مقالاتمقالات مختارة

قصة عطاء و ملحمة الوفاء”أمينة قطب”

قصة عطاء و ملحمة الوفاء”أمينة قطب”

يمكننا أن نختصر تعريفنا بالسيدة الأديبة “أمينة قطب” أنها أخت عملاقين من عمالقة الفكر الإسلامي الحديث، هما: الأستاذ الشهيد سيد قطب، والأستاذ محمد قطب، وقد جرى في دمها من الأدب ما جعلها قاصة وشاعرة متميزة، وهي كذلك زوجة الداعية المسلم الشهيد كمال السنانيري الذي استشهد في 8 نوفمبر 1981م بمصر داخل معتقله.

ولدت “أمينة قطب” عام 1927م بقرية “موشة”، وهي من قرى محافظة أسيوط بصعيد مصر، ونشأت نشأة مباركة يحيطها الإيمان ويرعاها الرحمن برعايته، وكان للوالد الكريم الحاج “قطب إبراهيم” نصيب من التدين والمعرفة والوجاهة، انعكس على أولاده: “سيد”، و”محمد”، و”أمينة”، و”حميدة”.

وكانت الأم كذلك ذات دين وخلق وفضل، وقد أحاطت بيتها بأحسن رعاية، وانتقلت “أمينة” بعد وفاة الوالد الحاج “إبراهيم” مع باقي أفراد أسرتها من أسيوط إلى القاهرة؛ حيث بدأت فصول أخرى جديدة من حياتها.

