مقالاتمقالات مختارة

في مواجهة التطرف والإلحاد.. هل إنكار السنة هو الحل؟!

في مواجهة التطرف والإلحاد.. هل إنكار السنة هو الحل؟!

بقلم أحمد بن محسن آل قزاز

تحت وطأة الظروف الاقتصادية الخانقة، وانسداد آفاق التعبير الحر، وتخلف أمتنا الحضاري والفكري، وغياب القدوة، والانفتاح دون وعي ولا تمييز على كل ما هو غربي، يعاني شبابنا اليوم حالة يأس وفقدان للثقة في هويتهم وثقافتهم الإسلامية والعربية وهو ما خلق لديهم مساحة أكبر للأفكار الشاذة، في محاولة منهم للتعايش مع واقعهم المهترئ أو محاربته، منهم من لجأ إلى الإلحاد، ومنهم من اتجه إلى التطرف والتعصب، ومنهم من هو مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يمسى على حال الصحابة ويصبح على حال الجاهلية الأولى، والقليل منهم قابض على الجمر متمسك بالاعتدال، في ظل غياب مفزع لدور المؤسسات والنخب الدينية والثقافية في احتواء ومعالجة آثار هذه الحالة ومساعدة الشباب لاستعادة الثقة المفقودة في هويتهم وثقافتهم.

مما فتح الباب على مصراعيه أمام السفهاء المتخفين في رداء الإصلاح والتجديد، ليعيدوا ترويج أفكار بائدة تحت عناوين جذابة وعصرية مثل “تجديد الخطاب الديني” و”محاربة التطرف”، وفي سفه لا يخلو في بعض الأحيان من حقد دفين على الإسلام، ينادون بضرورة تنقية كتب السنة أو كما يسمونها “التراث” من نصوص التطرف، أو ربما تعطيل السنة نهائيا والتنكر لأئمة الحديث والطعن فيهم وفي مقدمتهم الإمام البخاري -رحمه الله-، ملصقين كل التهم بالسنة النبوية، فهي سبب تأخرنا الأخلاقي والاجتماعي والحضاري والاقتصادي ربما والسياسي أيضاً، ليمثلوا بذلك امتداداً لفكر الخوارج والمعتزلة والرافضة.

إلا أن محاولتهم الطعن في السنة النبوية ليست الأولى من نوعها في العصر الحديث، فقد ظهرت محاولات شبيهة في الهند خلال فترة الاستعمار البريطاني، وهي محاولات دائماً ما تظهر في فترات الانحدار التي تمر بها الأمة وتتسم بروح التبعية والانهزامية والانبطاح أمام الحضارة الغربية، فالغرب بلا شك متفوقون علينا في جوانب عديدة، إلا أن هذا التفوق لم يتحقق لهم بين ليلة وضحاها وإنما قدموا في سبيله الكثير الكثير على مدار قرون، وبذلوا التضحيات وتخلصوا من الظلم وأقاموا العدل فيما بينهم، ولم يتنكروا لماضيهم، بل تباهوا به رغم دمويته وظلامه واعتبروا أنفسهم امتداداً له، وأعلوا من شأن العمل والعلم في سبيل رفعة أمتهم.

كما أن الاعتراف بتفوقهم علينا لا يعني بالضرورة جلد الذات وطمس هويتها، فالمسلمون بإيمانهم وعلومهم وقوتهم قد حكموا العالم من الصين إلى الأندلس وأنشأوا الجامعات والمستشفيات وبرعوا في مختلف العلوم وتقدموا على سائر الأمم، فمثلاً حينما أنشأ المسلمون أولى المستشفيات لعلاج الجذام في دمشق عام 707م، كانت أوروبا غارقة في قرونها الوسطى المظلمة، وكان غالبيتهم يؤمنون بأن الجذام غضب من الله يستحق المريض بسببه العقاب فيحرقونه بالنار بدلا من علاجه.

نعم لقد كانوا بهذا الجهل والغوغائية، وكنا وقتها قادة العالم ومصدر العلم والثقافة والتنوير بهويتنا الإسلامية وسماحة شريعتنا واعتدالها، ولم تقف سنة نبينا الكريم -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- عائقاً أمام تقدمنا كما يصور سفهاء العصر، فالتحضر والتقدم لا يتحققان لأمة إلا بإقامة العدل، وإعلاء قيمة العلم والعمل، والاعتزاز بقيم الأمة، والإيمان بتفردها واستقلاليتها.

ويؤسفني القول أن مجهودات المؤسسات والنخب الثقافية والدينية لمواجهة هذا الفكر المنحرف محدودة وغير كافية، وهي في معظمها أبحاث وخطب تصدر بين الفينة والأخرى على المواقع والقنوات الإسلامية لتفنيد الشبهات المتعلقة بالبخاري وصحيح السنة والرد عليها بلغة معقدة لا يفهمها إلا العارف بعلوم الحديث والمتعمق في العلوم الشرعية، ولا يعيها الشاب العادي ولا تشكل لديه مناعة فكرية تحميه من لوثة الانحراف الفكري.

أما الرويبضة فيجيدون مخاطبة الشباب على قدر عقولهم بلغة بسيطة ومباشرة ينفذون من خلالها إلى قلوبهم ونفوسهم، ولا لوم عليهم، في ظل تقاعس “النخب الدينية” عن القيام بالدور المأمول، فهم ما بين غائب عن المشهد بالكلية، أو منشغل بالسياسة، أو منشغل بفتاوى الوضوء والحيض والنفاس، تاركين الفرصة أمام ميزو والبحيري وشحرور وغيرهم من العابثين ليشككوا فيما يشاؤون من ثوابت، ويصدوا الناس عن أحاديث النبي الكريم وسيرته، وهم في ذلك بارعون، ولا يدخرون جهدا في نشر شطحاتهم الفكرية ولا يتكاسلون عن تلويث عقول فارغة أصلاً من أي فكر أو ثقافة ويسهل حشوها والعبث بها دون أي ممانعة.

هل إنكار السنة يخدم الإسلام أم يهدمه من أساسه؟!

إن السنة النبوية المطهرة هي المصدر الإسلامي الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، وأصحاب دعوى إنكارها قديماً وحديثاً يظهرون الإسلام، ويتصنعون الحرص عليه، وهو ما يكسب موقفهم بعض الوجاهة على الرغم من ضحالة أطروحاتهم وتسطح أفكارهم، فهم من جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا، ولذلك يجيدون خلط السم بالعسل، عبر ادعاء الحرص على دين الله وإثارة الشبهات حول أحاديث الرسول -عليه وعلى آله الصلاة والسلام-، وهدفهم في ذلك هو القضاء على الإسلام في نفوس العامة ونزع ثقتهم في مصادره عبر التشكيك فيها والطعن في ناقليها، وذلك يؤدي في النهاية إلى هدم الدين وإسقاطه بالكلية وإن بدا عكس ذلك، لأن الطعن في السنة والحديث يعد مدخلاً للطعن في صحة القرآن وسلامة نقله إلينا، فلقد وصل إلينا القرآن بنفس الطريقة التي وصلت بها السنة.

ويقدم أولئك الرويبضة أنفسهم بصورة المتمسكين بكلام الله، ويقولون إن الدين كله في القرآن، ومنه تؤخذ الأحكام والأوامر والنواهي وتفاصيل العبادات والمعاملات. والواقع أن القرآن قد تحدث في مختلف القضايا وذكر أصول الأحكام الشرعية، وأما تفاصيل تلك الأحكام وجزئيات الشريعة فقد فصل بعضها وترك بعضها مجملاً، وتولت السنة النبوية المطهرة تفصيل ذلك المجمل وبيانه للناس، وهذا هو البناء الأساسي الذي قام عليه التشريع الإسلامي، وبذلك أجمعت الامة وعليه استقرت.

إذا ما هدمت السنة فلا عبادات ولا معاملات ولا إسلام، وما أسعد أعداء الإسلام بالخدمة التي يقدمها الرويبضة ومنافقو العصر بالمجان ليقوضوا بناء الإسلام ويصدوا الناس عن سبيل الله

فقد نجد في القرآن الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج، ولكن أين نجد في القرآن الكريم تفصيل كل ذلك؟.. أين نجد كيفية الصلاة وأحكامها؟.. وأين نجد كيفية الزكاة والصيام والحج وأحكامهم؟.. وأين نجد تفاصيل العبادات والمعاملات كافة؟.. نجد كل ذلك في السنة النبوية المطهرة، فإذا ما هدمت السنة فلا عبادات ولا معاملات ولا إسلام، وما أسعد أعداء الإسلام بالخدمة التي يقدمها الرويبضة ومنافقو العصر بالمجان ليقوضوا بناء الإسلام ويصدوا الناس عن سبيل الله. يقول المفكر النمساوي محمد أسد كوران: “إن العمل بالسنة النبوية المطهرة ضروري لحفظ بناء الإسلام، وإن ترك السنّة هو هدم لذلك البناء، فلطالما كانت السنّة هي الهيكل الحديدي الذي قام عليه صرح الإسلام، وإنك إن أزلت هيكل بناء ما، فهل يدهشك بعد ذلك أن يتقوض ذلك البناء كأنه بيت من ورق؟”.

ومن اللافت مؤخراً موقف شيخ الأزهر الدكتور/ أحمد الطيب، حين طالب بإحياء السنة والدفاع عنها، جاء ذلك في كلمته التي ألقاها خلال احتفالية أقامتها الدولة في مصر إحياءاً لذكرى مولد النبي الكريم -عليه وعلى آله الصلاة والسلام-، بحضور رئيس الجمهورية وممثلي الحقائب الوزارية المختلفة والمستشارين والنخب وجمع من علماء الأزهر الشريف، واستمرت الكلمة قرابة العشر دقائق، وجه خلالها شيخ الأزهر حديثه إلى الحضور محذرا من الهجمة الخبيثة التي يشنها بعض الجهال والمترفين فكرياً بهدف إنكار السنة والاعتماد على القرآن الكريم مصدراً وحيداً للتشريع والأحكام. من المفترض ألا يثير هذا الموقف حماسة أحد، فهو صادر عن إمام أكبر مؤسسة تمثل الإسلام في العالم، وهو أقل ما يمكن أن تقدمه مؤسسة بعراقة الأزهر دفاعاً عن النبي وسنته، إلا أن واقع الأمة الهزيل الذي غابت عنه مثل هذه المواقف الجريئة خصوصاً من المؤسسات الدينية الرسمية، يجعل منه موقفا استثنائياً ذا أهمية بالغة وضروري لمواجهة فكر خبيث يسعى لهدم الإسلام من أساسه تحت ستار التجديد والتعايش. فهل نرى خطوات أكبر في قادم الأيام؟ نأمل ذلك.

كثيرة هي أدلة ثبوت السنة وحجيتها، ولا يتسع المقام لذكرها، إلا أن مما يقطع بصدق السنة ويقوض فكرة إنكارها في آن واحد، هو تنبؤ الرسول -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- بهذه الظاهرة، منذ 1400 عام في حديث مروي بسند صحيح عن المقدام بن معد يكرب الكندي، أن رسول الله -عليه وعلى آله الصلاة والسلام- قال: “ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله”.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى