مقالاتمقالات المنتدى

قراءة في نمط الحكم عند الأمير عبد القادر

قراءة في نمط الحكم عند الأمير عبد القادر

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

جاء الأمير عبد القادر بتجربة جديدة في الحكم، جديدة على العصر الذي عاش فيه وليست جديدة في التاريخ، عندما رشحه والده للولاية عام (1832م) كان أمامه نماذج من الحكام المسلمين، سلطان ال عثمان، وشاه إيران، ملك أفغانستان، ثم ولاة من أمثال باي تونس وباشا مصر وإمام اليمن، وقد كان يمكنه أن يقلد هؤلاء أو حتى يقلد الداي حسين المخلوع، ولكن الأمير رفض أن يكون نموذجه أحد هؤلاء جميعاً، واختار نموذجاً جديداً يؤصّل به الخلافة الراشدية، ويرجع به إلى حكم الإسلام في عهده الذهبي.

وإن الدارس يتبين له هذا النهج الجديد القديم في عدة سلوكيات وإعلانات من قبل الأمير، فقد اتخذ علماً مخالفاً لعلم ال عثمان، استوحاه فيما يبدو من التقاليد الشعبية، وهو قطعة من القماش الأبيض تتوسطها يد مفتوحة، والبياض رمز الطهارة والجدة والصفاء، واليد الخماسية ترمز إلى نفي الغريب، والتعوذ من الحسود والشرير، والغالب على الظن أن هذه اليد كانت صفراء اللون، وعندما يرجع المرء إلى ظروف المبايعة يلاحظ أننا أمام بعث لتقاليد كاد حكام المسلمين أن ينسوها، وهي الخضوع لإرادة المحكومين ودعوتهم للتعبير عن اختيارهم بمحض الحرية، وكأننا هنا أمام الظرف الذي بويع فيه الخليفة أبو بكر الصديق أو الخليفة عمر بن الخطاب، فهنا أيضاً كانت المبايعة الخاصة ثم العامة، ففي مدينة معسكر كانت طقوس المبايعة تذكرنا بما جرى في المدينة المنورة.

لقد شملت مراسيم البيعة على درس من القرآن الكريم والمصحف باليد، مركزة على عقاب الله الذي يحل بمن تقاعس عن الجهاد والدفاع عن عرضه وأرضه ومقدساته، وكان الأمير قد تطور في لهجته، حتى بلغ درجة من الحماس حولت القعود إلى قيام، يتعاهدون على الجهاد، وذلك عندما التزم للحضور وقال لهم: إنني لن أعمل بقانون غير قانون القران، ولن يكون مرشدي غير تعاليم القران، والقران وحده، فلو أن أخي الشقيق قد أحل دمه بمخالفة القرآن لنفذت فيه الحكم، وقد أكد على ذلك بقوله لهم: عليكم واجب الخضوع في كل الأعمال إلى نصوص كتاب الله وتعاليمه، والحكم بالعدل طبقاً للسنة النبوية. (حياة الأمير عبد القادر ، مقدمة أبو القاسم سعد الله ص 8)

ولنقرأ في أول منشور للأمير إلى قومه: إن قبيلة كذا وقبيلة كذا قد وافقوا بالإجماع على تعييني وبناء عليه انتخبوني لإدارة حكومة بلادنا، وقد تعهدوا أن يطيعوني في السراء والضراء وفي الرخاء والشدة، وأن يقدموا حياتهم وحياة أبنائهم وأملاكهم فداء للقضية المقدسة «الجهاد». من أجل ذلك إذن تولينا هذه المسؤولية الخطيرة على مضض شديد، املين أن يكون ذلك وسيلة لتوحيد المسلمين ومنع الفرقة بينهم، وتوفير الأمن العام إلى كل أهالي البلاد، ووقف كل الأعمال غير القانونية التي يقوم بها الفوضويون ضد المسلمين، وصد وطرد العدو الذي اعتدى على بلادنا مريداً أن يغل أعناقنا بقيوده، ولقبول هذه المسؤولية اشترطنا على كل أولئك الذين منحونا السلطات العليا أن عليهم دائماً واجب الخضوع، في كل أعمالهم إلى نصوص وتعاليم كتاب الله وإلى الحكم بالعدل في مختلف مناطقهم طبقاً لسنة النبي (ص).

وبالإضافة إلى ذلك كان عبد القادر هو الذي يقود المعارك الجهادية، وهو الذي يؤم الناس في الصلاة، وكان في مراسلاته وأوامره يستشهد بالقران الكريم، وكان عند كل غروب ـ بعد العصر ـ يقف أمام خيمته يلقي درساً في الوعظ على قومه ولم يكن من الضروري حضور أي كان، ولكن لم يكن يتخلف أحد ـ إذا أمكن ـ عن حضور هذه الخطبة الوعظية، وبذلك كان الجميع يجددون يومياً حرارة الغيرة الحربية والدينية التي كانت تتقد داخل صدورهم، فكان عبد القادر بذلك كأنه منبع رئيسي من الضوء والحرارة لقومه.

وقد كان عبد القادر هو الذي يجلس شخصياً للفصل في المظالم، وهو القاضي الأعلى في الدولة. وأما الولايات فقد فوض لخلفائه «ولاته» القيام بنفس الدور الذي كان يتولاه هو، وكان الأمير لا يفصل في القضايا الخطيرة كالصلح أو الحرب إلا بعقد مجلس الشورى، وعرض القضية أمامه وأخذ رأيه وتنفيذ ما يتفق عليه الحاضرون.

إن هذا النموذج الذي سلكه الأمير في الحكم كان جديداً ـ قديماً، كما قلنا ؛ لأنه لا أحد من حكام المسلمين عندئذ كان يسلك هذا الطريق، ويبدو أن الأمير لو طال به العمر واستمر في الحكم لاختار نظام الخلفاء الراشدين أو النظام الجمهوري، ولكن بمفهوم ذلك الوقت، وما نظن أنه كان سيورث الحكم لأحد من أبنائه أو أقاربه، كما فعل الأمويون ومن جاء بعدهم من حكام المسلمين، وقد نص على ذلك: هذا المنصب الذي اخترتموني له لن يكون متوارثاً، وأرفض لقب «سلطان أو ملك». (الأمير عبد القادر حياته وفكره ص 29)

بعد هذه البيعة الشعبية حمل الأمير عبد القادر مسؤولية الحكم، وامتد سلطانه إثر معارك دامية حتى شمل ثلاثة أرباع القطر الجزائري، وبعد أن استقام له الأمر شرع في تنظيم أمور الدولة النواة وتشكيل الكوادر الحكومية، فعين الأكفاء من الرجال، واعتمد الفقه الإسلامي أي التشريعات المنبثقة من القرآن الكريم والسنة. نظاماً لحكمه وبناء الدولة، والجهاد لتحرير الوطن من الغزاة المحتلين.

بهذه المرجعية الإسلامية المتكاملة التي أثبتت قدرتها على حلّ جميع مشكلات الحياة، في جميع الأزمنة والأمكنة التي دخلها الإسلام وغمرها بسلطانه، بدءاً من عهد الرسول (ص) إلى عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وبهدي هذا النظام الإلهي العظيم أراد الأمير عبد القادر السير في حكمه؛ لأنه كان يؤمن أن هذا النظام وحده يمكنه من مواجهة المشكلات المعقدة الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والعسكرية، ومن الوقوف أمام تحديات الأعداء وتوسع المجتمعات وتطورها مع الزمن. (الأمير عبد القادر سيرته المجيدة في حقبة من تاريخ الجزائر ص 38)

المراجع:

  • كفاح الشعب الجزائري، الجزء الأول، د.علي محمد محمد الصلابي.
  • الأمير عبد القادر حياته وفكره، بديعة الحسني الجزائري.
  • الأمير عبد القادر سيرته المجيدة في حقبة من تاريخ الجزائر، بديعة الحسني الجزائري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى