مقالاتمقالات مختارة

قراءة في الحداثة وتداعياتها.. بين الأصولية والانفتاح المهيمن

قراءة في الحداثة وتداعياتها.. بين الأصولية والانفتاح المهيمن

بقلم أحمد محمود القاضي

لقد أصبح الحرام والمباح «دَقَّة قديمة»، وأضحت موضة القيم باطلة، وأمست اللذة مذهبًا أخلاقيًا لا يُعاب، حتى استفشَت من الترف أطياف وليدة لم تكن قبل ذلك لتطرأ على بال، فباتت غير آهلة لأن تُنتقَد ولا تُجتنبَ تجريبًا ولا قبولًا.

وبين الانجراف نحو الانفتاح، والاستمساك بعروة القيم، تجد نفسك تنحاز الى المحافظة كاتجاه تصون به ما لا يجب أن يموت، ولأنك لا تستطيع أن تأخذ عنهم بعضًا وتترك بعضًا؛ فإما أن تشبههم، وإما أن تتمسك بالتراث والرجعية حتى النهاية، لئلا تتعرض إلى العقاب بذهاب قوميتك، واندثار حضارتك، وغياب قيَمك، ثم إنك ستظل محتارًا بين الانحراف بمسمياته الحديثة، والرجعية التي أطلقوها على كل ما يخالفه، فالأول يدْعونه حداثة، والآخر يَدَّعونه على المحافظة.

الأصولية والمعاصرة

أرض بلا دين هي أرض بلا قيم، تحكمها الأهواء، معبودها الشيطان، وربها إنسان الغاب البوهيمي، ودستورها كأنما هو قانون الإباحية والإجرام الذي تغيب عنه كل رقابة.. والدنيا مَعْمَعَةٌ بين أحزاب: حزب الإيمان، وحزب الإنكار؛ حزب العفة، وحزب اللذة؛ حزب الرب، وحزب الشيطان: أما الذي هجر الأحزاب الأُوَل، فإنه لا يجد نفسه إلا في دُرُوبِ الأخيرات، وأما الذي سئمها، فلن يجد مفرًا لمَّا إلى الأُوْلات، ومن ثَمَّ توَلَّدَت مفردات ومصطلحات مُحْدَثَة كــ (الحداثة) و(التحضر)، ثم (الرجعية) و(التخلف) اللذَيْن ينسب إليهما كل من تمسَّك بمبدأ، وتعصى على الحداثة العولَميَّة أن تُزَحْزِحَهُ عنه، وأن تجرفه صَوْبَها؛ فاعتبروه يتأخر ويتراجع عن حِراك البشرية وتطورها نحو اللا قيم، واللا مبدأ، واللا إله، واللا بعث.. التي أصبحت أهم معالم تلك الحداثة والتحضر المزعوم، وعاد التحدث عن الأديان واعتناقها من علامات التخلف والسُبات الفكري والحضاري.

وفي الواقع إننا نحيا عواقب الحداثة ونِتاجها، وإننا لنُعايش عصر ما بعد الحداثة؛ فالحداثة قد حدثت وتمت بالفعل في ألفية التنوير ومذاهب الإنسانية واللذة والتحرر الأوائل، فتُلفِي أن الذي كان قد بدأ بدعوة هو الآن واقع يُعاش في حاراتنا ودهاليزنا، ويغزو أبواب بيوتنا ونطاق مجتمعاتنا عبر كل وسيلة وأية وسيلة، وباتت صور وآليات السيطرة جمة، حتى بدأت أعتقد أنهم قد يصلون إلى أحلامك بل إلى ما وراء ردائك.