ملحمة الوفاء
إنَّ قصة زواج “أمينة” من الشهيد “السنانيري” لتبعث على الإجلال والعجب معاً، فقد تمَّ الرباط بينهما حين كان الشهيد كمال السنانيري داخل السجن. تقول السيدة أمينة: كان هذا الرباط قمة التحدي للحاكم الفرد الطاغية الذي قرر أن يقضي على دعاة الإسلام بالقتل أو الإهلاك بقضاء الأعمار داخل السجون.. لقد سجن الداعية الشهيد كمال السنانيري في عام 1954م، وقُدِّم إلى محاكمة صورية مع إخوانه لأنهم يقولون ربنا الله.. وحكم عليه بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة (25 عاماً) ثم يعاد بعدها إلى المعتقل.
بعد أن قضى خمس سنوات من المدة، وفي أثناء ذهابه إلى مستشفى سجن ليمان طرة للعلاج، التقى هناك أخاها الشهيد سيد قطب، وطلب منه يد أخته “أمينة”، وعرض الشهيد الأمر على أخته أمر ذلك العريس الذي يقضي عقوبة المؤبد، وباق منها عشرون سنة، فما كان من الأخت إلا أن وافقت بلا تردد، على هذه الخطبة التي ربما تمتد فترتها لتستمر عشرين عامًا، هي الفترة الباقية لهذا الخطيب المجاهد حتى يخرج من محبسه الظالم،وأخذت عنوان الأخ وزارته في السجن وتمت الرؤية ثم عقد الزواج. وقويت الرابطة بينها وبين من خطبها من وراء الأسوار، وكانت زيارتها ورسائلها له تقوي من أزره وأزر إخوانه.
وتم العقد بعد ذلك، على الرغم من بقاء العريس خلف الأسوار المظلمة، وكأن “أمينة” بذلك تعلمنا معاني كثيرة؛ تعلمنا التضحية الفريدة، فقد كانت شابة ولم يفرض عليها أحد هذا الاختيار، إنها عشرون عامًا، ليست عشرين يومًا أو حتى عشرين شهرًا!!
وكأنها كذلك تذكر أولئك المجاهدين المحبوسين عن نور الشمس بالأمل والثقة في وعد الله واختياره، فمعنى أنها توافق على مثل هذا الارتباط بهذه الكيفية أنها ترى من النور في نهاية الظلمة ما يعينها على الصبر والتحمل، ولا ضير في ذلك، فهي شاعرة وقبل ذلك مؤمنة بالله، ربما بنت في خيالاتها أحلامها، ورسمت شمسها ونجومها، وهواءها ونسيمها، ولحظات سعادتها، فملأت عليها نفسها في عالم الروح قبل عالم الحقيقة.
وعندما زارته ذات مرة في سجن “قنا”، وكانت ترافقها شقيقته، حكت الشقيقة لأخيها ما تكبدتاه من عناء حتى وصلتا إليه منذ أن ركبتا القطار من القاهرة إلى “قنا” ثم إلى السجن، فقال لها: “لقد طال الأمد وأنا مشفق عليكم من هذا العناء، ومثل ما قلت لك في بدء ارتباطنا قد أخرج غداً وقد أمضي العشرين سنة الباقية، وقد ينقضي الأجل وأنا هنا، فلك الآن مطلق الحرية في أن تتخذي ما ترينه صالحاً في أمر مستقبلك.. ولا أريد ولا أرتضي لنفسي أن أكون عقبة في طريق سعادتك، إنهم يفاوضوننا في تأييد الطاغية ثمناً للإفراج عنا، ولن ينالوا مني بإذن الله ما يريدون حتى ولو مزقوني إرباً. فلكِ الخيار من الآن، واكتبي لي ما يستقر رأيك عليه، والله يوفقك لما فيه الخير.
وأرادت أمينة أن تُجيب خطيبها المجاهد، إلا أنَّ السجَّان أمرها بالانصراف، فقد انتهى وقت الزيارة. وعادت إلى البيت لتكتب له رسالة كانت قصيدة نظمتها له لتعلن فيها أنها اختارت طريق الجهاد.. طريق الجنَّة.. وقالت له: “دعني أشاركك هذا الطريق” .. وقالت له في بدايتها: “لقد اخترت يا أملاً أرتقبه طريق الجهاد والجنة، والثبات والتضحية، والإصرار على ما تعاهدنا عليه بعقيدة راسخة ويقين دون تردد أو ندم”، فأي امتحان لصدق المودة والحب أكبر من هذا؟!. وكان لهذه القصيدة أثر كبير في نفس المجاهد.
ومرت السنوات الطويلة سبعة عشر عامًا، خرج الزوج بعد أن أفرج عنه عام 1973م، ليواصل مع “أمينة” الأمينة رحلة الوفاء والكفاح، وتمَّ الزواج، وعاشت أمينة معه أحلى سنوات العمر. وفي الرابع من سبتمبر سنة 1981م اختُطف منها مرة أخرى ليودع في السجن، ويبقى فيه إلى أن يلقى الله شهيداً في السادس من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، وسُلِّمت جثته إلى ذويه شريطة أن يوارى التراب دون إقامة عزاء.. وأذاعت السلطات القاتلة الظالمة أنَّه انتحر!! ونشرت الصحف سبب استشهاده، فعزت ذلك إلى إسراف سلطات التحقيق في تعذيبه.
رحلتها مع الشعر
الموهبة أساس في أكثر الفنون، ولا سيما الشعر، وكما يقولون فالشاعر يولد ولا يصنع، وقد كانت “أمينة” من هذا النوع من الشعراء الذين يولدون ولا يصنعون، وبالإضافة إلى الموهبة الفطرية فقد كان لأحداث حياتها المختلفة انعكاسها على اهتمامها الأدبي، فنجدها قاصة متميزة، وإن غلبت كتابتها للقصة على كتابتها للشعر؛ حيث أبدعت أكثر من مجموعة قصصية، وقد نشرت عددًا من قصصها في المجلات المصرية، مثل: مجلة (الأديب)، ومجلة (العالم العربي)، ومجلة (الآداب)، وبالنسبة لإنتاجها الشعري فلها ديوانها: (رسائل إلى شهيد)، وقد كتبت أكثره في زوجها الشهيد “السنانيري”- رحمه الله.
وكانت “أمينة” قد بدأت كتابة الشعر منذ سن مبكرة، وكان الناقد الكبير والشقيق الأكبر سيد قطب يوجهها ويقوِّم إنتاجها، غير أنها انشغلت بكتابة القصة أكثر إلى أن كان ارتباطها بالشهيد كمال السنانيري، فتفجرت قريحتها عن ينابيع من الرسائل الشاعرية والشعرية.
أدبها مرآة لمأساتها
قالوا: إن الأدب مرآة للحياة، وربما صدقوا في جانب من هذا القول؛ لأننا لن نطلب من الأديب أن يؤرخ لحياته ومجتمعه في أدبه، ولكن متناثرات هذه الحياة في الأدب والإبداع تساعدنا في الكشف عن عناصر الغياب أو الرموز التي هي عماد من أعمدة الاستمتاع بالعمل الأدبي؛ سواء كان رواية، أو قصة قصيره ، أو غير ذلك من أجناس الإبداع، وهذا الأمر في الشعر له أهميته الخاصة لما للشعر من سمات إذا فقدها فقد الكثير، مثل: التصوير والتكثيف والرمز، وغير ذلك من الأدوات الفنية الخاصة بجنس الشعر، و”أمينة قطب” لا ينفصل أدبها عن أحداث حياتها، لكن هذه الأحداث في شعرها لا تتراءى صورًا تسجيلية متتابعة، بل هي بمثابة الوقود الذي يؤجج المشاعر، فتفيض بما أراد الله لها أن تفيض به من إبداع، ولا تدعي الشاعرة “أمينة قطب” أنها بلغت منازل الشعراء المفلقين أو النابغين الملهمين في الشعر، بل تعتبر ديوانها الذي كتبته تعبيرًا عن مشاعرها ظهر في صورة قول منظوم.
تقول: “ووجدتني فجأةً أعبر عن ابتلائي فيه- زوجها الشهيد كمال السنانيري- بهذه القصائد، بلا قصد ولا تدبير، ولم أملك في نفسي وسيلةً أخرى طوال عام كامل للتعبير عن فقده إلا بهذا القول المنظوم، هل لأن النثر لا يملك أن يواكب حرارة المشاعر وانطلاقها في مقابلة حادث شديد الوقع عميق الأثر في القلب والشعور؟ أم هي تلك الجذور للرغبة القديمة في أن أعبر عن مشاعري بكلام منظوم؟ أم هو ذلك الأثر الذي تركته في نفسه تلك القصيدة التي كتبتها له وهو في سجنه البعيد؟ أم هي محاولة ضعيفة للوفاء بوعدي له بأن أكتب وأبدأ بأي عطاء للطريق؟ لست أدري، ولكن هكذا كان .. وعلى أية حال، فأنا لا أعتبر هذه القصائد القليلة شعرًا في مجال الشعر الواسع المليء بالإبداع، ولكنها صورة من صور التعبير المنظوم أبت إلا أن تخرج على هذه الصورة ولونًا من ألوان المعاناة في حادث هائل في حياة قلب”.
كانت هذه كلماتها، ومن حقها أن ترى شعرها كما شاءت، ومن حقنا كذلك أن نتحدث عن هذا الشعر من وجهة نظرنا كوننا نجتهد في تقييمه وبيان مثالبه أو جمالياته، ونلحظ في شعرها أنه يدور في أكثره حول موضوع واحد أو إنسان واحد هو زوجها الذي سبق، وإن ذكرنا أنها ضحت من أجله بالكثير ولاسيما سنوات انتظارها له.
حادث هائل في حياة قلب
هكذا يمكننا أن نقتبس من كلامها في الحديث عن ديوانها وقصائده المتنوعة، والتي تدور حول زوجها الشهيد ومعاناته في سجنه هو وأهل الحق، وصبرهم على الإيذاء والتعذيب، والصراخ في وجه الظالمين المتجبرين الذين لا يعرفون للإنسان أي قيمة وينتهكون كرامته، ونلحظ أنها لا تستسلم أبدًا لليأس أو القنوط من رحمة الله؛ لأنها ترى في استشهاد زوجها مكسبًا تتمنى أن تنال مثله, وترى في ذلك قربانًا من أجل دعوة الله، وضريبة يجب دفعها حتى تشرق شمس الحرية. إن استشهاد زوجها لا يمثل قضية ذاتية فقط؛ لأنها هي التي فقدته، وقلبها هو الذي يحترق، لم يكن الأمر كذلك دائمًا، بل استشهاد زوجها هو قضية أمة؛ لأنه مات من أجل هذه الأمة تمامًا، مثلما استشهد أخوها الشهيد “سيد” من قبل، ومثلما استشهد الكثيرون من إخوانه في عهد مظلم متجبر.
حلت عن عالمنا بعدما قدمت لدينها ودعوتها الكثير وكانث مثالا تركت في نفوس الجميع بصمات حيث توفيت في 8/ 11/ 2007م الموافق 27 شوال 1428هـ،

(المصدر: موقع البوصلة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى