قراءة في كتاب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام
قراءة بلال التليدي
الكتاب: المسيح عيسى ابن مريم الحقيقة الكاملة
المؤلف: د. علي محمد محمد الصلابي
الطبعة الأولى: كانون أول (ديسمبر) 2019
عدد الصفحات: 496
الناشر: دار ابن كثير ـ بيروت
يكتسي هذا الكتاب أهمية كبيرة، وذلك من ثلاث زوايا على الأقل، الأولى لكون المؤلف يحتفظ بخلفيتين مهمتين تساعدان في تقديم رؤية واضحة عن هذا الموضوع، بحكم تخصصه في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم أولا، فالرجل أنجز دارسة للماجستير وأطروحة دكتوراه في هذا الفن، ثم بحكم تخصصه في التاريخ، فقد أنتج الصلابي العشرات من الكتب في هذا الحقل، بأسلوب اختار في الأغلب الأعم فيه منهج التحقيق.
أما الزاوية الثانية، فتتعلق بالموضوع نفسه، الذي يثير جدلا كبيرا بين الأديان الثلاثة، فضلا عن الجدل الذي يثيره داخل الدين الواحد، فقد اختار المؤلف، خروجا من هذا الجدل الذي لا يكاد ينتهي، إلى اعتماد القرآن مرجعا أساسيا في تقديم ما اسماه بالحقيقية الكاملة عن شخصية عيسى بن مريم عليه السلام، من خلال مختلف الآيات القرآنية التي تم ذكره فيها.
أما الزاوية الثالثة، فتكمن في الاضطراب الذي صاحب تأويل عدد من الآيات والأحاديث في معرفة حقيقة عيسى ابن مريم، والروايات الكثيرة التي نسجت حول هذه العودة، فاختار المؤلف أن يحقق في الموضوع، ويقدم رؤيا قرآنية بهذا الخصوص. على أن اعتماده على المرجعية القرآنية، لم تمنعه من اعتماد نص السنة النبوية الصحيحة، في تقريب صورة عيسى ابن مريم، والخروج بها من جدل الخلافات والتأويلات والثقل الذي أحدثته الروايات الإسرائيلية على العقل المسلم.
في السياق التاريخي لميلاد المسيح
قدم المؤلف توطئة تاريخية مهمة غطت السياق التاريخي لميلاد المسيح عليه السلام، وكشفت عن تقلبات السياسة في أرض الشام وتحديدا في فلسطين، وتقلب الحكم بين الدولة الفارسية واليونانية والرومانية، ودخول اليهود على الخط، وقد كان المؤلف من هذا العرض التاريخي المفصل أن يعطي صورة عن الحالة السياسية والاجتماعية في عصر المسيح، وكيف استبدت السلطة المطلقة للحكام، وضاع القانون، وتعمقت الفوارق الاجتماعية بين الطبقات، واكتفى رجال الدين بجمع الأموال لصالح روما مفرطين في وظيفتهم الدينية والاجتماعية، فاعتبر المؤلف أن التعاليم الإلهية التي جاء بها عيسى عليه السلام كانت مناسبة لهذه البيئة، وجاءت لعلاج مشكلاتها، وأن سيطرة المادية هو الذي أملى أن يتكثف النزوع السامي الرومي في تعاليم المسيح عليه السلام.
وبين المؤلف أن المسيحية تلونت بالأفكار والمعتقدات التي كانت سائدة في تلك الفترة، سواء من قبل التجريد اليوناني أو المادية الرومانية أو التأثير اليهودي الذي جاءت المسيحية في الأصل لإصلاح العطب والانحراف الخطير الذي اعترى اليهودية. وتعرض الكاتب إلى أهم فرق اليهودية التي كانت معروفة زمن المسيح عليه السلام، (السامريون والصدوقيون والفريسيون والقمرانيون والأسانيون) وأشار إلى أنهم كلهم باستثناء السامريين فرق ظهرت في الفترة الوسيطة بعد الأسر البابلي، وأن الهيكل الطي هو مقر العبادة عند اليهود تعرض للهدم من قبل البابليين ثم أعيد بناؤه في زمن الحكم الفارسي، وتم تجديده بنائه في عهد هيرودوس في عصر الميلاد.
في تفسير سبب اعتماد المرجعية القرآنية في الموضوع
يعتبر الصلابي أن القرآن الكريم هو أصدق كتاب موجود اليوم، وأن اعتماده للقرآن في بحث الحقيقة الكاملة عن المسيح ترجع إلى أن القرآن لم يتعرض للتحريف، وأنه جاء مصدقا لما قبله من الكتب السماوية ومهمينا عليها.
إلى جانب ذلك، يرى الصلابي أن كتب التاريخ لا تسعف في استخلاص المعلومات الأساسية الموثوق بها عن دعوة المسيح عليه السلام، وذلك بسبب بعد العد واضطراب الروايات التاريخية، وتعذر تمييز الصحيح من الدخيل فيها، وحتى الإنجيل الذي يعتبر الكتاب المنزل على المسيح، لا توجد النسخة الصحيحة فيه حتى داخل الأوساط النصرانية، وأنه لهذا السبب يعتبر اعتماد القرآن مرجعا الاختيار الأنسب، وأنه إلى جانب السنة الصحيحة يمثلان في نظر الصلابي المصدرين الوحيدين من الناحية العلمية والتاريخية اللذين يصوتان بدقة عالية تاريخ الرسالات الإلهية كلها منم أول الأنبياء آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام.
فالقرآن الكريم حسب المؤلف يحتفظ بمكانة علمية معتبرة حتى داخل الأوساط النصرانية، فيقرون رغم كفرهم به بدقة أخباره وخلوها مما اعترى كتبهم من التناقض والأخطاء والتغيير والتبديل والإضافة والحذف، وأنه لا يوجد كتاب على وجه الأرض منح المسيح عليه السلام وأمه البتول وعائلته الكريمة تكريما وتبجيلا أعظم مما فعله القرآن الكريم.
ويدلل الصلابي على ذلك بسورة آل عمران التي خصصت لعائلة المسيح عليه السلام، وهي ثاني أطول سورة في القرآن الكريم، ثم بسورة مريم وهي اسم السيدة مريم العذراء والدة المسيح عليه السلام، في حين لا يوجد في القرآن الكريم اسم عائلة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولا توجد أي سورة تحمل اسم بني هاشم أو بني عبد المطلب ولا توجد أي سورة تحمل اسم آمنة بنت وهب والدة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالقرآن في نظر المؤلف هو الوثيقة الوحيدة التاريخية الصادقة التي لا يعتريها اللبس والغموض والتحريف وتتمتع بمصداقية مطلقة في كل ما يتعلق بحياة المسيح ووالدته وعائلته وعقيدته ودعوته وأنصاره. بل إن حديث القرآن الكريم عن سيرة عيسى ابن مريم عليه السلام تعتبر في نظر المؤلف دليلا على إعجاز القرآن ويشهد أنه لا يمكن أن يكون القرآن صناعة بشرية بل هو كلام الخالق كما يشهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يكون قد تلقى هذه الحقائق من العهدين القديم والجديد، وذلك الاختلاف الكبير الذي جاء عن حقيقة المسيح في تلك المصادر، بل ثمة وقائع وردت في القرآن عن السيد المسيح لم ترد بالمطلق في العهدين القديم والجديد، وذلك مثل معجزة كلام المسيح عليه السلام وهو في المهد ونطقه بالعبودية الكاملة لله تعالى، وتنزيهه للخالق العظيم عن جميع صفات خلقه وعن كل وصف لا يليق بجلاله.
المسيح عيسى ابن مريم في القرآن الكريم
يقدم الصلابي في البدء معلومات إحصائية عن ورود اسم المسيح في القرآن الكرين، فقد اسم عيسى عليه السلام خمسا وعشرين مرة، ورد اسم أمه عليها السلام أربعا وثلاثين مرة، ثلاثا وعشرين مقرونة باسم عيسى ابن مريم، وإحدى عشر مرة مجردة عن عيسى عليه السلام.
وأشار المؤلف أن القرآن غطى حياة عيسى ابن مريم بالكامل، فذكر أسرته من ناحية أمه عن جده من أمه، وجدته من أمه، وبين عظمة هذه الأسرة وتحليها بالصلاح والتقوى والعبادة، وفصل في نشأة المسيح وميلاده، مبطلا ادعاءات النصارى من كونه ابن الله، فبنين القرآن أن عيسى عليه السلام له أم، وأم عيسى لها أم واب، ولهما أمهات وآباء إلى آدم عليه السلام وذكر الأحوال التي اعترت امرأة عمران بمريم البتول عند الحمل، وولادتها وتربيتها، وحالة التقوى والتنسك التي طبعت حياتها منذ كانت في بطن أمها، وكيف اصطفاها الله لأمر جليل خطير، إذ نذرت أمها وهي حامل بها أن تجعل الحمل الذي يتمخض في أحشائها محررا خالصا لوجه الله تعالى، منقطعا لعبادته وخدمة بيت المقدس، وكيف استمرت في الوفاء بذرها بعد الولادة وتوجهها بالدعاء إلى الله تعالى أن يحفظها وذريتها من الشيطان الرجيم، وكيف تقبلها ربها بقول حسن، وأنبتها نباتا حسنا، وكيف هيأ لها من يقوم بشأنها ويتم بصلاحها فكفلها زكرياء، وعاشت مريم البتول في شبابها عند زكرياء واقتبست منه العلم والمعرفة والعبادة والذكر والخلق، وكيف كانت مريم البتول سببا في دعاء زكرياء لربه بالذرية الصالحة لما رأى أفضال الله وكراماته على مريم، خاصة لما ذكرته أن الرزق يأتيها من الله، وكيف استجاب الله تعالى لدعاء زكرياء عليه السلام ورزقه يحيى على الرغم من أن امرأته كانت عاقرا. فجاءت ولادة المسيح المعجزة الكبرى عقب معجزة ولادة يحيى من أم عاقر.
