قال لمبارك “أنت مش ربنا”.. الشيخ الغزالي أديب الدعوة الثائر
“الحكم الاستبدادي تهديم للدين وتخريب للدنيا، فهو بلاء يصيب الإيمان والعمران جميعا. وهو دخان مشؤوم الظل تختنق الأرواح والأجسام في نطاقه حيث امتد، فلا سوق الفضائل والآداب تنشط، ولا سوق الزراعة والصناعة تروج”.
عندما تستمع لهذه الكلمات الصاخبة ربما تظن أنها لمعارض شرس أو باحث سياسي حاد، لكنك قد تفاجأ عندما تعلم أنها لشيخ هادئ الطباع خفيض الصوت، رقيق القلب قريب الدمع كلما تحدث عن مآسي المسلمين أو تذكر مناقب النبي صلى الله عليه وسلم.
شيخ وداعية مزج الأدب بالعلوم الدينية، وجعل الشعر والنثر سلاحه ودرعه، ليسيل قلمه ولسانه عذوبة في الدفاع عن الإسلام والدعوة إلى التمسك بتعاليمه، لكن مع هذه الرقة والعذوبة كان ثائرا صلدا في الدفاع عن رأيه وتفنيد منطق خصومه، وتحمل الأذى في سبيل ما يراه حقا وعدلا وشرعا.
هذه المفارقة بين الأدب والثورة يمكن أن تكون مفتاح شخصيته وسر شهرته، إنه “أديب الدعوة” الشيخ محمد الغزالي الذي مرت قبل أيام ذكرى مرور ربع قرن على رحيله، حيث توفي في التاسع من مارس/آذار 1996.
الغزالي الصغير
ويستعرض مراسل الجزيرة نت محمد ثابت مسيرة الشيخ محمد الغزالي أحمد السقا الجبيلي، حيث يشير إلى أنه وُلد يوم السبت الخامس من ذي الحجة 1335هـ/ 22 سبتمبر/أيلول 1917م في قرية “تكلا العنب” بمركز إيتاي البارود في محافظة البحيرة (شمال القاهرة).
وكان أبوه متصوفا، لذلك أسماه باسم صاحب كتاب “إحياء علوم الدين” الإمام أبو حامد الغزالي، إذ كان الأب يطمح إلى أن يكون الصغير أول أبنائه السبعة على درب الغزالي الكبير، وعاش الشيخ لاحقا محبا لأن يُنادى بـ”الغزالي الصغير”.
نال الغزالي تعليما دينيا ابتدائيا وإعداديا في معهد الإسكندرية الأزهري، بعد حفظه القرآن الكريم في صباه، واجتمعت للشيخ منذ نعومة أظفاره البيئة الدينية المحبة لخدمة الإسلام، بالإضافة إلى تتلمذه على مشاهير عصره في الأزهر الشريف؛ مثل الشيخينِ عبد العظيم الزرقاني ومحمود شلتوت، واعتبر نفسه امتدادا لمدرسة المنار وصاحبها الداعية محمد رشيد رضا.
نال الغزالي العالِمية الأزهرية من كلية أصول الدين عام 1941م، ولاحقا الماجستير في الدعوة والإرشاد؛ وعُين عام 1943م إماما في مسجد العتبة الخضراء (وسط القاهرة)، وتدرج في العمل بوزارة الأوقاف ليصل إلى مفتش عام للمساجد، ثم مديرا للدعوة والإرشاد، كما درَّس فترة في الأزهر.
أديب الدعوة
امتازت كتب الغزالي -التي بلغت نحو الستين- بجزالة اللغة، وعمق المعنى، ودقة الألفاظ؛ فسُمي “أديب الدعوة”، خاصة مع كتابته الشعر، حيث ألف ديوان شعر بعنوان “الحياة الأولى”، كما كتب سيرته الذاتية بعنوان “قصة حياة”.
تشير بعض المصادر إلى أن أول من أطلق عليه وصف “أديب الدعوة” هو حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حيث كتب إليه رسالة عام 1945 يثني فيها على مقال الغزالي في مجلة الإخوان بعنوان “الإخوان المسلمون والأحزاب”، وقال البنا ” طربت لعبارته الجزلة ومعانيه الدقيقة وأدبه العف الرصين. هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون. اكتب دائما وروح القدس يؤيدك والله معك”.
يرى باحثون أن الغزالي استخدم الأدب في الدعوة الإسلامية على مستويين: الأول توظيف النماذج الأدبية الراقية في خدمة الفكر الإسلامي، والثاني اختيار الأسلوب الأدبي الجميل في التعبير والإنشاء.
يقول الغزالي شارحا منهجه في استخدام الأدب “لقد تطور الأدب في عصرنا هذا، وبلغ من تمكن المؤلفين والمتأدبين في اللغة أن تناولوا الموضوعات التافهة فأخرجوها في ألبسة زاهية، ووجهوا ألوف القراء -بسحر بيانهم- إلى ما يريدون، فهل يبقى الكلام في العقائد حكرا على هذا النمط من الحواشي والمتون”.
دعا الغزالي إلى إحياء حركة أدبية إسلامية تعبر عن المسلمين وثقافتهم، ودافع عن النهضة الأدبية أيام كبار الشعراء المصريين مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، لكنه رفض الأنماط الأدبية التي تتنكر لثقافتها وتدعو إلى التغريب، قائلا “إذا كان الأدب مرآة أمة، ودقات قلبها، فإن المتفرس في أدب هذه الأيام العجاف لا يرى فيها ألبتة ملامح الإسلام ولا العروبة ولا أشواق أمة تكافح عن رسالتها، وسياستها القومية، وثقافتها الذاتية”.
الغزالي والسياسة
لم ينعزل الغزالي بعلمه وأدبه في المساجد وبين دواوين الشعر، بل اشتبك مع واقعه الفكري والسياسي، وخاض معارك متتالية، بدأت منذ عهد الملك فاروق، وتحديدا أواخر الأربعينيات مع صدور كتاب “الإسلام والاستبداد السياسي”، الذي يراه الشيخ أشهر كتبه، بل نقطة انطلاق أفكاره، مضيفا “بمجرد أن نزل الكتاب إلى الأسواق فوجئت بالحكومة كلها تهتز وتصدر قرارا بمصادرة الكتاب؛ وأحسست أن القصر الملكي اهتز بشدة من هذا الكتاب وقبض عليّ وقدمت للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة، وخرجت من هذه القضية بدون أن يثبت علي شيء”.
كان يحلو للغزالي القول “نريد أن نحقق في الأرض لا إله إلا الله”. وكان يرى أن قمة تدهور الأمة الإسلامية في الاستبداد السياسي، مع انتشار أصول فكرية تعمل على تشريع وتأطير القهر والظلم، والاهتمام بقشور ومظاهر ليست من صميم الدين إن لم تكن وافدة عليه.
اعتد الغزالي بقيمة العلم والعلماء، وانتقد ابتذال العلماء ونفاقهم للسلطة، فكان يقول “أنا ورئيس الدولة نأخذ مرتباتنا من وعاء واحد، من مال المسلمين، أنا لا آخذ مرتبي من كيس أحد حتى أجعل ولائي له من دون الله”. وشن هجمات متعددة على العلماء المداهنين للحكام “إني أكره الشيوخ الذين يسترضون الرؤساء بالفتاوى الجهلاء، إنهم يدورون في القاهرة وفي كل عاصمة بذممهم، كما يدور سائقو سيارات الأجرة بعرباتهم، يتلفتون: هل من راكب؟ قبحهم الله وقبح من كلفهم وقبل منهم”.
في عهد الرئيس الراحل أنور السادات انتقد الغزالي قانون الأحوال الشخصية المعروف آنذاك بـ”قانون جيهان السادات”، فمُنع من الخطابة في مسجد عمرو بن العاص المعروف، بعد أن اشتهر بخطبه فيه؛ وتمت مصادرة كتبه، فلما أتيحت له فرصة الخروج من مصر توجه إلى السعودية، ثم أسس عام 1980 جامعة الإمام عبد القادر الإسلامية في قسنطينة الجزائرية.
بعد تعرض الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك لمحاولة اغتيال في إثيوبيا عام 1995م، ذهب الغزالي في وفد أزهري لتهنئته بالنجاة، فلما كان معه في جلسة ضمته وعلماء دين قلائل اختلف مع مبارك، عندما قال الأخير إنه يصحو من نومه وهمه توفير طعام ملايين المصريين، فقال له الشيخ “تُطعم من؟! أنت لا تستطيع أن تطعم نفسك، الله هو الذي يطعمهم ويطعمك، أنت مش ربنا أنت مهمتك إدارة الدولة ورفع مستوى مصر ودورها القيادي”.
ثائر دائما
ثورة الغزالي امتدت من الحكومات المتعاقبة إلى التيارات الإسلامية، فدخل العديد من المعارك الفكرية؛ لعل أشهرها كتابه المثير للجدل “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”، الذي جلب عليه انتقادات واسعة من السلفيين، بسبب ما اعتبروه تقليلا من دورهم، واتهامه لهم بالتشدد والغلو.
كما خاض الشيخ العديد من المعارك بسبب دعوته إلى إعمال العقل ورفض التقليد والمذهبية والاعتماد على التفسيرات الظاهرية للنصوص الدينية.
معارك الغزالي امتدت لتنال من جماعة الإخوان المسلمين التي بايع مرشدها الأول حسن البنا على أن يكون جنديا في صفوفهم، منذ لقائه أول مرة “كان ذلك أثناء دراستي الثانوية في المعهد بالإسكندرية، وكان من عادتي لزوم مسجد للمذاكرة، وذات مساء نهض شاب لا أعرفه يلقي على الناس موعظة قصيرة شرحا للحديث الشريف “اتق الله حيثما كنت”، وكان حديثا مؤثرا يصل إلى القلب، ومنذ تلك الساعة توثقت علاقتي به، واستمر عملي في ميدان الكفاح الإسلامي مع هذا الرجل العظيم إلى أن استشهد عام 1949”.
ما لبث الغزالي أن اختلف مع المرشد الثاني حسن الهضيبي، لكن لما طُلب منه في العهد الناصري مهاجمة الإخوان رفض بشجاعة، ليسجن معهم بعد حلّ الجماعة، كما تم اعتقاله مرة أخرى، ولاحقا تم القبض عليه عام 1965م.
ويؤكد الباحث في تاريخ جماعة الإخوان عصام تليمة أن الغزالي لم يعد مطلقا لجماعة الإخوان، لا فردا ولا مسؤولا ولا عالما، مشيرا إلى أن السبب هو أن الغزالي صار رمزا للأمة وليس للتنظيم، خاصة مع عدم تقدير بعض قيادات التنظيم قيمة العلم والعلماء الأزهريين، بحسب وصفه.
في أواخر أيامه كان الغزالي يدعو ربه “اللهم ارزقني الوفاة في بلد حبيبك ومصطفاك، صلى الله عليه وسلم”. واستجيبت الدعوة حينما سافر إلى السعودية للمشاركة في مهرجان الجنادرية عام 1996 رغم تحذير الأطباء من خطورة السفر والانفعال، وفي إحدى الندوات بعنوان “الإسلام والغرب” انفعل الغزالي وأصيب بأزمة قلبية فورية لم ينج منها، ووجدت وصيته في جيبه تؤكد أنه إن مات (هنا) فإنه يود الدفن في البقيع بالمدينة المنورة.
(المصدر: الجزيرة + مواقع التواصل الاجتماعي)