قراءة في كتاب (فقه الاستدراك)
قراءة تسنيم الرنتيسي
إنّ كثيراً من أصحاب الطموح تكتمل مداركهم، وترجع إليهم همّتهم بعد سنواتٍ من المسير، فإذا انعطف الواحد منهم إلى الوراء وأخذ يعد السنين التي فاتته مسته الحسرة، واحتار كيف يعوّض ما فات! ثم إذا ألقى نظرةً حوله، ورأى من تعلّم وتفقّه وجاهد وتقدم مع اتحاد الظرف بينهم وبينه كادت أن تصيبه حالة نفسية من الهم والغم، فماذا عسى أن يفعل؟ وكيف له أن يستدرك ما قصّر؟ ولو أخذ يتذكر طموحاته وخططه التي كان يؤمّل إنجازها فلربما اشتدت زفراته.
إنّ قضية الاستدراك شغلت أذهان كثيرٍ من الصحابة -رضي الله عنهم- فقد أسلم كثيرٌ منهم في زمنٍ متأخر، ورأوا من تقدم في رضوان الله وأكثرَ من العلم والعمل والجهاد والدعوة، فصرّحوا بعباراتٍ تنبيك عن الحالة النفسية التي استحوذت عليهم حتى صاحبتهم إلى آخر حياتهم، ورسمت لهم خطة العمل فيما تبقى من العمر.
ومن كان مجتهداً من يوم نشأته فلا يستغني عن منافع الاستدراك؛ لأنّ سهام الغفلة وضربات الشيطان لا بد وأن توقع فيه بعض الجراحات، كنتيجةٍ طبيعةٍ لمعركةٍ شرسةٍ مع عدوٍ دائم الهجمات، فما منا من أحدٍ إلا ولديه ما يحتاج أن يستدرك به على نفسه، فشريعة الله فقط هي التي لا تقبل الاستدراك.
مَعَ الكِتاب:
قسّم المؤلف كتابه إلى ثلاثة مباحث، في كل مبحثٍ عدة مطالب حول الاستدراك:
تكلم في المبحث الأول عن – حقيقة الاستدراك وفكرته، موضحاً أن الاستدراك هو عملية تعويض لما فات بالاجتهاد فيما هو آت، وأنّ ما يفوت الإنسان إما أن يكون في شأن الدنيا أو في شأن الدين، ومع ذلك فإنّ فوات الدين أخطر من فوات الدنيا؛ لأنّ مضرة الدين أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت.
وذكر الكاتب مآثر من حياة من استدرك من الصحابة – رضي الله عنهم – ليُعلم حجم حضور فكرة الاستدراك في الجيل الأول وسيطرتها على أذهانهم بوضوحٍ وجلاء – لا سيما عند من كان يتألم لتأخر إسلامه، أو لفوات مواطن صالحة عنه، – واستهل النماذج بأنموذج عمر بن الخطاب، ثم أنموذج عكرمة بن أبي جهل واللذان اتفقا على ما مفاده بأنّ كل موقف وقفاه ضد المسلمين سيقفان مثله ضد الكفار، وكل درهم أنفقاه في حرب المسلمين سينفقان مثله في سبيل الله، تعويضاً لما فاتهم من الخيرات وكأنهم كانوا قد أسلموا وأخذوا في النفقة من أول البعثة النبوية في مكة.
ثم أتبعهم الكاتب بأنموذج أنس بن النضر والذي أراد ان ينجز في معركةٍ واحدة ما فاته في الأخرى فيصبح وكأنه مشارك في المعركتين فيفوز بأجرين، فالدور الذي لعبه باستحثاث المسلمين واستفزازهم لمنازلة المشركين من جديد يجعله كمن استدرك على نفسه وقعاتٍ كثيرة؛ فإنه أنقذ المسلمين من كارثة كادت تودي بهم.
ثم ذكر أنموذج خالد بن الوليد والذي أنقذ جيش المسلمين يوم مؤتة في أفضل انسحاب عسكري في التاريخ، وشهد فتح مكة وحُنين، وقاد معارك اليمامة ضد أهل الردة، وقضى على مسيلمة الكذاب، وغزا العراق وفتحه، ثم اخترق الصحراء من العراق إلى الشام في رحلةٍ فيها من الجرأة والمخاطرة ما يأخذ بالعقول، فأي رجل هذا الذي يسلم متأخراً، ثم يحوز أجر من أسلم من فارس والروم أعظم ممالك الدنيا آنذاك وقد مثّل رأس القادة الذين فتحوهما.
ثم ذكر الكاتب في نهاية المبحث الأول كلماتٍ تربويةٍ في الحث على الاستدراك.
وتولّى المبحث الثاني الحديث عن مجالات الاستدراك، وعناية الشريعة به، مع التركيز على الاستدراك في الجانب التعبدي ومنه: (استدراك الورد القرآني الخاص بالليل، وأوراد الصلاة، والصيام، واستدراك الزكاة والصدقة، واستدراك الحج والعمرة)، والاستدراك في الجانب الفقهي والعلمي.
وأسفر المبحث الثالث عن معالم فقه الاستدراك وفيه ستة مطالب، وهو من أهم مباحث الكتاب؛ لأنه يتناول الفقه العملي للاستدراك، فقد ذكر فيه الكاتب فقه اختيار مجال الاستدراك، وحسن التخطيط الإداري له وتحدث في هذا المطلب حول: “أهمية تنظيم الشخصية وكتابة الخطة الذاتية، وتحديد الشكل النهائي للشخصية، وكيفية كتابة الخطة، وذكر خمس نقاط في تنظيم الشخصية”، واستثمار الأزمنة والأمكنة والأعمال الفاضلة، والمواقف الفاصلة للانطلاق فيه، مع إعطاء مساحةٍ للحديث عن مفاتيح الاستدراك ومنها: “حسم الشكل النهائي للشخصية، وتقبل النصيحة، والمرونة في اتخاذ القرار، والتنافس الحميد”، كما تحدث عن عوائق الاستدراك ومنها: “رفقاء السوء، والزوجة والأولاد، وكثرة الشواغل الدعوية، والتسويف، والنفس، والشعور بالإحباط”.
مع المؤلف:
الدكتور محمد بن محمد الأسطل هو داعية إسلامي وخطيب فلسطيني من قطاع غزة، حاصل على درجة الدكتوراه في الفقه المقارن من جامعة القرآن الكريم وتأصيل العلوم من السودان، قدّم سلسلة حلقات من السيرة النبوية في صناعة الفرد والمجتمع والدولة والأمة عبر حسابه على اليوتيوب وصفحته على الفيس بوك، كما يقدم برنامج “في رحاب آية”.
له العديد من الكتب والمؤلفات، منها: سراج الغرباء إلى منازل السعداء – سياحة ماتعة في روائع فقه السنن – البيان الوارف في فقه التعامل مع المخالف، وله العديد من المقالات منها: الدعوة إلى الله رؤية فكرية معاصرة وغيرها الكثير.
بطاقة الكِتاب:
عنوان الكِتاب: فقه الاستدراك: كيف تصحح المسير، وتستدرك ما فات في العمر الطويل في زمن قصير
اسم المؤلف: د. محمد بن محمد الأسطل
عدد الصفحات: 144 صفحة
سنة النشر: 1441هـ – 2019م
(المصدر: موقع بصائر)