قراءة في كتاب (الحداثة والهولوكوست)
قراءة علي حليتيم
كثيرة هي الدراسات الغربية التي تناولت الحداثة بالنقد والمراجعة، لخطابها أو أدائها أو حتى بنيتها، لكنه نقد من الداخل بأدواتها فهو أقرب إلى التقويم والتصحيح منه إلى النقد الذي يرفض الحداثة كنهاية للتاريخ.
ولا يزال الغرب إلى اليوم يبكي ضحايا الهولوكوست ويقيم لهم آلاف النصب في المجتمع وفي الوجدان والقوانين ويقولون حتى لا تتكرر الإبادة أبداnever again!
في هذا الكتاب يصور لنا زيجمونت باومان Zygmunt Bauman الكاتب اليهودي ذو الأصل البولندي كيف انتقل، بعدما قرأ مذكرات زوجته التي مرت بمعسكرات الاعتقال النازية في وارسو، من التمثل الساذج للهولوكوست كحادث مروع ومخيف حلّ باليهود مثل غيره من الملاحم التي كتبها عليهم الرب والذي يكفي لوصفه المصطلحات التقليدية المألوفة عند اليهود كالكارثة Shoah، ويكفي لفهمه اعتباره صادرا عن مجموعة من القتلة والمجانين المتعطشين للدماء الحاقدين على اليهود، انتقل إلى اعتباره حدثا مركبا داخلا في سياقه الاجتماعي والحضاري الذي لابد أن تفك رموزه حتى يغدو مفهوما مستوعبا في سياقه وسباقه ولحاقه ومخرجاته.
لم يحاول الكاتب أن يقدم دراسة تاريخية جديدة عن الهولوكوست بل اعتمد على ذات الدراسات التاريخية الكثيرة جدا للهولوكوست (الذي غدا تخصصا جامعيا في الغرب خارج سياق التاريخ العام)، لكنه أدرك أن الهولوكوست نافذة من النوافذ الكبرى وليس مجرد صورة لجريمة معلقة على جدار، واستطاع بالنظر المعرفي، والسوسيولوجي خاصة، أن يتجاوز عبر تلك النافذة المستوى الأول من الأسباب التي تُقدَّم للجماهير على أنها الأسباب الأولى والنهائية للهولوكوست وتتلخص في كونه نزعة عرقية مرضية جنونية لهتلر والرايخ من خلفه ضد اليهود الذين يمثلون الخير المطلق فيما يمثل هو الشر المطلق!
وهكذا ينظر باومان إلى الهولوكوست على أنه تجل للحداثة الغربية ومنتج من منتجات المجتمع الذي وقع فيه وهو المجتمع الألماني الذي هو جزء من المجتمع الغربي الحديث.
إنَّ باومان يرفض كلّ الرفض فكرة أن الهولوكوست انحراف مؤقت عن الحداثة الغربية العقلانية والتقدم الحضاري الغربي الرشيد، ويرفض أنها تعبير نكوصي عن رغبات انفعالية بربرية لرجل غربي معتوه واحد بل هو نتيجة من نتائج الحداثة وتتوافق معها في عقلانيتها الغربية حيث كان الأوروبيون ينظرون إلى اليهود في ذلك الوقت وغيرهم من الضحايا (في حقيقة الأمر وإذا صح رقم ستة ملايين من الضحايا اليهود فإنهم جزء من مجموع 20 مليون ضحية)، كانوا يمثلون النشاز عن النظام الحداثي الغربي الذي يقدس العلم والقانون والنظام ويريد أن يبني العالم على ثالوث مقدس يتمثل في الدولة والأرض والقومية واليهود كانوا خارج هذا الثالوث.
لقد كانت ألمانيا في ذلك الوقت تمثل ذروة ما وصلت إليه الحداثة الغربية التي انفصلت في نموذجها العلمي عن القيم value-free ولذلك فان المؤسسات العلمية الألمانية سارعت إلى التعامل بكل سهولة مع النظام النازي في مشروعه الإبادي كما هو معلوم.
الخطأ الوحيد القاتل غير المغتفر الذي وقع فيه هتلر هو التفاته في مشروعه التطهيري إلى الداخل الأوروبي بدل ممارسة التطهير خارج الدائرة الغربية كما فعل غيره من الغربيين في أمريكا وأستراليا والجزائر وإفريقيا والبلقان وفيتنام واليابان التي نالت قنبلتين نوويتين رغم تأكد الحلفاء من هزيمتها في ذلك الوقت.
إن الحداثة الغربية لا يمكن أن تفصل عن ممارساتها القذرة التي يراها المغفلون نشازا وانحرافا سلوكيا عن المفهوم بل إن الاستعمار والإمبريالية والتطهير العرقي والإبادة مكونات أساسية في البنية الحداثية الغربية وقد عبر عن ذلك باومان باستعارة بديعة حين قال إن الغرب يمارس الإبادة تماما مثلما يرش المزارع المبيدات ويقتلع النباتات الضارة من بستانه الجميل.
لقد أدرك الفيلسوف المسلم عبد الوهاب المسيري -رحمة الله عليه- في مقدمة موسوعته عن الصهيونية أهمية هذا الكتاب وأشاد به، ولابد للمسلم كي يعمق رؤاه للعالم أن يقبل على مثل هذه الكتب الأساسية التي تفتح له نافذة للنظر البعيد بدل أن يكتفي بصورة على جدار.
(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)