في ذكرى وفاة الدكتور محمد عمارة
القدس وفلسطين في فكر عالمنا الكبير
ودور أهل الفكر والمثقفين في الدفاع عن القدس وفلسطين
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
حلت بالأمس ذكرى وفاة عالمنا الكبير المرحوم الدكتور محمد عمارة مصطفى عمارة (27 رجب 1350 هـ/8 ديسمبر 1931 – 4 رجب 1441 هـ/28 فبراير 2020). توفي عمارة في مساء يوم الجمعة 28 فبراير عام 2020، وقال بيان الأزهر الشريف في نعيه له، مبيناً قيمته وقامته: “أن رحيل الدكتور محمد عمارة ترك فراغًا يصعب ملؤه في صفوف كبار العلماء الذين يحملون على عاتقهم أمانة العلم، وصدق الكلمة”.
و إن من أهم ما يميز فكر الكبير مفكرنا الراحل هو إيمانه ودفاعه أمة الإسلامية واحدة وإن تباعدت الديار وتقسمت البلدان، واحتلها المحتلون، وفي القلب منها مكانة القدس فلسطين في العقيدة والوجدان العربي والإسلامي ومركزيتها في الصراع الممتد بين أمتنا وبين الغرب الغازي وربيبته الصهيونية المحتلة لفلسطين
وقد كتب الدكتور عمارة مئات المقالات والأبحاث عن قضية فلسطين وخصص لها العديد من كتبه مثل: معارك العرب ضد الغزاة. والعروبة في العصر الحديث، الوعي بالتاريخ وصناعة التاريخ، القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار، هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين، القدس بين اليهودية والإسلام، العرب والتحدي، معالم في فقه الصراع على القدس وفلسطين، القدس الشريف في الدين والتاريخ والأساطير، القدس أمانة عمر في انتظار صلاح الدين، الإسلام في مواجهة التحديات، القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار.
وهذا المقال تذكير بمفكرنا الراحل وفضله من ناحية، ومن ناحية أخرى يبرز لنا وصيته ورؤيته للصراع حول القدس وفلسطين ومعالم فقه الصراع على القدس وفلسطين كما هو عنوان أحد كتبه، ودور المثقفين والمفكرين في بيان مركزية القدس وفلسطين في عقيدة كل مسلم بقلمه دون تدخل من كاتب المقال إلا في تجميع رؤية مفكرنا الراحل مختصرة من بعض كتبه[1].
المشروع الصهيوني جزء عضوي من الحضارة الغربية
إن الحلم الصهيوني في فلسطين قد بدأ طعماً غربياً، وأغرى به الاستعمار الغربي، منذ فجر غزوته لبلادنا، الأقليات اليهودية، إبان بحثه عن موطئ قدم وعمالة حضارية بين أبناء الأقليات، للاستعانة بها في تثبيت أقدام استعماره واستغلاله لبلادنا[2].
والمشروع الصهيوني جزء عضوي من الحضارة الغربية.. والصراع القائم بين أمتنا وهذا المشروع تاريخي، وسببه الأول هو الدور الحضاري الذي جاء به الإسلام، لذلك فإن إنكار البعد الإسلامي لهذا الصراع حول القدس وفلسطين، والدعوة إلى علمنته، هو لون من التزييف لوعي الأمة لتجريدها من أمضى أسلحتها في هذا الصراع[3] .
إن ما يسمى بإسرائيل-الدولة والجيش والشعب هم غزاة، جلبوا إلى هذه الأرض العربية المسلمة المقدسة، ومكان كل فلسطيني اقتلع من ديار وأرضه ووطن آبائه وأجداده زرع يودي مجلوب من وراء الحدود والبحار، فهل يتصور عاقل من العقلاء-بصرف النظر عن النظريات والأيديولوجيات-قيام علاقات طبيعية-تطبيع-بيني وبين من يحتل بيتي بعد طردي منه، وتشريدي، وحرماني من كل مواريثي ومقوماتي في الحياة؟! حتى ولو قال قائل: إن بين اليهود دعاة سلام، يريدون “التطبيع” على أساس حل وسط تاريخي، فإننا نسأل هذا القائل، ليسأل بدوره “دعاة السلام” هؤلاء: أين ولدوا م وآباؤهم؟ وإذا كانوا-كما و الواقع والحقيقة-قد ولدوا بعيدا عن فلسطين، ويعيشون جميعا في منازل وأراض الفلسطينيين، فهل في عرف عاقل من العقلاء إقامة سلام بين اللص الذي اغتصب البيت وبين صاحب البيت الطريد والشريد…جائز أن تتعامل حكوماتنا مع اللص لتخرجه من ديارنا، أما التطبيع والتعايش الطبيعي فلا، لأن الاغتصاب لا يأخذ الشرعية بمرور السنين، وإلا لكانت كل بلادنا خاضعة للإمبراطوريات الاستعمارية حتى الآن[4].
فلسطين والقدس وصراعنا مع الغرب الغازي وربيبته الصهيونية من خلال سنة الله
إن فكرنا السياسي في حاجة إلى الرجوع إلى السنن الإلهية التي جاءت في القرآن الكريم عن طبيعة اليهود عندما يتعاملون مع غيرهم من الشعوب، لقد درس الغرب تراثنا وإسلامنا-بواسطة الاستشراق-ليتعلم كيف يتعامل معنا، ونحن في حاجة إلى أن يدرس مثقفونا وصناع الاستراتيجيات والقرارات في بلادنا: لماذا مثل اليهود عبر التاريخ-شوكة-في حلق الإنسانية، استعصت على الألفة والتعايش والاندماج، وليس كالسنن القرآنية منابع لهذا الفكر..
إن القضية ليست “نتنياهو” ولا “الليكود” في التراجع والالتفاف على العهود والمواثيق وتفريغها من محتواها، وإنما هو الطبع والقانون والسنة التي صدق عليا التاريخ، وعنها يتحدث القرآن-وكأنه يلخص الموقف الراهن-في نقض العهود “أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم” البقرة: 100، فالبعض يعاهد، والبعض ينبذ العهود، وإذا كانوا قد قالوا للخالق-سبحانه-عندما أمرهم بأن يسمعوا له ويطيعوا “سمعنا وعصينا” البقرة: 93، فماذا نحن منتظرون منهم، وهلا وعينا أنهم قد جعلوا من السلوك اللاأخلاقي –مع غيرهم شريعة معلنة في تراثهم، طبقتها وتطبقها سلوكياتهم قديما وحديثا؟ “ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون” آل عمران: 75. إن حضارة من الحضارات لم تحسن إلى اليهود كما أحسنت إليهم الحضارة الإسلامية ومع ذلك فها نحن الذين ندفع أفدح الأثمان لهذا الإحسان، وعلى الذين يفيقون فيدهشون-مما يرون ويسمعون اليوم-أن يعودوا إلى تدبر السنن الكونية “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا” المائدة: 82، فعداوتهم قد غلبت وتقدمت على عداوة المشركين[5].
القدس في الرؤية الإسلامية
والقدس في الرؤية الإسلامية ليست مجرد أرض محتلة، ومدينة مغتصبة.. وإنما هي –مع ذلك وفوقه وقبل وبعده- جزء من العقيدة الدينية الإسلامية-فضلا عن الحضارة والتاريخ[6]. والقانون الحاكم للصراعات التاريخية حول القدس الشريف وهو في ذات الوقت- نبوءة رسول الله صلى الله علي وسلم صاحب الإسراء والمعراج.. والرباط المقدس بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام.. نبوءته التي قال فيها: لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين ، لعدوهم قارين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء (شدة ومحنة) حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: بيت المقدس وأكناف بيت المقدس[7] .
المفكرون والمثقفون وحفظ الذاكرة الحضارية للأمة
في أي صراع من الصراعات، وأية مشكلة من المشكلات، هناك أهمية كبيرة لأن تظل ذاكرة الأمة واعية بحقيقة وطبيعة المشكلة والصراع، وذلك حتى لا ينجح الخصم-كما هو حادث الآن في القضية الفلسطينية والصراع مع المشروع الصهيوني-حيث سحب اليهود أطرافاً عربية كثيرة إلى تفاصيل وفروع وجزئيات بل ومتاهات لا علاقة لها بجوهر المشكلة وطبيعة الصراع حتى كاد هذا المنهاج اليهودي أن ينسي هذه القطاعات العربية حقيقة وجوهر هذا الصراع.. فعلى العقل المسلم وعلى الأمة العربية والإسلامية أن تدرك أبعاد الصراع الذي تخوض حتى لا تنسى الجذور والثوابت وتغرق في الفروع والهوامش حتى تصطفي من إمكاناتها ما يوازي أبعاد الخطر المحدق والمحيط بها[8].
ولن نستطيع أن نصنع التاريخ إلا إذا كان لدينا وعي بمغزى وقائع التاريخ[9]. وإذا كانت ذاكرة الأمة، بواسطة ثقافتها، قد ظلت واعية بمكانة القدس في هذا الصراع التاريخي عبر تعدد المراحل والحلقات… فإن المهمة المعاصرة لثقافتنا الوطنية والقومية والإسلامية ي إبقاء ذاكرة الأمة على وعيها الكامل بمكانة ذا القدس الشريف، وذلك حتى يطلع الفجر الجديد، بالناصر صلاح الدين الجديد[10].
إن رسالة الفكر والمفكرين والثقافة والمثقفين هي تنمية وعي الأمة بحقائق تاريخها وواقعها ومستقبلها وحراسة ذاكرتها، كي لا تنسى كامل حقوقها إذا تعرضت هذه الحقوق للاغتصاب. وعندما تغيم الرؤية أمام بعض مثقفينا، فتتسرب الهزيمة إلى نفوسهم، وتصيبهم-إزاء الصراع العربي الصهيوني-غيبوبة الأوهام، يحسن بصناع الفكر والثقافة التذكير بالحقائق التاريخية والوقائع السياسية التي لا خلاف فيها، لتنقية الوعي من الزيف، وإعادة وحدة الموقف الثقافي تجاه قضايانا المصيرية[11].
إنهم صناع الوعي بكامل الحق، وحراس اليقظة كي لا تنسى الأمة كامل الحق، وبقدر صلابة الموقف الفكري والثقافي، ونجاحه في حراسة وعي الأمة وتأجيج وتعظيم وعي الذاكرة الجماعية بالمقاصد المشروعة للأمة في أرضا ومقدساتها، بقدر ما يساعدون الدولة على تطوير الواقع واعتدال موازين القوى لتقصير أمد الضرورات والتنازلات[12].
رحم الله الدكتور محمد عمارة وغفر له وأسكنه فسيح جناته لقاء ما قدم لأمته المصرية والعربية والإسلامية من أعمال فكرية راقية، وما قدمه من أفكار نيرة في الدفاع عن الإسلام. وما كتبه عن فلسطين قضية الأمة المسلمة المركزية، وعن القدس أمانة عمر التي تنتظر صلاح الدين.
[1] عمارة، محمد. معالم فقه الصراع على القدس وفلسطين، دار الشروق، القاهرة، 2005م.
[2] عمارة، محمد. هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، دار الوفاء،2000م، ص145.
[3] عمارة، محمد. إسلامية الصراع حول القدس وفلسطين، دار نهضة مصر، 1998م.ص38.
[4] عمارة، محمد. هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، دار الوفاء،2000م، ص134.
[5] عمارة، محمد. هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، دار الوفاء، القاهرة، 2000م، ص153-154.
[6] عمارة، محمد. القدس أمانة عمر في انتظار صلاح الدين، مكتبة الإمام البخاري، 2009م، ص6.
[7] عمرة، محمد. القدس الشريف في الدين والتاريخ والأساطير، دار السلام، القاهرة، دون تاريخ، ص76.
[8] عمارة، محمد. الإسلام في مواجهة التحديات، دار نهضة مصر، 2007م، ص 268، ص271.
[9] عمارة، محمد. هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، دار الوفاء،2000م، ص69.
[10] عمارة، محمد. القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار، دار نهضة مصر 1998.ص101-102.
[11] عمارة، محمد. هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، دار الوفاء،2000م، ص145.
[12] عمارة، محمد. هذا إسلامنا: خلاصات الأفكار، دار الوفاء،2000م، ص150.