في مملكة النحل عظيم صنع الله وإعجازه.. رسالة رمضانية للملحدين
بقلم د. علي الصلابي
ذكر الله تعالى في كتابه العزيز النحل، كما سمى سورة كاملة باسمه ألا وهي سورة النحل، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يلفت انتباهنا إلى عظمة هذا المخلوق الصغير الذي تتجلى فيه قدرته سبحانه وتعالى، فقال: “وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (النحل: 68، 69)، هاتان الآيتان الكريمتان تبينان لنا أدق التفاصيل العلمية التي اكتشفها العلم الحديث في أسلوب حياة هذا النوع من الحشرات ذات النظام الرائع، نظام لا نملك تجاهه إلا أن نقول “تبارك الله أحسن الخالقين”.
قامت دراسات مستفيضة حول هذه المملكة، فأظهرت التقسيمات بين أصناف النحل وتحديد مهمة كل صنف منها:
– صنف مهمته جمع رحيق الأزهار وإيداعه في مستودعاته من الخلية.
– وصنف يعمل داخل الخلية لبناء بيوت سداسية الشكل، واختيار الشكل السداسي لم يأت اتفاقاً، بل عن اختيار وحكمة، فإن أي شكل هندسي آخر لا يمكن أن يملأ كل الفراغات، بل تبقى زوايا مهملة لا يستفاد منها، أما الشكل السداسي فلا تبقى معه أية زاوية مهملة، وهناك صنف من النحل يجهز للملكة طعاماً خاصاً، ومهمة الملكة هي الإنجاب ليس إلا، إذ بعد أن تضع بيوضها تموت لتختار ملكة جديدة من بين الجيل القادم، وتقتل كل الأصناف الشبيهة بالملكة المختارة حتى لا تنازع الملكة سلطتها، وهناك على باب الخلية حرس يفتشون العاملات بدقة متناهية، فالتي تقع على نجاسة أو شيء خبيث الرائحة يكون جزاؤها القتل أو الطرد والمنع من دخول الخلية، فمملكة النحل تتكون من ثلاث فئات: الإناث العاملات، الأنثى الملكة والذكور.
ليظهر الله سبحانه وتعالى معجزات كتابه ويُري آياته للناس في هذا العصر فقد سخر أناساً لدراسة طبيعة العسل وتركيبه، وذهبوا إلى تشريح جسم النحلة واستخراج السم الذي في بطنها وتحليله للتعرف على خاصيته، وتوصلوا إلى نتائج باهرة تميط اللثام عن معجزة الكتاب الخالد: “يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءلِلنَّاسِ”، وجاءت النتائج عن تركيب العسل، فقد وجدوا أنه يتركب من:
– (25 ـ 40) دكستروز (جلوكوز)
– (30 ـ 45) ليفيوز (فروكتوز)
– (15 ـ 25) ماء
والجلكوز الموجود فيه نسبة أكثر من أي غذاء آخر، وهو سلاح الطبيب في أغلب الأمراض، واستعماله في ازدياد مستمر بتقدم الطب، فيُعطى بالفم وبالحقن الشرجية وتحت الجلد وفي الوريد ويُعطى بصفته مقوياً ومغذياً ومضاداً للتسمم الناشئ عن مواد خارجية مثل الزرنيخ والزئبق والذهب وضد التسمم الناشئ من أمراض الكبد والاضطرابات المعدية والمعوية وضد التسمم في الحميات مثل التيفويئد، والالتهاب السحائي المخي، وفي حالات ضعف القلب، وحالات الذبحة الصدرية، وبطريقة خاصة في الارتشاحات العمومية الناشئة من التهابات الكُلَى الحادة، وفي احتقان المخ وفي الأورام المخية، ومعالجة مرضى السكر والسرطان. هذا بعض ما توصلوا إليه مـن شأن النحل بعد تطور والشراب الخارج من بطونها، ومن يدري ماذا يكون بعد تطور وسائل المعرفة والاكتشاف؟ فقد تكتشف خصائص للعسل أضعاف ما عرفوا الآن وستبقى المعجزة الخالدة تحدوهم “فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ”.
لعل القارئ يدرك بأن إناث النحل العاملات هي التي تقوم بكافة النشاطات دون الفئتين الأخريين، ولذلك تلاحظ هنا المعجزة القرآنية الأخرى في العلم وفي دقة التعبير، وهي أن الآيتين في سورة النحل تخاطب إناث النحل وليس ذكورها “… أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ” “ثُمَّ كُلِي” “فَاسْلُكِي” “مِنبُطُونِهَا”. فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم “عالم أحياء” حتى يميز إناث النحل العاملات من بين الملكة والذكور على أنها هي الفئة المقصودة في الآيتين الكريمتين؟، إنها الحقيقة الربانية الساطعة بأن القرآن الكريم أنزل “لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ”. فالإناث في مملكة النحل هي التي تقوم بكل المجهود والعمل في مستعمراتها وما الذكور إلا للتلقيح فقط، ولا تظهر إلا قبيل موسم التلقيح ثم تموت وتندثر.
في الآية الكريمة إشارة إلى مساكن النحل وأنواعها المختلفة، فهناك فصائل برية من النحل تسكن الجبال ومنها سلالات تتخذ من الأشجار سكناً بأن تلجأ إلى أجزاء الشجرة من الثقوب الموجودة في جذوع الأشجار والأوراق وتتخذ منها بيوتاً تأوي إليها، ولما سخر الله النحل لمنفعة الإنسان أمكن استئناسه في حاويات من الطين أو الخشب، ولقد تبين لعلماء الحشرات أن النحل يقوم بهذا السلوك بشكل فطري أي لا نتيجة معارف مكتسبة، وهذا مصداق لقوله تعالى: “وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ”، فالإيحاء هو الإعلام بخفاء، وهذا لا يتم إلا من خلال خالقها الله سبحانه وتعالى، وليس أدل على إعجاز القرآن العلمي من استيعابه لكل ما يمكن للنحل أن يتخذ منه مسكناً كما سبق ذكره إذ أننا لو استعرضنا أنواع النحل نجد أنها تتخذ بيوتها في الجبال والكهوف، وفي الأرض “التربة بأنواعها”، وفي جذوع الأشجار.
ومن آيات إلهام الخالق سبحانه وتعالى للنحل اتخاذها من الشكل السداسي أساساً لبناء مسكنها من مادة الشمع التي تنتجها، وهذا الشكل يستخدم كمخادع لتربية الحفنة الصغيرة، أو مستودعات لتخزين العسل أو حبوب اللقاح، فبالإضافة إلى أن هذا الشكل الهندسي “السداسي” مهيأ تماماً لأداء الوظائف السابقة، فإن الشكل السداسي للعين يتطلب أقل كمية من المادة البنائية “الشمع”، كما أن الشكل السداسي هو خير الأشكال الهندسية التي لا ينتج عنها فراغات بينية، وأن عدد العيون منها في مساحة معينة يفوق عدد الأشكال الأخرى في نفس المساحة، وذلك لأن الشكل المسدس هو الشكل الوحيد الذي جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يحدث بينهم فرج، وهذا خاص فقط بالشكل المسدس دون الشكل المخمس أو المثمن أو المتسع أو المعشر، ونجد أن نحلة العسل حينما تملأ العين السداسية بالعسل فإنها تغطيها بغطاء من الشمع الخالص حتى لا يمتص العسل رطوبة أو أية روائح، وحينما تحتوي العيون على حضنه، فإن النحلة تغطيها بغطاء نفاذ مكون من الشمع وحبوب اللقاح يسمح بمرور الهواء والأوكسجين إلى تلك الأخباء الموجودة داخل العين المقفلة ومما يثير الدهشة أيضاً أن النحل عند بنائه الأقراض فإنه يترك بين الأقراص مسافة مقدار (16.5) من البوصة يطلق عليها المسافة النحلية ولا يختلف أي نوع من أنواع العسل في ذلك، فمن ذا الذي علم النحل أصول هذا الفن من الهندسة والعمارة؟
تطير النحل لارتشاف رحيق الأزهار، فتبتعد عن خليتها آلاف الأمتار، ثم ترجع إليها ثانية دون أن تخطئها وتدخل خلية أخرى غيرها، علماً بأن الخلايا في المناحل تكون متشابهة ومرصوصة بعضها إلى جوار بعض، وذلك من خلال ما حباها الله سبحانه وتعالى من حواس متطورة من بصر وشم، فلقد زود الله سبحانه وتعالى النحلة بحواس تساعدها في رحلة الاستكشاف لجمع الغذاء فهي مزودة بما يلي:
أ- بحاسة شم قوية عن طريق قرني الاستشعار في مقدمتها.
ب- وبعيون متطورة يمكنها أن تحس بالأشعة فوق البنفسجية ولذلك فهي ترى ما لا تراه عيوننا، مثل بعض المسالك والنقوش التي ترشد وتقود إلى مختزن الرحيق. وعاملات النحل تمر على 500 إلى 1500 زهرة شجر مثمر قبل أن يمتلئ جيب العسل في جوفها، وهذه الحقيقة العلمية تتطابق تماماً مع ما أوحى لها تعالى في قوله: “ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ”، وفي رحلة العودة تهتدي النحلة إلى مسكنها بحاستي النظر والشم معاً، أما حاسة الشم فتتعرف على الرائحة الخاصة المميزة للخلية، وأما حاسة الإبصار فتساعد على تذكر معالم رحلة الاستكشاف، إذ يلاحظ أن النحل عندما تغادر البيت تستدير إليه وتقف أو تحلق أمامه فترة وكأنها تتفحصه وتتمعنه حتى ينطبع في ذاكرتها، ثم هي بعد ذلك تطير من حوله في دوائر تأخذ في الاتساع شيئاً فشيئاً فتقوم بذلك بحفظ مكان البيت حتى يتسنى لها العودة إليه بسهولة، وهذا مصداق قوله تعالى: “فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً”.
———————————————————————————————————-
مراجع المقال:
- علي محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 2013، ص. ص 175 – 179.
- مصطفى مسلم، مباحث في إعجاز القرآن، دار القلم – دمشق، الطبعة 3، 2005، ص. ص 218 – 223.
- يحيى وزيري، إعجاز القرآن الكريم في العمارة والعمران، عالم الكتب، 2008م، ص. ص 144 – 149.
(المصدر: مدونات الجزيرة)