قبسات من سير أولي العزم من الرسل (5) – ملة إبراهيم -عليه السلام-
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
كانت قريش تقول: أنّها من ذرية إبراهيم – وهذا حق-، وإنها على ملّة إبراهيم – وهذا ما ليس بحق-، فقد أعلن إبراهيم كلمة التوحيد قوية واضحة، لا لبس فيها ولا غموض، ومن أجلها هجر أباه وقومه بعد ما تعرّض للقتل والتحريق، وعليها قامت شريعته وبها أوصى ذريته، فلم يكن للشرك فيها ظلٌّ ولا خيط رفيع، وفي هذا الشوط من السورة، يردهم إلى هذه الحقيقة التاريخية، ليعرضوا عليها دعواهم التي يدعون، ثم يحكي اعتراضهم على رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقولهم كما جاء في سورة الزخرف. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/3184).
إنَّ دعوة التوحيد التي يتنكّر لها القرشيّون، هي دعوة أبيهم إبراهيم – عليه السّلام – وهي الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفاً بها عقيدتهم الباطلة، غير مُساق إلى عبادتهم الموروثة، ولا متمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها، بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منها في لفظ واضح صريح يحكيه القرآن الكريم بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)}.
وإنه يبدو من حديث إبراهيم – عليه السّلام – وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلاً، إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه، فتبرأ من كل ما يعبدون، واستثنى الله ووصفه بصفته التي تستحق العبادة ابتداءً وهو أنه فطره وأنشأه، فهو الحقيق بالعبادة بحكم أنه الموجود، وقرّر يقينه بهدية ربّه له، بحكم أنه هو الذي فطره، فقد فطره ليهديه وهو أعلم كيف يهديه، قال إبراهيم هذه الكلمة التي تقوم بها الحياة، كلمة التوحيد التي يشهد بها الوجود، قالها {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
ولقد كان لإبراهيم – عليه السّلام – أكبر قسط من إقرار هذه الكلمة في الأرض، وإبلاغها إلى الأجيال من بعده عن طريق ذريته وعقبه، ولقد قام بها من بنيه رسل، كان منهم ثلاثة من أولي العزم: موسى وعيسى ومحمد خاتم الرسل عليهم صلوات الله وسلامه. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/3184).
ولقد عرفت البشرية كلمة التوحيد قبل إبراهيم عليه السّلام، ولكن هذه الكلمة لم تستقر في الأرض إلا من بعده، عرفتها على لسان نوح وهود وصالح – عليهم السّلام – وغيرهم من الرسل الذين لم يتصل لهم عقب يقوم على هذه الكلمة ويعيش بها ولها، فلما عرفتها على لسان إبراهيم ظلت متصلة في أعقابه، وقام عليها من بعده رسل متصلون لا ينقطعون، حتى كان ابنه الأخير من نسل إسماعيل وأشبه أبنائه به محمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم الرسل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى كلمة التوحيد، وجعل لها أثراً في كل نشاط للإنسان المسلم، وكل تصور. (في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/3184).
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} ]الزخرف:26-28[:
قال الشنقيطي -رحمه الله تعالى-:
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أنّ إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لأبيه وقومه: إنه براء أي بريء، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله، أي: يعني أنه بريء من عبادة كل معبود إلا المعبود الذي خلقه وأوجده فهو وحده معبوده.
وقد أوضح الله تعالى في هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم – عليه السّلام – في مواضع أخرى في كتابه، كقوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)} ]الشعراء:75-78[، وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } ]الأنعام:78-79[.
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من معلوماته على كتاب: ” في ظلال القرآن”، لسيد قطب.
المراجع:
- في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط 32، 2003 م.
- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.