قمة كوالالمبور ومشروع الانبعاث الحضاري الجديد
بقلم ناصر حمدادوش
لا تزال الأمّة تمتلك -وإلى الآن- عناصر الإمْكان والاستئناف الحضاري من جديد، فهي تمتلك رصيد التجربة الإنسانية ومُختبر المعرفة التاريخية المتمثّلةِ في النّبوّة الخاتمة، وتمتلك صحّة النّص السّماوي المحفوظ والمستوعِب للأفكار والقيم، كما قال تعالى: “إنّا نحن نزّلنا الذّكر، وإنّا له لحافظون.” (الحِجر: 09)، وتمتلك العقيدة الصحيحة عن الله والكون والإنسان والحياة، وتمتلك التجربة الواقعية السّابقة للدولة والحضارة الإسلامية، وتمتلك امتداد الأنموذج التطبيقي لها عبر الزّمان والمكان، وفق الحقيقة النّصيّة: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خالَفَهم ولا مَن خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ على ذَلِكَ.”.
لا تزال الأمّة تمتلك -وإلى الآن- عناصر الإمْكان والاستئناف الحضاري من جديد، فهي تمتلك رصيد التجربة الإنسانية ومُختبر المعرفة التاريخية المتمثّلةِ في النّبوّة الخاتمة، وتمتلك صحّة النّص السّماوي المحفوظ والمستوعِب للأفكار والقيم، كما قال تعالى: “إنّا نحن نزّلنا الذّكر، وإنّا له لحافظون.” (الحِجر: 09)، وتمتلك العقيدة الصحيحة عن الله والكون والإنسان والحياة، وتمتلك التجربة الواقعية السّابقة للدولة والحضارة الإسلامية، وتمتلك امتداد الأنموذج التطبيقي لها عبر الزّمان والمكان، وفق الحقيقة النّصيّة: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خالَفَهم ولا مَن خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ على ذَلِكَ.”.
ويرى مالك بن نبي (1905م- 1973م) في كتابه “شروط النّهضة” الذي صدر باللّغة الفرنسية سنة 1949م، وباللغة العربية سنة 1957م، وتحت عنوان: أثرُ الفكرة الدّينية في تكوين الحضارة، فيقول في (ص 61): (.. كيف يُتاح للفكرة الدّينية أن تبني الإنسان حتى يقوم بدوره في بناء الحضارة..)، وهي أهمُّ عنصرٍ أساسيٍّ في أيِّ إصلاحٍ أو نهضةٍ حضارية، إذ يرى ألاّ نهضة بدون دِين، يقول في (ص 75): (الحضارة لا تنبعث ـ كما هو ملاحَظ ـ إلا بالعقيدة الدّينية، وينبغي أن نبحث في حضارةٍ من الحضارات عن أصلها الدّيني الذي بعثَها..)، وهو يؤكّد على التركيز والدقّة في الدّورة التاريخية لها. ويرى العلاّمة ابن باديس عليه رحمة الله أنّ الأمم والحضارات تمرّ بثلاث مراحل، فقد جاء في تفسير ابن باديس (ص 122، 123) قوله: (الأمم كالأفراد تمرّ عليها ثلاثةُ أطوار: طورُ الشّباب، وطورُ الكهولة، وطورُ الهرم)، ويقول: (وما من أمّة إلاّ ويجري عليها هذا القانونُ العام، وإنْ اختلفت أطوارُها في الطّول والقِصَر كما تختلف الأعمار..)، لأنّه كما يقول: (أعمارُ الأمم مقدّرةٌ بآجالها في مثل قوله تعالى: “ولكلِّ أمّة أجل، فإذا جاء أجلُهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.” (الأعراف: 34). ويرى برؤيةٍ سُنَنِية رائعة -كمصلحٍ لا كمؤرّخٍ فقط- أنّ الحضاراتِ ليست بالضرورة تنتهي بالاستئصال والفناء، بل قد يُقتصر طورُها الأخير على مجرَّد العذاب، إمّا بالاحتلال والعدوان، أو بالاستبداد والظّلم، أو بالفساد والانحلال، ويستشهد لذلك بقوله تعالى: “وإنْ من قريةٍ إلاّ نحن مهلِكوها قبل يوم القيامة أو معذّبوها عذابًا شديدًا، كان ذلك في الكتاب مسطورًا.” (الإسراء: 58). الآية هنا تنبّه إلى نوعيْن من العقاب: الإهلاك أو العذاب الشّديد، وهذا النّوع الثاني من العقاب هو ما جعل منه ابن باديس موضوعًا لشرح فكرته حول تجديد حياة الأمّة وانبعاثها، وإمكانية استئنافها ودخولها في دورةٍ حضارية جديدة، وهو ما يعني أنّ هناك إمْكانًا للأمّة في الاستئناف الحضاري من جديد. وتخضع الأمّة والفكرة الدّينية إلى سُنةٍ معرفيةٍ مطّردة وممتدّة في الزّمان، وفق الحقيقة النّصية في الحديث النبوي الشّريف: “إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة مَن يجدّد لها أمرَ دينها.”. وهو ما يعني أنّ الحضارة الإسلامية لا تصل إلى مرحلة الاستئصال النهائي من الوجود، أو ما يعبّر عنه مالك بن نبي بمرحلة ما بعد الحضارة، وهي عوْدة الإنسان إلى بدائيته الأولى. ولا يمكن التصديق بالخروج الكلّي للحضارة الإسلامية من الدورة التاريخية للإنسانية نهائيًّا، والخلود في مرحلة ما بعد الحضارة، إذ أنّ المسار التاريخي للحضارة يبدأ بالفكرة والقيم، ثم بالكيان السياسي المصغّر لها وهو الدولة، ثم بالمُنتج الذي يجسِّد النّهضة وامتداده في الزمان والمكان وهو الحضارة.
إنّ سقوط الحضارة الإسلامية ثم الكيان السياسي لها بسقوط الخلافة رسميًّا سنة 1924م، لا يعني السّقوط الكلّي لعناصرها، وذلك لبقاء الفكرة الإسلامية على مستوى الفرد والمجتمع، وهو ما يحتاج إلى الإبداع والتجديد في إعادة بعثها، للانتقال من جديد من المجتمع إلى الدولة، ومن الدولة إلى النهضة والحضارة. ويرى الدكتور عمر عبيد حسنة أنّ الإسلام دينُ الفطرة، وأنّ الحضارة الإسلامية هي عطاءُ الفطرة، وأنّ خلود هذا الدّين وامتداده وقدرته على الإنتاج والعطاء مستمدٌّ من خلود الفطرة، التي تأبى التشويه والتبديل، وتمتلك إمكانية التجاوز والتصويب، قال تعالى: “فطرت الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدّين القيّم”. (الروم: 30)، وأنّ بين الإسلام والإنسان تواعداً والتقاءً، وأنّ المعركة الحقيقة كانت -ولا تزال- في الصّراع والتدافع بين الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها ومحاولات تشويهها وتبديلها واغتيالها. إنّ هذا المنطلق لفطريّة هذا الدّين هو الذي أهّل الإسلام ليكون دين الإنسان، وهو الفيصلُ الأساس بين الإسلام وسائر المشروعات الحضارية والمنظومات العقائدية والأيديولوجيات الوضعية المتعددة، ولعلّه السرّ الأعظم في خلود الإسلام، وتساقط المشروعات والحضارات الأخرى.
أمام هذا الإمْكان في الانبعاث الحضاري الجديد، وأمام هذه الحتمية التاريخية والنّصّية وإرهاصات انتقال الأمّة من مئوية الصّحوة الإسلامية خلال القرن العشرين إلى مئوية النهضة الإسلامية خلال القرن الحادي والعشرين، وأمام هذا الصّلف من الحضارة الغربية المادية الرّبوية الرأسمالية المتوحّشة يأتي هذا المشروع الانبعاثي الجديد، عبر التقاء إرادةٍ رسميةٍ لدولٍ إسلاميةٍ وهي ماليزيا وتركيا وباكستان وأندونيسيا وقطر والتحاق إيران مع إرادةٍ شعبية لأحزابٍ وحركاتٍ إسلاميةٍ وسطيةٍ معتدلة من 25 دولة، وبمشاركة أكثر من 450 عالمٍ ومفكّرٍ وباحثٍ في الفكر والحضارة الإسلامية، في المؤتمر الدولي الخامس لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، والذي يرأسه رئيس الوزراء مهاتير محمد (ماليزيا)، وأمينه العام الدكتور عبد الرزاق مقري رئيس حركة مجتمع السّلم (الجزائر)، أيام 18 إلى 21 ديسمبر 2019م بماليزيا، تحت عنوان: دور التنمية في تحقيق السيادة الوطنية، وذلك بعد المؤتمر التأسيسي الأول سنة 2014م تحت عنوان: الدولة المدنية.. رؤيةٌ إسلامية، والمؤتمر الثاني سنة 2015م تحت عنوان: دور الحرّية والديمقراطية في تحقيق الاستقرار والأمن، والمؤتمر الثالث سنة 2016م تحت عنوان: الحكم الرّاشد وأثره في تحقيق النهوض الحضاري، والمؤتمر الرابع سنة 2018م تحت عنوان: الانتقال الديمقراطي.. الأسس والآليات. ويركّز هذا المؤتمر الخامس على: التنمية والسّيادة، السّلام والأمن والدّفاع، الاستقامة والحكم الرّشيد، العدالة والحرّية، الثقافة والهويّة، التكنولوجيا وحاكمية الانترنت، التجارة والاستثمار. وتهدف هذه القمّة الإسلامية إلى: استعادة أمجاد الحضارة الإسلامية، والخروج بحلولٍ قابلةٍ للتنفيذ لمشاكل العالم الإسلامي، والمساهمة في تحسين العلاقات بين المسلمين شعوبًا ودولاً، وتشكيل شبكة تواصلٍ فعّالةٍ بين القادة والعلماء والمفكّرين في العالم الإسلامي. وتُعدُّ هذه القمّة الإسلامية نواةً للوَحدة الإسلامية، بعد أن استهلكتها الخيبات والصراعات والخلافات والانقسامات والاصطفافات والمناكفات لعقودٍ من الزّمن، وهي فرصةٌ لإعادة صياغة تحالفات وتكتلات تقوم على التكامل الاقتصادي ودعم خطط التنمية وتحقيق السّيادة الكاملة، بحيث تشكّل ثقلاً دوليًّا في مواجهة العلوِّ الكبير للصهيونية العالمية والرّأسمالية المتوحشة، وللتدافع الحتمي مع اللاعبين الكبار في العالم، الذين يتزاحمون على مناطق النفوذ والسيطرة على خيرات وثروات الأمّة الإسلامية.
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)