(القرآن في نظر المؤلف هو الوثيقة الوحيدة التاريخية الصادقة التي لا يعتريها اللبس والغموض والتحريف وتتمتع بمصداقية مطلقة في كل ما يتعلق بحياة المسيح ووالدته وعائلته وعقيدته ودعوته وأنصاره)
ثم ذكر المؤلف ما ورد في القرآن من شأن اصطفاء مريم على نساء العالمين وانتقائها من بين المساء وتنشئتها نشأ’ حسنة وإنباتها نباتا حسنا، وبين المؤلف أن وصفها بالصديقة كان لكمال إخلاصها وانقيادها لله عزل وجل ظاهرا وباطنا، وتعبدها بطاعته في كل أوالها، ولتصديقها بآيات ربها وتصديقها ولدها فيما اخبر به وتصديقها بوعد الله تعالى وهو ميثاق الإيمان.
ويؤكد المؤلف أن كل ما ورد في القرآن من أخبا عيسى وأمه وعائلته هي من أنباء الغيب، وأن ذلك كان فيه دلالة واضحة على صدق نبوة النبي محمد صلى الله علسيه وسلم، ثم يذكر أن ما ورد في الإنجيل في شأن المسيح عيسى وأمه متضارب وتناقض، وأن شراح الأناجيل من شدة اضطراب ما ورد في المسيح، وقعوا في حيرة ووقعوا في أخطاء وتناقضات كثيرة وهم يشرحون الأناجيل.
المسيح البشر الرسول العبد لله
ويعرج المؤلف إلى النقطة الخلافية الشديدة بين المسلمين والمسيحيين، والتي تتعلق بطبيعة المسيح، ويستعرض آيات القرآن التي وردت في ولادة المسيح عليه السلام، ويفسر الألفاظ التي حاول البعض تأويلها بما يتوافق مع رواية النصارى في ولادة المسيح، ومنها على وجه خاص لفظة “كلمة منه” ولفظة “روح منه”، فبين الصلابي أن المقصود بلفظة “كلمة منه” هي كلة الله التي يخلق بها المخلوقات، وهي كن، وتفسير ذلك أن الله سبحانه وتعالى خلق عيسى بالأمر الإلهي الكوني المباشر، الذي يقول عنه في مواضع شتى من القرآن الكرين إنه (كن فيكون)، إذ ألقى الله هذه الكلمة إلى مريم، فخلق عيسى في بطنها من غير نطفة اب، كما هو المألوف في حياة البشر غير آدم عليه السلام، وأن لفظ “روح منه” ليست للتبعيض، لأن روح الله لا تتبعض ولا تتجزأ ولا تتقسم إلى ابعاض وجزئيات وأقسام، وأن المقصود منها أي من عند الله، وأن إضافة الروح إلى الله تعالى هي إضافة أعيان منفصلة عن الله، فهي إضافة مخلوق إلى خالقه، ومصنوع إلى صانعه، وهي تقتضي تشريفا يتميز بها المضاف عن غيره، يعني أنها روح خيرية مطيعة لله تعالى كمثل: “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجرين”.
وذكر الصلابي أن تفاصيل مولد عيسى عليه السلام وردت في سورة مريم، بدقة متناهية، وأوصاف محكمة للمكان والحالة النفسية التي مرت بها مريم عليها السلام، ابتداء من أخذها للمكان البعيد وجيء المخاض وآلامها عند الوضع وتمنيها الموت ومناداة ابنها لها من تحتها، وما صاحب ذلك من نفحات وبركات، وأن القرآن فصل حتى في أدلة براءة مريم عليه السلام من الاتهام الطي وجه إليها وذلك بذكر صومها وحديث المسيح في المهد ونطقها ببراءة أمه وكونه عبدا لله تعالى، واعتبر الصلابي أن ذكر القرآن لقصة المسيح بهذه الدقة المتناهية ورفعه الخلاف والتحريف والاضطراب الذي صاحب الروايات الواردة في العدين القديم والجديد عن ميلاد المسيح يعتبر معجزة ودليلا على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)