«الملاك الكبير» يحكم

أما الشيطانية فقد تجلت في كل الأمم السوابق، حتى ظهر إبليس لسادة قريش ناصحًا أمينًا، فأشار عليهم وقاتل معهم، ومجدوا قوله فيهم وهو أبو مرة، وظهر من قبل ذلك لأجدادهم -عرب الجزيرة- واعظًا فعلمهم كيف يعبدوا صنمًا، وظهر لسادة سدوم -غلامًا أيَّ غلام- فدعاهم إليه، فعلمهم كيف يطأون ذكرًا ويتلذذون بالشذوذ، وظهر لبني إسرائيل في صورة السامري فأغواهم وعلمهم الشرك وعبادة العجل، وهو صاحب كل جريمة أولى على وجه البسيطة، ثم إنه يتبرأ ويستغني، فلا يُصاحَبُ ولا يُحامُّ، وهو لا يُناصِر ولا ينصر نفسه.

ومع ذلك، اعترِفْ أن بداخلك شيطان، وأنك تميل إلى جانبه، وأنها تستميلك أوامره -أو دعنا نقول: مقترحاته- واعترف أنك تحب هذا الشيطان وتجد راحتك معه، وأنه دائمًا خلاق ومبدع: يعرف كيف ينعشك ويُنشِيك، وإن كانت كل لذَّاته ونشواته التي يدعو البشرَ إليها هي من جنسهم؛ أي أنها لذات جسدية تزول كما يزول الجسد كله ويفنى؛ مؤقتة كما أن بقاء الإنسان في هذا الحلم هو أيضًا مؤقت.. فاعترف إذًا بأنه كذلك، ولكن ثوابتك وأيديولوجياتكَ المجتمعية والدينية المتمثلة في القيم والأخلاقيات والمبادئ العرفية لا تتصالح مع ذلك أحيانًا أو أغلب الأحايين.

وإنما حديثي عن ثقافة الفلسفات ومذهب الشعوب: القيم، والأخلاق، والمبادئ، والأعراف، والعادات، والتقاليد المجتمعية التي هي أساس القومية الحضارية؛ وتلك الدينية التي هي أساس القومية الروحية المعتقدية، والتي عادت التكنولوجيا والتقنية آلة الترويج الأمثل لها، ووسيلة الإمبريالية السلمية لبسط نفوذها الاستعماري في صورته الأخفى تحت تكنيك الكولونيالية الفكرية الثقافية، وإن تلك الرمزيات هي التي تحفظ حضارة وتَمِيزُها، أو تُغَيِّبُها وتذهب بها إلى التبعية والانهيار؛ وليس عن ثقافة العلوم والأبحاث أتحدث.

وإنكاري على التعددية ليس في صورها الفكرية ولا الدينية، وإنما هو إنكار لصورتها الأخلاقية؛ أي أن الاختلاف قد يكون في كل شيء إلا القيم الإنسانية والأخلاق والآداب، وذلك بأن الأخلاق ليست عِضين؛ أي أنها لا تتجزأ، وليست -كما ذهب أصحاب اللذة- نسبية قائمة على المنفعة؛ وإنما هي في الأساس خلافُ ما ينتفع به الجسد وتدعو إليه اللذة، وإلا ما كانت لتسمو بالروح عن المادية، وتنأى بالعقل تُغذيه، ليحكم شهوة الجسد؛ فيسمو بها مرة أخرى عن بهيمية الشهوة، وحيوانية إفراغها كالثُمالىٰ مخموري العقول وفاقدي القيم.

ولقد عاب عليهم كانط -الفيلسوف الألماني- ذلك الذي ذهبوا؛ فذهب إلى أن الأخلاق هي ما يسمو بالعقل ويشبع منفعة روحية أولًا -لا جسدية- عند الإنسان؛ وأما المنفعة الجسدية فهي تتحدد في سياق ما حكمت به تلك الأخلاق النافذة، وهو بذلك قد اقترب من فلسفة الإغريق السقراطية والأفلاطونية والأرسطية حول الفضيلة والكمال.

وعلَّ القرآن عَرَضَ لمذهب اللذة والماديَّةِ الحسِّيَّةِ بلفظة (الهوى) ناقدًا شائنًا في قوله تعالى: (أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [سورة الجاثية 23] فمتبعٌ لذائذَ الجسدِ والمُتَعَ الظاهرةَ هو كالشريد الأعمى لا يعي أحقيَّةَ حقٍّ ولا يدرك بُطْلَ باطلٍ.

