قصة إبراهيم الخليل مع ابنه الذبيح إسماعيل عليهما السلام (مشاهد وعبر)
بقلم د. علي محمد الصلاّبي (خاص بالمنتدى)
لقد انتهى أمر إبراهيم عليه السّلام مع أبيه وقومه، لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم، وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين ونجّاه من كيدهم أجمعين، وعندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة وطوى صفحة لينشر صفحة.
قص الله تعالى ذلك في كتابه، قال: { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 99 – 102].
قال ابن كثير: وهذا الغلام هو إسماعيل – عليه السّلام -، فإنه أول ولد بُشّر به إبراهيم – عليه السّلام -، وهو أكبر من إسحاق، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل في نصِّ كتابهم أن إسماعيل وُلد وعمر إبراهيم – عليه السّلام – ست وثمانون سنة، وولد إسحاق وعمر إبراهيم تسع وتسعون سنة، وعندهم أن الله تعالى أمر إبراهيم – عليه السّلام- أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة “بِكْره”، فأقحموا ههنا كذباً وبهتاناً “إسحاق”، ولا يجوز هذا؛ لأنَّه مخالف لنص كتابهم، وإنما أقحموا “إسحاق”؛ لأنَّه أبوهم وإسماعيل أبو العرب، فحسدوهم، فزادهم ذلك وحرّفوا وحيدك، بمعنى الذي ليس عندك غيره، فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى جانب مكة، وهذا تأويل وتحريف باطل، فإنه لا يُقال: “وحيدٌ” إلّا لمن ليس عنده غيره، وأيضاً فإن أول ولد له معزّةٌ ما ليس لمن بعده من الأولاد، فالأمر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار.
وقد ذهب جماعةٌ من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السَّلف، حتى نُقل عن بعض الصحابة أيضاً، وليس ذلك في كتاب ولا سنَّة وما أظنُّ ذلك تُلقى إلّا عن أحبار أهل الكتاب، وأُخذ ذلك مسلّماً من غير حجة، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم وذكر أنه الذبيح، ثم قال بعد ذلك: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} ]الصافات:112[. ولمَّا بشّرت الملائكة إبراهيم بإسحاق، قالوا:{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} ]الحجر:53[. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ]هود:71[ أي: يولد له في حياتهما ولدٌ يُسمى يعقوب، فيكون من ذريته عقب ونسل، وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير؛ لأنَّ الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً، وإسماعيل وُصف ههنا بالحليم؛ لأنَّه مناسبٌ لهذا المقام.
هذا وقد استجاب الله دعاء إبراهيم – عليه السّلام – وبشّره بغلام حليم، والحِلم كما نعلم هو العقل والأناة والتبصّر والرزانة والصبر.
وما من شكٍّ أنَّ الحِلم من الأسس الأصيلة للنجاح في الدعوة، وقد أتى هذا الغلام على كُبر من سنّ والده وأتى والده لهفة للولد، وأتى بكر والده وكان وحيداً وكان أمل والده فيه ومستقبله كبيراً؛ خصوصاً لأنَّ الله منحه عقلاً وذكاءً ونجابة، ومن أجل ذلك كان قرّة عين والديه، وكان حبّهما له كبيراً.
وفي قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}؛ انطوت البشارة في الآية على ثلاثة: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ أوان – الحُلم – فالصبي الصغير لا يوصف بالحلم، وأنه يكون حليماً موصوفاً الحلم، و”الغلام” هو الصبي من حين يولد إلى أن يشبّ، ومثناه: غلامان، وجمعه: غَلمة وغُلمان .
وإنَّ الغلام الذي بشر الله به إبراهيم – عليه السّلام – هو إسماعيل، وإسماعيل: اسم أعجمي، فهو لا يتصرف للعلمية والعجمية، وفي تاج العروس قال السيد الزبيدي: إسماعيل معناه بالسريانية: مُطيع الله، ولذا يكنى من كان اسمه إسماعيل بأبي مطيع، وفي بصائر ذوي التمييز، قال الفيروز آبادي: وإسماعيل بن إبراهيم هو أول من سُمي بهذا الاسم من بني آدم.
وبعض اللغويين يرى أن “إسماعيل” مركب من كلمتين: الأولى مشتقة من سمع، والثانية من إيل، وهو اسم الله عزّ وجل، فإن كان وزنه “افعاليل” فمعناه: أسمعه الله أمره فقام به، والّذي قال: وزنه “فعاليل”؛ لأنّ أصله سماعيل، قال: معناه سمع من الله قوله فأطاعه.
أخذ إسماعيل – عليه السّلام – يشبّ ويترعرع حتى بلغ السنّ التي يتمكن فيها من السعي والعمل، وبلغ أيضاً من حبِّ والديه مبلغاً عظيماً، وكان الحبُّ يزداد مع الأيام ويكبر على مرِّ السنين، وإذا بوالده يرى ما يراه النائم أنه يذبح ابنه، وكان الوالد يعلم أنّها إشارة له بذبح ابنه، إشارة من نوع الابتلاء الذي اختبره الله تعالى به من تحطيم الأصنام والإلقاء في النار، وقد نجح في الاختبار السابق واجتازه في ثقة بالله لاحقاً لا حدّ لها، بيد أن الابتلاء السابق واضح المعنى، وكان سافر الملامح، لقد كان أمراً صريحاً بتحطيم الأصنام، وكان تحطيماً مفهوم الدلالة، فما ينبغي أن يعبد مع الله، وما يجوز في منطق العقل والشعور السليم أن ينصرف الإنسان عن مانح النعم، وكان الإلقاء في النار أيضاً واضح المعنى، إنه في سبيل الله وفي سبيل الله يهون كل ألم، وهو نجح في الابتلاء الماضي وحفظه الله سبحانه وكتب له النجاة كما يفعل سبحانه بكل ما والاه.
ونجح في ابتلاء الهجرة ومعاناتها، وما تعرض له من جبّار مصر من ابتلاء عظيم، وحان الوقت لابتلاء من نوع جديد أشار الله فيه إلى إبراهيم – عليه السّلام – بذبح ابنه، والحكمة في ذلك – كما يقول الإمام ابن قيّم الجوزية – أن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحبّ إلى الوالدين ممن يولد بعده، وإبراهيم لما سأل ربّه الولد ووهبه له، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته، والله سبحانه وتعالى قد اتخذه خليلاً، والخلة هي كمال المحبة، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها، فلمّا أخذ الولد شعبة من قلب الوالد، أحبَّ الله سبحانه لخليله أن يكون له قلبه، فأمره سبحانه بذبح هذا الذي أخذ حبّه شعبة من قلبه، وذلك ليخلص له كاملاً.
فلما أقدم على ذبحه، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة، فلم يبقَ في الذبح مصلحة، وحصل مراد الربّ، وصدّق إبراهيم الرؤيا، وفداه الله بذبح عظيم.
ومما سبق نجد أن القصة تدلُّ من سياقها على أن مُراد الله تعالى من إبراهيم – عليه السّلام – لم يكن ذبح إسماعيل، بدليل أنَّ الذبح لم يحدث، وإنما كان المراد أن يذبح إبراهيم شغفه الزائد بابنه ومحبته به، التي أصبحت تؤثر على مرتبة الخلّة التي لا تقبل المشاركة والمزاحمة في المحبة.
المصادر والمراجع:
- سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط 32، 2003 م. (5/2994).
- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، تحقيق: يوسف علي بديوي، حسن سويدان، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط1، 1434ه، 2013م. (7/27).
- سعيد الشبلي، درب إبراهيم عليه السلام، ام كي للنشر والتوزيع، ط1، 2019م. ص265.
- علي محمد الصلابي، إبراهيم عليه السّلام خليل الله، دار ابن كثير، ط1، ص 745-750.