وتقديره لجهودهم. رأيته جادا إذا أخذ العلم، قويا إذا أخذ الكتاب. يتعبد الله بما يعلم.

وصحبته في رحلة الحج فرأيت من كثرت الذكر والحضور والانقطاع في التعبد ما يدل على مدى فهم الشيخ لتلك العبادة وحرصه على اهتبال فرصتها وإدراك قيمتها.

ما اجتمعنا في مجلس فلقيني إلا تهلل في وجهي وجلس بجواري يبوح لي ما في نفسه من تأوهات. ليس في همومه الحياتية فما ذكرها يوما، وإنما كلها هموم الإسلام تشغل فكره وتفكيره.

جرت بيننا حواراتٌ خاصة ومراسلات لازلت أحتفظ ببعضها إلى اليوم، ومثاقفات وتفاكر، فما كان إلا مثلاً لاتباع الحق وتقديمه، حريصا على تحرير العلم وتدقيقه. متتبعا لقضايا الفكر والمعرفة.

كتبت له في آخر حياته رسالة أهيب به أن يطالع جزءا مما أنجزته من أطروحتي للدكتوراه في «التقعيد في درس التفسير» فعبّر عن سعادته بذلك إلا أن كبر سنه لم يعد يسمح له بمطالعة الكتب. ثم اختتم رسالته: «ختم الله تعالى لنا ولكم بالحسنى فهو أرحم الراحمين.» وها قد نال ما تمنى، فختم الله له بالحسنى، أثخن الفيروس في جسده فصبر، وعانى منه فشكر، فتوغل في أحشائه، وعبث بأنفاسه، فكان التسليم والصبر والرضا.

رحم الله تعالى رائدَ التفسير القرآني وأستاذَ علوم القرآن الذي نذر حياته لله تعالى علما وعملا وجهادا فكانت مواقفه ثابتةً أمام كلِ ما تعرض له من حملات دعائية نالت منه كما نالت من سلاسل العلماء الذي سلكوا ذاتَ المسار.

تعرض الطبري لمنحة عظيمة دفن في منزله بعيدا عن مقابر المسلمين بسبب التعصب الأعمى والإرهاب الفكري، وتعرض البخاري قبله لمحنة مماثلة، وتعرض ابن تيمية لمحنة أودعته السجن، وتعرض ابن عاشور لمحنة فتوى التجنيس الفرنسي المكذوبة عليه في تونس، وتعرض الديلمي لأكذوبة فتوى 94 التي صاغوها وصدقوها وقادوا «بروباجندا» عملاقة لإجبار الشيخ على التصديق بأكاذيبهم، وإرهابهم الفكري المشين. ولا نزال نحن الجنوبيون مع الأسف نقتل بفتاوى جنوبية كل يوم، ولا تزال الاغتيالات بحق العلماء والدعاة والخطباء في الجنوب تدور رحاها في كل يوم بأيدي جنوبية وفتاوى جنوبية ولكنهم في غيهم يسدرون.. والله المستعان.

والذي يخفف من فراقنا للشيخ أنه -رحمه الله- رحل في أيام مباركة في أشهر الحج، وفي مدينة الفاتحين القسطنطينية، رحل فارا بدينه أن يفتن من عصابات صنعاء الإجرامية، وحسبه أن أجره قد وقع على الله: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النساء:100]

عليك سلام الله وقفا فإنني                رأيت الكريم الحر ليس له عمر

رحم الله فقيدَ الأمة وربط على قلوب أهله ومحبيه بالصبر والإيمان

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى