قراءة في كتاب ديناميات الشريعة: منتحرون شهداء… ودين بلا صيام وسياسات تقوى نسوية
أ. محمد تركي الربيعو
على مرّ العقود الماضية، كان حقل أنثروبولوجيا الإسلام، الذي يعدُّ حقلاً بكراً مقارنةً بالحقول الدينية الأخرى، قد تحوّل إلى حلبة صراع بين الأنثروبولوجيين، حول ما ينبغي أن يكون عليه موضوع هذا الحقل، وماهيّة الإسلام، وما هي أهم الأساليب الإثنوغرافية والنظرية التي من الواجب استخدامها لفهمٍ أدقٍ للإسلام، الذي أخذ يتحوّل أو يتصدّر المشهد في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، كناطقٍ باسم جماعاتٍ تدعو إلى إحلاله عوضاً عن الأفكار القومية والحداثية الغربية.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الباحثين قد انقسموا بين رؤيتين أساسيتين، ترى الأولى منهما أنّ على الباحثين في هذا الحقل دراسة أفكار المسلمين وأحاسيسهم وتأويلاتهم، باعتبارهم ينتجون إسلامات محلية، أو مخصوصة وفقاً للبيئة التي يعيشون فيها، ووفقاً لهذه الرؤية فإنّ الحديث عن إسلام واحد أو جوهراني قائم على النصوص التقليدية ليست سوى قراءة جزئية للمشهد، ذلك أنّ أي قراءة جديدة تتطلب إيلاء اهتمام بخطاب الناس ومزجهم بين الديني واليومي في حياتهم، بالإضافة إلى ضرورة دراسة تأويلاتهم وممارساتهم.
ويعدُّ الأنثروبولوجي “غبريل مارنشي” Gabriele Marranci مؤلّف كتاب «أنثروبولوجيا الإسلام» الصادر عن جامعة أكسفورد 2008، من أهم المعبّرين عن هذا الرأي، إذ يرى أنّ القرآن وأركان الإسلام ستبقى بكماء وفاقدة للمعنى، من دون عقولٍ ومشاعر تكسبها شكلاً وتضفي عليها فرادةً من خلال إعلام الفرد نفسه مسلماً. ووفقاً لهذه الرؤية، لسنا اليوم أمام إسلام واحد في أي بلد، وإنما أمام إسلامات متعددة بعضها تاريخي، وآخر يُعاد صناعته أو خلقه على يد الحركات الإحيائية، أو على يد أنظمة الدولة، وأخرى على يد العولمة، في ظل ما دعاه أوليفيه روا بالسوق الدينية، التي يجري فيها التعامل مع تعاليم الدين بمنطق السوق، إذ يقوم الفرد بأخذ ما يشتهيه من الأفكار ويعرض عن الأخرى.
وفي مقابل هذه الرؤية التي تركّز على دراسة تفاعلات اليومي مع النص والفرد المسلم، هناك من الأنثروبولوجيين من يخالف هذا التوجّه، عبر التأكيد على أهمية دراسة النصيّن المؤسسين، وتأثيرهما في حياة المسلمين. ولعلّ أهم من يمثّل هذه الرؤية هو الأنثروبولوجي طلال أسد، الذي يرى أنّ الإسلام هو عبارة عن «تقليدٍ خطابيٍّ» يتضمّن النصين المؤسسين: القرآن والحديث، ويربط نفسه بهما. ينتقد طلال أسد تركيز الأنثروبولوجيين الأمريكيين (فيكتور تيرنر وكليفورد غيرتز) على دراسة رمزيّة الطقوس، باعتبارها رسائل وشيفرات ومعاني تواصلية، فهي قراءات تبقى برأيه غير كافية لفهم غرس الفضائل والمشاعر الأخلاقية، صحيح أنّ تشكيل المشاعر الأخلاقية يعتمد على وسيطٍ دالٍ، إلّا أنّه وفقاً لأسد لا يمكننا قراءة تشكّلها انطلاقاً من نظام دلالات، يمكن تعيينه وتمييزه على نحو جازم كظاهرة سيميائية متمايزة، بينما تتشكّل في الغالب كنتاج للضبط الاجتماعي.
أما في كتاب «ديناميات الشريعة: الشريعة الإسلامية والتحولات الاجتماعية والسياسية»، والمُترجم حديثاً للعربية عن مركز نهوض للدراسات (ترجمة محمد الحاج سالم وجهاد الحاج سالم)، فيرى الأنثروبولوجي الأمريكي تيموثي ب. دانيالز محرّر الكتاب أن رؤية أسد، رغم قدرتها أحياناً على دراسة عمليات الضبط، التي تفرضها النصوصُ والطقوسُ المتوارثة في الممارسات الدينية اليومية، إلّا أنّ هذه الممارسات الأنثروبولوجية تبقى قاصرة، لكونها تتجاهل فهم الظواهر الدينية بوصفها ظواهر متعدّدة الأبعاد، تكون فيها العناصر الاجتماعية والنفسية والبيولوجية متشابكة بقوة وبشكل لا ينفصم، ولا تقوم فحسب على فكرة الضبط، التي وفقاً لبعض القراءات، قد غدت المفتاح أو البديل عن فكرة الطبقة، التي كان طلال أسد اليساري مولعاً بها.
يعتقد دانيالز أنّه بدلاً من الانحياز اليوم لرؤية غيرتز أو طلال أسد، فإنّه من الأجدى العمل جيئةً وذهاباً بين الرمزي والانضباطي، وصولاً إلى المعرفة وإلى علاقات السلطة، وهو الوحيد الكفيل، كما يرى، بإنتاج أنثروبولوجيا للإسلام تساهم في تعزيز فهمنا لأفكار المسلمين اليوم وطقوسهم وإنتاجهم الخطابي اليومي حول الدين.
أولاً: الفتوى وإعادة إنتاج الشريعة
وبالعودة إلى كتاب ديناميات الشريعة، نجد أنّ هذا المنطق التصالحي بين الرمزي والانضباطي هو الذي سيحكم رؤية الكتاب، فقد حاول عددٌ من الأنثروبولوجيين مناقشة طيفٍ من القضايا تتعلّق بالإسلام اليوم وعلاقته بالواقع، بدءاً بالفتاوى الحديثة، وإعادة تعريف مفهوم الانتحار، مروراً بالسياسات الدينية ما بعد الاستعمارية، ودور بعض الجماعات النسوية الدينية، في إعادة تعريفها لهذا الإسلام. ففي الفترة التكوينية ما بعد النبوية إلى حدود بداية القرن العاشر الميلادي، شدّد الفقهاء على الاجتهاد، مستخدمين مناهج قد تنوعّت على امتداد المجال الشاسع، الذي تقطنه الجماعات المسلمة. وقد تمثّل التياران الأساسيان المتنازعان بين رؤية المعتزلة، الذين ادّعوا أنّ للقيم الأخلاقية وجوداً موضوعياً بإمكان الناس إدراكه، في حين وجد الأشاعرة بأنّه لا يمكن تحديدها إلّا من خلال أحكام الله. سيهيمن هذا الرأي الأخير، الذي ربط ادراك القيم من خلال وحي الله في القرآن والسنة، على الحقبة الكلاسيكية من بداية القرن العاشر إلى بداية القرن الثالث عشر، وكان رافداً أساسياً في النظريات التشريعية التي أنتجتها المذاهب الفقهية السنية، وهذا ما سيدفع بجلّ الباحثين إلى القول بأنّ هذا التحوّل أو الانتقال نجمت عنه هيمنة التقليد في الفقه، لكن عوضاً عن النظر إلى هذا التحوّل على أنه غلقٌ لباب الاجتهاد، يفترض أحمد فكري إبراهيم بأنّ الشريعة الإسلامية اكتسبت قدراً مهماً من المرونة في خضم النزاع حول انتقاء أقل الآراء الفقهية صرامة في المذاهب وفي ما بينها، والجمع بين رأيين فقهيين حول الممارسات التشريعية قبل أن يُقبل بهما تدريجياً، وهما ممارستان تدخلان ضمن مقولته المفهومية «الانتقائية البراغماتية». فهذه الممارسات، كما يؤكّد إبراهيم، أصبحت تحظى بقبولٍ واعٍ لدى أهم المذاهب السنية في الأزمنة الحديثة، خصوصاً تحت وطأة التأثير الاستعماري والسعي إلى صياغة قانون للدول القومية الحديثة، إذ نجد أن فاعلين اجتماعيين متعددين، من ضمنهم إصلاحيون وحركيون اعتمدوا في صياغتهم لرؤية دولة إسلامية على الانتقائية البراغماتية في سبيل بلوغ أهدافهم.
ثانيًا: البوعزيزي بين السلطة الدينية والعلمنة والميديا
يفحص أحمد برهاني، في أحد فصول الكتاب، الفتاوى والنقاشات حول انتحار محمد البوعزيزي، احتجاجاً على الأوضاع القمعية والحكومة في المنطقة. ومن خلال وصف تناقض مكانتي الشهادة والانتحار في التقليد الخطابي الإسلامي، يبيّن برهاني أن نيل درجة الشهيد تكون عند الموت في صراعٍ ضدّ الطغاة والحكّام الجائرين، بينما يبقى الانتحار محرماً بشدة.. فاتساقاً مع التقليد الفقهي، أعلن العديد من العلماء المسلمين، أن ما أقدم عليه البوعزيزي يعتبر انتحاراً، ولا يدخل في مفهوم الشهادة، إلا أنّ برهاني يبرز أن الشعب التونسي بقي يعتبر البوعزيزي شهيداً وطنياً غير عابئ بتصريحات علماء الدين، وهو ما قد يعكس برأيه تنامياً للرؤية العلمانية أو «الدين المدني» على حد تعبيره. فبدلاً من تقنيات الجسد المفروضة فوقياً، نرى أن الشعب التونسي ابتدع تقنيات جسدٍ خاص به عبر مسالك حياته اليومية المضنية، تقنيات أضفت معنى خاصاً على موت البوعزيزي، كما أضفت معنى آخر حول مفاهيم الجهاد والانتحار التقليدية.
يصف جيمس فرانكل ثلاثة عشر قرناً ونيف من تاريخ المسلمين في الصين، وطرق تحوّل مقاربة المسلمين الصينيين للشريعة، من قانون يحكم كل جوانب الحياة إلى تركيز ضيق على القانون الطقوسي الجمعي والممارسات الدينية الفرديّة.
ثالثًا: الإسلام الصيني
وفي سياق آخر، يصف جيمس فرانكل ثلاثة عشر قرناً ونيف من تاريخ المسلمين في الصين، وطرق تحوّل مقاربة المسلمين الصينيين للشريعة، من قانون يحكم كل جوانب الحياة إلى تركيز ضيق على القانون الطقوسي الجمعي والممارسات الدينية الفرديّة. ففي ظل الضغوط الهادفة إلى استيعاب السكّان المسلمين، دفعت مفاهيم الشريعة إلى الاحتكاك بأفكار كونفوشيوسية/محدثة حول الطقوس والتراتب الاجتماعي والوئام والعدالة وتهيب الذات، وهو ما أدخل تغيراً في المعرفة والممارسة الإسلامية. ويصف لنا فرانكل أشكال الإسلام السياسي التي انخرط من خلالها المسلمون الصينيون، الجامعون في آنٍ بين هويات صينية ومسلمة، في التوافق والصراع مع الدولة الصينية. فقد انحازوا أحياناً إلى جماعاتهم غير المسلمة ضمن الصراع من أجل تغيير النظام الصيني من داخله. كما أعلنوا في أحياناً أخرى، على غرار الإيغور، عن معارضتهم الصريحة للهمينة الصينية، التي بقيت ترى فيهم خطراً إلى اليوم. ويرى فرانكل، أنّه رغم أن عقد الثمانينيات، أدّى إلى ضمانات دينية أكبر للمسلمين في ما يتعلق بالصلاة والحج، مع ذلك ظلت ممارسات الصوم الإسلامية معطّلة، لأن الدولة العلمانية لا تعتبرها جزءاً من الدين السوي.
رابعًا: جمعيات دعوية نسوية باكستانية:
في فصلٍ آخر من الكتاب، تستكشف لنا مريم زمان أستاذة في جامعة مدينة نيويورك، الجندرَ والشريعة في علاقتهما بحركة الهدى، وحركة جماعة التبليغ الدعويتين في باكستان. وعلى عكس التفرقة التي يقميها الدارسون عادةً بين حركات الإسلام السياسي وحركات الدعوة، فإن التصوّر الشعبي الشائع في المجتمع الباكستاني المعاصر يعتبر هذين الشكلين من الحركات الإسلاموية متطابقين أو متشابهين إلى حدٍ كبير. وتتمتّع حركة الهدى، التي أسستها امرأة تحترف مهنة حرة، وتحظى بتواصل قوي مع نساء الطبقات الوسطى والعليا، بطريقة يتجاوز حجمها المحدود. وهي تشجّع النساء على الاعتماد على معارفهن المستمدّة من دراسة النصوص المقدسة، بدلاً من أقوال العلماء المتأثرة في نظرهن بعالم السياسة. وفي المجمل، ترى هؤلاء النسوة أنّ الأفكار السائدة حول التميز الجندري، تقوم على تفسيرات خاطئة للمصادر النصية. أما جماعة التبليغ التي أسسها رجل في مطلع القرن العشرين، فهي تُعبِّر عن احترام أكبر لـ«العلماء» لكنّها تركّز على إرسال أشخاص عاديين في بعثات تدعو المسلمين إلى تصحيح ممارساتهم الدينية. فكلتا الحركتين تدعمان سلطة العلماء، من خلال التأكيد على أعمال التقوى غير المثيرة للجدل، بيد أنّها في الوقت ذاته تهدّد سلطتهم من خلال الإصرار على اعتبار النساء شريكات أساسيات في العمل النشيط الهادف إلى القيام بالدعوة، مما يسهِّل مشاركة النساء في بعثات السفر والمدارس الدينية. وتلاحظ زمان أن التأويلات الدينية والأيديولوجية الجندرية، رغم فصول الفصل بين الجنسين والتي نراها في احتفالاتهم، تسمح للنساء بلعب أدوارٍ مهمةٍ في المجال العام، من خلال إعادة النظر بالشريعة ونصوص الأجداد.
(المصدر: مركز نهوض للدراسات والنشر)