ويقول العَلِيُّ جل ثناؤه: (وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ۝  فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِیَ ٱلۡمَأۡوَىٰ) [سورة النازعات 40 – 41] فذلك إنما هو المغزى من حياة الحيِّ: يصارع الفاني للأبقى، ويقاوم المادَّةَ في سبيل المعنى، ويترفَّعُ عن الدُنُوِّ إلى الأسمى، وأما التابعُ الهوى فقد فقد الآدمية، واغتنى عن الأفضلية حتى تساوى والحيوانَ، لا يميزُ له عقلٌ، ولا يمتاز له كُنْهٌ ولا جوهر.

الفرق بين القبول الانفتاحي والهيمنة اللاغية للآخر

فمثلًا، إذا كان الله عندي حقيقة؛ فلن أقبل منكريه إذا ما اشتبكنا، وإذا كان العري عندي بهيمية لا حرية؛ فلن أتسامح مع نسبية الأخلاق ولا حرية “مولد سيدي العريان” إذا ما اشتبكنا، وإذا كانت للعفة هيئة عندي ومنوال؛ فلن أرحم من يشوهه أو يحاولْ بالدعوة إلى الاستثارة، واستمالة الغرائز، والإباحية -التي عدُّوها طبيعة واقعية- إذا ما اشتبكنا أيضًا.

(والاشتباك الذي أرمي إليه هو اشتباك فكري لا عضلي وبسط نفوذ ثقافي لا عسكري)؛ أما كونك تخلو إلى معتقدك هذا بينك وبين نفسك، فلا شأن لي: كن ملحدًا، كن زانيًا، كن مثليًا، أو كن ما تشاء؛ إلا أن تروج، فإني لن أقبلك لسبب أوحد، هو أنك لم تقبلني إذَّاك؛ فاعتراضك على مبادئي -واسِمًا إياها رجعيةً وتخلفًا- ومحاولتك إقناعي ترويجًا لما تذهبه من مذهب -مقررًا أنه هو الحداثة والتحرر- ليس إلا تعديًا على حرياتي واعتداء على أيديولوجياتي ومن ثمَّ استوجبني الدفاع، وبلفظ آخر (كن لصًا ما دمت لا تسرقني أنا).

فالحرية مسئولية، والمنطق اقتضى أنك حر ما لم تضر، أما أن تضر بالآخر وتفرض عليه حريتك المُدَّعاة؛ فأي حرية زائفة تلك؟ التحرر من المعتقد ومن الأخلاق والقيم، إنما هو تمامًا كالتحرر من فراء «الحمراء» لدى القرود، وكشفٌ للعورة، وهتكٌ لستر العقل، ومسخ للروح، أو شنق لها على الأرجح؛ أما أنتم فقد دعوتم بالفعل إلى التعري، وكنتم صريحين لم تنكروا، وأما أنا فأعتز بلباسي لأنه باهظ نفيس، وكذلك عزيزٌ على عقلي لباسُه أن يُهتك.

لقد تُذَكرونني بالكلبة في موسم التزاوج حينما تنبطح وترفع ذيلها لكل منتهك وفاعل، فقد هتَكَتْكم حرياتُكم وقد اعتلت عورات عقولكم الحداثةُ، حتى صارت تلك العقول بين أفخَاذِكم، واستعمرت الأخيرة رؤوسكم في موسم «الخلاعة».

المجلس الأعلى (للأرض)

تقول الأسطورة أن إبليس كان يظهر لآدم جهارًا ولأبنائه في بداية الخلق، وأنه لما أن مات آدم استفحل إبليس في غواية أبنائه، ونشر أعوانه هنا وهناك، حتى جاء مهلاييل -الحفيد الرابع لآدم- وجمع البشر آنذاك، وأنه أول من أسس مُدنًا -هي بابل وسوس- وأول من جاش جيشًا، وقد كانت الجن تتقاسم الأرض مع البشر ويتصارعون على حكم الأرض -كما تحكي قَصص سيد الخواتم وصراع العروش الأخيرة- فلما كان ذلك حاولت جيوش إبليس أن تغزو هذه المدن لتسيطر عليها بمعاونة الغيلان والمردة من الجن، فتحاربا وانتصر مهلاييل، وقُتل الكثير من المردة، وتم القضاء على جنس الغيلان، حتى فر إبليس ومن معه من الجن الشارد إلى المناطق النائية والجبال والصحاري.

ومنذئذ حكم الإنسان الأرض واستولى على الخلافة فيها، ليصبح الظاهر الأوحد والمسيطر عليها؛ ومنذ ذلك الحين فإن إبليس يسعى جاهدًا إلى استقطاب الإنسان عبر التزيين والإغواء، واللعب على نقاط ضعفه متمثلة في الشهوة من كل جنس، لكي يرغمه على خيانة هذه الخلافة -مثل الجارية الخائنة في قصر الملك- لاستعادتها والسيطرة على الأرض، وبالفعل قد جند الكثير والكثير من البشر -مخموري العقول- الذين يعملون في خدمة (الملاك الكبير) ليَضروا بالبشرية جمعاء، وما هم إلا جنود يستخدمهم ثم يصفيهم ويغدر بهم ويضَّاحَكُ عليهم في الدنيا قبل الآخرة، كما هو وعيد إبليس في القرآن الكريم: «وقال لأتخذنَّ من عِبادكَ نصيبًا مفروضًا».

ألا والحقَّ أقول لكم، إن التحذير من إبليس وألاعيبه لا يستقر على وساوسه ودسائس صغار أحفاده، وإنما ذلك كله (لِعب عيال) بل إن لهذه الأرض مجلس من الـحَكَمٌ الأخفياء كالذي يُبَثُّ إلى عقولنا في رواياتهم الدرامية، والمواد الخيالية التي يطلع عليها أطفالنا، وإن لإبليس كيان أشبه بدولة، وجيش وتخطيط، هو أشبه ما يكون بالحكومة والبرلمان، وأعوان وجنود من الإنس قبل الجن يسهرون ويعدون ويخططون لكل كارثة ولكل دمار، يصطنعون الأوبئة ويبثون الخراب، ويدسون الإلحاد ويفرشون للفواحش بساط الريح انطلاقًا من منابع الحضارات والثقافات المهيمنة، حتى تعم فتسحق أمامها القيم.

بما أن الإلحاد والليبرالية الجان-لوكية أصبحا أساس المعتقد، وأصل التقدم والحداثة، وعاد الإنسان إله ذاته، بل إن إلهه ذاتُه وهواه: هو من يقرر القيم، وهو من يصنع المعبود، والعجيب في الأمر أن هذا الإبليس الذي دعاهم إلى إنكار وجود الرب، هو نفسه يؤمن به ويعلم أنه موجود؛ لكم تم التلاعب بك أيها الإنسان المسكين كدمية لا قيمة لها! يقول الله عن الشيطان: «رَئِيس هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» ـــ إنجيل يوحنا الإصحاح الخامس عشر.

وإن يكن الاصطلاح راقني فإن ذلك ليأتي مصداقًا لقوله تعالى المفصَّل: (قَالَ أَرَءَیۡتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِی كَرَّمۡتَ عَلَیَّ لَىِٕنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّیَّتَهُۥۤ إِلَّا قَلِیلࣰا ۝  قَالَ ٱذۡهَبۡ فَمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاۤؤُكُمۡ جَزَاۤءࣰ مَّوۡفُورࣰا ۝  وَٱسۡتَفۡزِزۡ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتَ مِنۡهُم بِصَوۡتِكَ وَأَجۡلِبۡ عَلَیۡهِم بِخَیۡلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِ وَعِدۡهُمۡۚ وَمَا یَعِدُهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ إِلَّا غُرُورًا ۝  إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنࣱۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِیلࣰا) [سورة الإسراء 62 – 65] وذلك في معنى التزعُّمِ والقيادة والسيطرة والتملك، والحرب بكل السبل والوسائل حتى الأعوانِ والأجنادِ، وأنَّ الدنيا يحكمها الشر ويكتنفها، ويعمها الظلم والفساد؛ لأنها دار الباطل، ولا يدير الباطل أو يرؤسه إلا شيطانًا، وأما السلوان فأنَّ سلطته وسلطانه على من سلَّم إليه واستسلم واتبع غَيَّه دون عباد الله المخلَصين.

وفي ذلك تفصيل في قول المولى تبارك في علاه: (وَقَالَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ لَمَّا قُضِیَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِیَ عَلَیۡكُم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّاۤ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِیۖ فَلَا تَلُومُونِی وَلُومُوۤا۟ أَنفُسَكُمۖ مَّاۤ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَاۤ أَنتُم بِمُصۡرِخِیَّ إِنِّی كَفَرۡتُ بِمَاۤ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ) [سورة إبراهيم 22].

ولا يَعِدُ فيُصَدَّقُ إلا ذو سلطان على الموعود السامع منه، المُسلِمِ لوَعدِه، ولا هو يدعو إلا أن يملك الوسيلة، وتحصل له سبيل الغواية، فيتسلَّطُ عن بأس وغلبة؛ فيُتَّبَعَ ويُستَجابَ -وذاك الاحتناك– وإنما تتحقق الوسيلة بميل النفوس واتباع هواها (ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلًا عظيمًا) فكأنما أهل الباطل شاءوا العالمَ باطلًا عن بكرة أبيه فلا يشذُّون هم عن أخياره، بل يشذُّ الآخِرون بداعي التخلف وخِلاف التحضر والحداثة، ثم تتوطد الوسيلة بكثرة محبي الباطل والداعين إليه إرضاءً للهوى وجمعًا لحزبِ الأشباه، وأولئك هم شياطين الإنس أعوانه ومناصروه، وبهم تتحقق غلبته على أهل الحق وغوايته لضعاف النفوس من البشر الباقين، وإن كانوا ليحكمون العالم ويتقلدون الكراسيَّ ويتملكون المال والأعمال وكبرى التجارات كالأعلام، ويقودون بكلمةٍ دولًا وأقاليمَ وقارات.

لماذا؟ وأين الله؟

من هذا المنطلق يقول الله تعالى: «وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا» فالله أدرى بكل شيء وما يخفى عليه من شيء في الأرض ولا في السماء، أما هذا فهو حقيقة الاختبار، وهذا هو الغرض من الاختيار: اختيار الإنسان خليفة في الأرض، واختيار المؤمن خليفة في الجنة، أما البعض المقصود هنا فشامل؛ فالبعض هم الخلق إنسًا وجنَّا: الشيطان بملذاته فتنة للإنسان، وفتنة لبني جنسه أيضًا من الجن، وكذلك المنحرفون من البشر يستميلون الناس لِما لم ينجحوا هم في الانتصار عليه فغلبهم، فيصبحون فتنة بدعواهم وأعمالهم، لكأنما هو: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً»، ولا أغفل قول ربي كذلك: «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا»؛ فيظلون يُرَغِّبون ويُغرون ويَغْوون حتى يضعف المحافظ، وينساق صاحب القيم، وينفر صاحب الإيمان مستغلين في الإنسان نقاط ضعفه الفطرية التي جُبل عليها، من شهوات ومن بحث عن الملذات، ومن سعي نحو الأفضل والكمال والسعادة الحياتية التي لا تجد لها تعريفًا ولا قوامًا فيما يُعرف بالـ دنيا.

ولقد كنت في الواقع أقاوم هذا كله وأقول برفضه -ولم أزل- ولكن الواقع هو أنني أحب ذلك، وأرغبه، وأُستَمال إليه بلا هوادة أحيانًا: إما أنها الفطرةُ فاسدةٌ، وإما هي الفطرة السليمة التي هي بسَجِيَّتها فاسدة، والتي لا بد من مقاومتها، فالإنسان بطبعه يرغب الخطيئة، وتستدرجه اللذة؛ فإما أن تحكمه كالحيوان أو يحكمها بعقله الذي يرضخ للقيم الساميات، كما أنِفَت الإشارة إلى ذلك.

وقِس على ذلك كل ما قامت الحضارات الطاغية بدسه تحت مسميات زائفة طمست معنى الحقيقة وأغرقت المفاهيم في سيل التشويه وفيض الباطل، كمثل أسطورة الكذب والحقيقة؛ فنحن نعايش أبدًا أشباه الحقائق، وهي الزيف مرتديًا زي الحقيقة، والباطل مرتديًا زي الصواب، ولا عجب لئن يكن الشيطان يكتسي لباس النُصحِ ويتحدث بلسان الواعظ التقي «وَقَاسَمَهُمَاۤ إِنِّی لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّـٰصِحِینَ» [سورة الأعراف 21]، ويزيِّنُ الباطل حتى تُرى سبيلُه الحقَّ.

”تقول أسطورة القرن التاسع عشر أن الحقيقة والكذب التقيا يومًا، فقال الكذب للحقيقة: (إنه ليوم جميل حقًا).. نظرت الحقيقة حولها في ريبة، ثم رفعت عينيها للسماء لترى أن اليوم بالفعل كان يومًا جميلًا؛ فقضت وقتًا طويلًا بصحبة الكذب في ذاك اليوم، ثم جاء قال لها: (الماء في البئر رائع، فلنستحم سويًا).. نظرت الحقيقة للكذب في ريبة للمرة الثانية، ولمست الماء لتجده بالفعل رائعا؛ فخلع الاثنان ثوبيهما، ونزلا للاستحمام في البئر، وفجأة خرج الكذب من البئر مرتديًا ثوب الحقيقة وركض بعيدًا؛ فخرجت الحقيقة الغاضبة من البئر، وركضت وراءه في كل الأماكن بحثًا عن ثوبها، ولما نظر البشر إلى تعري الحقيقة أشاحوا بوجوههم في غضب واستهجان، أما الحقيقة المسكينة فعادت إلى البئر، واختفت للأبد من فرط خجلها، ومنذ ذلك الحين يسافر الكذب حول العالم مرتديًا ثوب الحقيقة، فيلبي أغراض المجتمع، بينما يرفض الناس أن يروا الحقيقة عارية.“

اختبار المارشميللو

الشيخ، والراهب، والكاهن، والعالم.. كلهم ضعاف، بشر لا يقوى على فتنة الشهوة والتحرر من قيود الأخلاقية والعبادة، يأبى في قرارة نفسه إلا الاستمتاع والتلذذ، ولكن الذي يحكمهم عقولهم، والذي يَسْمون به عن حيوانيَّتِهم الغرائزية هو ما اعتقدوا من قيم، وذهبوا إليه من مبادئ، واتخذوا من أخلاقيات غير قابلة للتخلي عنها، وقال تعالى في سورة فاطر في القرآن العظيم «إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ لَكُمۡ عَدُوّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا یَدۡعُوا۟ حِزۡبَهُۥ لِیَكُونُوا۟ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلسَّعِیرِ».

ولقد قرأت ذات يوم كتابا لعالم النفس الأعجمي «والتر ميشيل» -عنْوَنَه بـ اختبار المارشميللو- ذكر فيه تجربة سيكولوجية طبقها على شريحة عريضة من الأطفال متتبعًا نتاجها على مر سنوات حيواتهم اللاحقة، وقد انتهى من هذا الكتاب في آخر عقده الثامن من العمر: الاختبار عبارة عن تخيير الطفل بين أن ينال قطعة واحدة من حلوى المارشميللو في الحال، أو أن يمكث أمامها ناظرًا لاهثًا لا يمد إليها يدا مدةً من الزمن، ثم يأخذ مكافأة على صبره قطعتين بدلا من واحدة، فكان كثيرًا من الأطفال يضعف، بينما كان آخرون يواجهون الضغط النفسي العنيف، واشتداد الرغبة وما تنتجه من ألم نفسي يزداد مع الوقت، كمثل جلوسك إلى طاولة الطعام قبيل دقائق من أذان المغرب في رمضان وهي تمضي كأنها ساعات طوال.

وكأن والتر ميشيل قد لخص لنا حال الدنيا، وماهية الاختبار الإلهي بمثل هذا الاختبار، الذي صنفه اختبارًا لضبط النفس؛ وذاك بأن الملذات أخاذةٌ وزاهية، ولكن منفعتها زائلة، بينما الصبر عنها بمرور الوقت يأتي بلذة أكبر تدوم طويلًا.

اتجاه الأصالة بين الرجعية وصَوْن الهوية القومية

وإنك تجد نفسك محمولًا على التقهقر إلى الوراء خطوات ثم خطوات ثم خطوات، في خضم هذا التحضر -بل التحدر إن أصاب قولي- الجارف الخبيث المتسارع الفظ، لتلحق بركب رجعيتك وتتشبث بأصول تراثك وحضارتك، قد تنقُد العيبَ لكن لو تجد له بديلًا في نفسك لا في ثقافات غيرك.. فتجدده، وإنما أنت تجدده لمصلحتك وآلِك لا كيما يتماشى مع متطلبات أولئك ورُؤاهم ومذاهبهم المحدثة، ومقتضيات العصر الوليد، وإنك لكيما تنتقد وتفند وتختار ما تأخذ وما تترك، فلا بد أن يكون لك أساس أولًا، أما أن تدخل بلا أساس فأنت فريسة لتلك الأفكار، يمكنك أن تجدد وأن تفكر ولكن على أساس وقوام متأصل وعن عقيدة راسخة، أما الرفض والقبول في الأساسات فكأنما هو نفض أعمدة بنايتها حجرًا حجرًا.

إذن تجد نفسك أمام مفترق من اتجاهين، إما أن تحتفظ بالأصول وتدافع عنها قاطبة بجميع ما تحوي، وأن تقف أنت حائطًا صلدًا أمام من يتهمها بالجمود والتخلف والرجعية؛ حتى تحفظ لها هيبة تجعل منها لك أساسًا ومرجعًا، فإن أصلحت فيه ومنه فهو إليك رد -أي مردود نفعه إليك- ولكنك إن أصلحته ليتماشى مع ما يريدونه وأن تتقارب وجهات النظر، وكيما تريهم أننا غير مختلفين عنهم وأننا غير متخلفين، فإن ذلك عليك رد، فكما أنه في الدين بُطلٌ للعقيدة، فهو في خطب الثقافات والقوميات والقيم والأخلاق والآداب والمبادئ والأعراف كذلك إمرًا، ولا نقبل التحريف، ولا التزييف، ولا تدنيس هذه الموروثات التي تمثل كينونةً إن هُنَّ تزلْزلْنَ سقطت.

واتجاه الأصالة هو المحافظة الذي يصون الأساسات، ويحمي المعتقدات، ويحصن الحضارات والثقافات، ومثل ذلك مثل مقولة العرب «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»؛ فأما أمام الشامتين والعِداء فإنك لا تُخَطِّئه، وأما بينك وبينه فإنك تنقده وتُصلحه: أما انتماؤك فهو لا يتزعزع مهما كثرت الأخطاء، ومهما يكن، ولا يمكنك نخره ولا التلاعب في أصوله وأساساته الثابتة، إلا أنه يمكنك تركه إلى انتماء جديد تذهب إليه؛ عدا أنه لا ينبغي لك أن تظل منقسما بين هذا وذاك، تستقبل من هنالك فتضيف هنا، وتحتفظ بما هنا فتنتقد به ما هنالك، لتحقق التكامل أو تصنع الكمال؛ فهذا يستحيل، لأن الحضارة الفاضلة هي من خيال أفلاطون والفارابي فقط.

داهية الانفتاح

إن الانفتاح لهو العولمة في صورتها الثقافية وهيمنتها على ضعاف القوميات، حتى أن المجدد والمفكر المنفتح قد لا يجيد الفلترة عند الاستقبال، فتنهمر عليه المفاهيم وينجرف في سيل التأثر واعيًا أو متطبعًا بلا وعى، وينتهي إلى أنه لا يملك حائطًا صلدًا (هو قوميته) ليدفع عنه مثل هذه الهيمنة العولمية التي لا يسلم منها كل مطلع عليها ولو استتب سعيه على أن ينقي منها ما ينفه ويذر ما يضره؛ فإن تلاعبه في قوميته ومحاولاته المستميتة هدمَ بعض أعمدة أساسها بدعوى التجديد، إنما جعل منه عقلًا خصبًا وأهلًا للانقياد، ولتبدد القيم، والانسلاخ من قوميةٍ -تهدَّمَ في منهاجه أساسُها- إلى أخرى مشوهة جمعت الشيء بنقيضه.

وإني الذي أؤمن بأن الحقيقة ليست مطلقة، وأن كل أحد صوابه مطلق بحسب ثوابته، فدعوني أستثني وأوضح -بما أن لكل قاعدة شواذ- أن بعض الآراء ثَم لا يمكن أن نقبلها حقائقَ، ولا أن نُقِرَّ لها بصواب مهما يكن من دليل -وإن هي ظلت لدى أصحابها كذلك- لأنها تخالف مذاهبنا، وإلا لصرنا بلا هُوية، ننسلخ عن أصلنا لنتبع أي أحد وكل أحد؛ ولكن هذا لا يمنعنا من السماحة مع أصحابها والتعايش معهم ما لم يخلُّوا هم بذلك، وهذا هو الفارق الذي أريد أن أحدد بين القبول للآخر، والانفتاح عليه بإقرار نظرياته المناهضةَ ما لنا.

لا بد أن ترفض كل معنى مخالفٍ يُصدَّر إليك تحت وطأة الـ «أوبن مايند» لأن المبادئ لا تُجزَّأ .. والقومية لا تجدد.. الحضارة تاريخ عتيق لا يمكن أن يُعاد تأسيسه من جديد، ولكنه يؤخذ بكل ما له وما عليه، ولأنك كيما تحارب فكرة، عليك أولًا بأساس ومرجع صلب تستند إليه وتعتمد عليه.. عليك أن تبرر وتدافع حتى عن العيوب وتقبله بما هو عليه أولًا، ثم تضيف إليه منه؛ أي ترده إلى ذاته بأن تصلح العيوب، وتبرز المناقضات دون الاستعانة بغيره أو بما يعارضه؛ فاطلاعك القَنَاعِي على القوميات المهيمنة، وانفتاحك على ثقافاتها سيجعل ذاك التجديد المزعوم مسخًا لا قيمة له، وسيجعل منك أنت أيضًا مسخًا لا انتماء له، وخير لي أن أنتمي إلى باطل بإيمان على أن أصطنع حقًا مذبذبًا قد لا يربطني به يقين ولا إيمان حتى أصير بلا هوية: مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

قوميتك هي هويتك..
حضارتك هي أساسك..
وأيديولوجياتها خطوط حمراء!

ولما أردت اختتامًا؛ فإن أكثر ما وجدته يلمسني، ويلخص مقالتي، ويعبر عن شعوري هو المزمور التاسع عشر بعد المئة من مزامير داود التي جمعها عزيرٌ النبي، إذ يقول: «أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي، لأَنَّ أَعْدَائِي نَسُوا كَلاَمَكَ. كَلِمَتُكَ مُمَحَّصَةٌ، وَعَبْدُكَ أَحَبَّهَا. صَغِيرٌ أَنَا وَحَقِيرٌ، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَنْسَهَا، عَدْلُكَ عَدْلٌ إِلَى الدَّهْرِ، وَشَرِيعَتُكَ حَقٌّ» ثم وجدت رثائي وسلواني في قوله تعالى «وَلَا تَحزنۡ عَلَيهِم وَلَا تَكُن فِی ضَيق مِّمَّا یَمكُرُونَ» اللهم فأدعوك بما دعاك به داود فأقول: بكل قلبي طلبتك.. لا تضلني عن وصاياك، وبما دعاك به حبيبي فأقول: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.

المصادر

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى