في ذكرى ميلاد عبد الوهاب المسيري .. لمحات من النشأة الأولى حتى المرحلة الثانوية
بقلم أ. عماد الدين عشماوي (خاص بالمنتدى)
ولد عبد الوهاب محمد أحمد المسيري في 8 أكتوبر 1938م، في مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة في الوجه البحري بمصر وقضى معظم طفولته فيها، وكانت دمنهور في هذه الفترة مدينة تجارية حديثة توجد فيها عائلات تجارية عريقة يمتد نشاطها التجاري إلى كل أنحاء مصر وتسود فيها العلاقات التعاقدية التي تسود المدن والمجتمعات الحديثة لكن دون أن تطغى على العلاقات التراحمية بين أبنائها، كما كانت من أكثر المدن تصنيعاً؛ وإن ظلت كذلك بمثابة قرية كبيرة ومركزاً للتسوق للقرى المجاورة لها[1].
في هذه البيئة الخصبة ولد المسيري في أسرة ثرية ذات وضع اجتماعي مرموق تعمل بالتجارة، وكانت الشرعية لديها هي شرعية الثروة لا الثقافة إذ لم تكن الثقافة ضمن اهتماماتها الأساسية[2]، فقد كان والده من كبار تجار الجملة؛ وصار فيما بعد من كبار الرأسماليين الصناعيين في مصر بعد ثورة يوليو 1952م، وقد تُوفي إبان وجود المسيري في الولايات المتحدة في أواخر الستينيات، بينما كانت والدته ربة منزل مصرية بسيطة تتميز بأنها كانت أقل حداثة[3] ورغبة في الإنجاز في رقعة الحياة العامة من والده وتهتم أكثر بشئون أسرتها ورعايتها، وقد ماتت وهي في الخامسة والسبعين من عمرها.
وقد أدى انشغال والده في التجارة وتحقيق التراكم الرأسمالي طوال الوقت؛ لدرجة أنه لم يكن يجد وقتاً للحديث مع أبنائه، إلى ميل المسيري للنفور من التعاقد والنزوع نحو التراحم منذ صغره[4]، وقد ترسخ هذا الميل للتراحم لديه بسبب أمه التي كانت مثالاً للتراحم وقيم المجتمع التقليدي وكانت غير مكترثة بمسألة التراكم الرأسمالي ودائماً ما كانت تعبر عن ازدرائها للثروة التي تزداد تراكماً والتي تؤدي في الوقت نفسه إلى ابتعاد زوجها عن أسرته[5].
وبالإضافة إلى أسرته النووية (أبوه وأمه وإخوته) كان الإطار الاجتماعي الذي تحرك فيه في طفولته هو الأسرة الممتدة ( تشمل بجوار الأب والأم والإخوة الأقارب من الجدود والأعمام والأخوال)؛ بكل ما في الكلمة من معان تؤكد معاني التراحم وتفضلها على التعاقد ودورها الحيوي في تعميق الانتماء للدين والوطن والتمسك بالأرحام وصلتها، فقد نشأ في بيت كل من فيه (مسيري)، وفي الجيرة التي نشأ فيها كان كل الأطفال معروفين للجميع، وحتى الوقت الذي يقضيه في الشارع كان وقتاً للتنشئة الاجتماعية يسهم فيه كل من حوله فقد كان الجميع يعتبرون أنفسهم مسئولين عن أطفال أقاربهم وجيرانهم وتقويم سلوكهم، فنشأ مدركاً قيمة البيئة في التربية والتهذيب ونقل القيم للأجيال الجديدة[6].
المرحلة الابتدائية
التحق المسيري بمدرسة دمنهور الابتدائية عام 1944م وحصل منها على الشهادة الابتدائية عام 1949م، ولم يكن خلالها طالباً متفوقاً بل كان تلميذاً (خائباً) فقد رسب في السنة الثالثة الابتدائية ولم ينجح إلا في الدور الثاني وعند تخرجه منها كان مجموعه منخفضاً للغاية[7]، وعلى الرغم من ذلك كانت تجربته مع التعليم في المرحلة الابتدائية سعيدة للغاية باستثناء بعض السلبيات في طريقة التعليم في هذه الفترة والتي تسببت في كرهه لمادة الحساب بسبب قسوة مدرسها، وهو ما ظهر بعد ذلك في تناوله لإصلاح التعليم ودور المعلم في بناء أو هدم الطالب سواء في التعليم العام أو في الجامعة والدراسات العليا[8].
وكان محيطه الاجتماعي في تلك الفترة مليئاً بالشخصيات التي أثرت كثيراً في حياته، منهم: جده، وزوج أخته، وخاله، ومعلميه، ومربيته في دمنهور والمسحراتي اللذين سمع منهما كثيراً من القصص الشعبية الخرافية الجميلة[9]، حيث تميز تراث القصص والأغاني والألعاب للأطفال في زمن نشأته بالثراء والتطور إلى أقصى حد من مرحلة سنية إلى أخرى، وهو الأمر الذي كان له أكبر الأثر في تقديره للموروث الشعبي والإسلامي فيما بعد وفي استخدامه في تربيته لأبنائه وأقاربه واستخدامه كذلك في بناء قصص تستلهم قيمه لتربية الطفل المسلم عليها[10].
المرحلة الثانوية
انتقل المسيري إلى مدرسة دمنهور الثانوية عام 1949م، وقد استمر في أدائه الضعيف في السنوات الثلاث الأولى من تلك المرحلة حيث رسب في السنة الأولى واضطر لإعادة السنة وكرر الرسوب في السنة الثانية ولم ينجح إلا في الدور الثاني وبدرجات منخفضة للغاية، ولكن بدءاً من السنة الثالثة تغير أداءه بسبب تشجيع معلميه له مما حفزه للجد في الدراسة وابتداء عهد تفوقه المستمر في باقي سنوات دراسته حيث حصل على شهادة الثقافة ثم على شهادة التوجيهية أدبي فلسفة ليتخرج منها عام 1955م[11]. وقد بدأت مواهبه في الكتابة خلال تلك المرحلة، حيث: أصدر وهو في السنة الأولى الثانوية مجلة مكتوبة بخط اليد، وشارك في تحرير مجلة دمنهور الثانوية المطبوعة؛ والتي شهدت أول مقال منشور له عن (السلام)، كما بدأ يراسل العديد من الصحف[12]، وخلال تلك الفترة بدأت معالم شخصيته تتكون من خلال الخبرات التي مر بها، ومن أهمها:
1- الانخراط في الحياة السياسية
بدأت ميول المسيري السياسية واهتمامه بالشئون المصرية في سن السابعة من عمره حيث كون وهو رفاقه جمعية لمقاومة الاحتلال[13]، ومع دخوله المرحلة الثانوية انخرط بقوة في الحياة السياسية في دمنهور حيث كانت مصر في تلك الفترة ملأى بالأحداث الكبيرة وبالزخم السياسي الضخم، وكان الطلبة يتفاعلون معها بشتى طرق العمل السياسي الممكنة لهم، مثل: مقاطعة البضائع الإنجليزية، والمشاركة في المسيرات والمظاهرات والعملية السياسية والانتخابية، وقد ظلت تلك آثار الفترة راسخة في وجدانه وممارسته العملية طيلة حياته فيما بعد حتى وفاته، فعلى الرغم من انهماكه في العمل الفكري بالدرجة الأولى إلا أنه ظل يشارك في كل محطات النضال السياسي في حياة أمتنا العربية والإسلامية[14].
2- الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين
انضم المسيري إلى جماعة الإخوان المسلمين لفترة قصيرة لا تتجاوز العامين عندما بلغ عمره الثانية عشرة ونشط بداخلها فكان: يؤذن للصلاة في شعبة الإخوان في دمنهور، ثم امتد نشاطه إلى قرية بجوار دمنهور حيث كان يؤم الناس في الصلاة ويخطب فيهم الجمعة، لكن سرعان ما انهالت عليه الأسئلة التي بدأت في تقويض إيمانه البسيط مما عجل بخروجه منها سريعاً لأنه لم يجد في برنامجها، حينذاك، ما يجيب على كل تلك الأسئلة الفكرية والسياسية التي بدأت تشغل باله، وقد تركت هذه المرحلة في نفسه صورة معينة عن جماعة الإخوان جعلته يحترمها لكن دون أن ينضم إليها[15].
3- بدايات الشك
بدأ المسيري دراسة الفلسفة في آخر سنوات دراسته الثانوية وواكب ذلك بداية انشغاله بكثير من الأسئلة الأساسية عن أصل الكون والموت والخير والشر والتي هاجمت عقله بإلحاح شديد، ولم يستطع أحد في أسرته أن يأتيه بإجابة شافية مركبة لهذه التساؤلات، وعجز أقرانه عن محاورته فيها، وكان رد مدرس اللغة العربية على تساؤلاته تلك بسيطاً ساذجاً تركه وحيداً لم يشف له غليلاً بل قوض إيمانه، حتى انتهى به الأمر إلى قراره بالامتناع عن الصلاة والصيام حتى يجد إجابة عن أسئلته تلك[16].
خاتمة
يتبين من هذا العرض المختصر لنشأة المسيري وأصوله الاجتماعية وتعليمه وميوله الدينية وبذور توجهاته الفكرية حتى المرحلة الثانوية، أن علاقته بوالده ووالدته قد تركت أثراً كبيراً في شخصيته وتفكيره ظل ملاصقاً له طوال حياته، فقد كان الاختلاف الواضح بين شخصيتيهما من الأمور التي أثرت شخصيته ووجدانه وتفكيره حيث كانا على طرفي نقيض تماماً، ففي حين كانت أمه مثالاً للتراحم وقيم المجتمع التقليدي فورث منها هذه الروح التراحمية التقليدية، كان أبوه على العكس مثالاً على الديناميكية والتعاقدية والطموح المادي فورث عنه الجلد والديناميكية والمقدرة على الانفصال عن اللحظة دون التعاقدية والطموح المادي وهي الصفات التي أفادته كثيراً جداً فيما بعد، فقد تركت التربية العصامية التي ورثها عنه أثراً واضحاً في مسيرته العلمية فجعلته باحثاً مثابراً وأنتفع بها كثيراً عندما سافر إلى الولايات المتحدة حيث لم يكن له دخل يكفيه لتغطية نفقاته ولم يكن من الممكن تحويل أي أموال من مصر فاضطر للعمل خفيراً في مصنع في الولايات المتحدة وما كان بوسعه أن يتحمل ذلك دون تلك التربية الصارمة، بل إن تلك التربية كانت عاملاً رئيسياً في إنجازه لموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية على مدى ربع قرن من المثابرة التي لا تعرف الكلل[17]، كما أن تربيته في ظل الأسرة الممتدة جعلته يقًدر عالياً قيمة الأسرة ودورها الأساسي في تحقيق السواء النفسي للفرد والتوازن الاجتماعي للمجتمع والقوة والمنعة للأمة، وكانت البذرة التي نمت عليها جذور رؤيته للأسرة والتي أدرك من خلالها الفوارق الهائلة بين الرؤية الإسلامية والغربية لقضايا المرأة والأسرة.
كما يظهر جلياً أن البيئة التي نشأ فيها قد أسهمت في تشكيل توجهاته الحياتية وحياته العقلية والإيمانية المستقبلية، فقد كان إيمان مجتمعه البسيط الذي واجه عقلاً متفتحا طُلعة ميالاً للتساؤل وللتفلسف هو الذي عجل بتحول سريع في نمط تفكيره وإيمانه جعله ينتقل من طمأنينة الإيمان الريفي البسيط إلى مرحلة الشك، كما كانت مرحلة الاضطراب والتشوش والشك الناتجة عن الانفتاح العقلي الذي وفرته له دراسة الفلسفة هي البذرة الأولى التي بذرت بذور التساؤل الدائم لديه واهتمامه بالمعرفي أكثر من المباشر الآني في تعامله مع قضايا حياته وأمته والتي أدت في النهاية لتكوين نموذجه المعرفي الإسلامي الذي يظهر في مؤلفاته في المرحلة الإسلامية.
كما كونت الأنشطة السياسية المتنوعة التي شارك فيها قناعة لديه على ضرورة المشاركة في اللحظات الحاسمة في حياة أمته فيما بعد، وظلت حكايات الطفولة ملازمة له طيلة مسيرته فيما بعد وأسهمت بشكل مباشر في إنتاجه الفكري للأطفال الذي كان موجهاً لأطفاله في المبتدأ ثم عمم نشره لأطفال أمته فيما بعد.
وكانت دراسته التي تميزت في غالبها بصورة إيجابية عن المدرسة والمدرسين فيها؛ إلا القليل من النماذج التي خرجت عن السواء، إحدى خزانات الخبرة التي استفاد منها فيما بعد في تعامله مع تلامذته في الجامعة وتلامذة فكره، وفي أطروحاته لإصلاح التعليم[18]، وفي المجمل يمكن القول بأن هذه البيئة بثرائها الكبير كانت بداية تشكيل بذور المسيري المفكر فيما بعد.
[1]المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر. ط1. القاهرة: دار الشروق، 2005م، ص10، ص15، ص22-23.
[2] المصدر نفسه، ص167.
[3]المصدر نفسه، ص62-63، ص95، ص117.
[4] المصدر نفسه، ص61-62.
[5] المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، ص32-33، ص62-64.
[7]المصدر نفسه، ص44، ص114-115.
[9] المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، ص47-48.
[10] المصدر نفسه، ص36-42.
[12] المصدر نفسه، ص17، ص48.
[14]المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، ص18، ص34-35.
[17] حرفي، سوزان. حوارات الدكتور عبد الوهاب المسيري: الثقافة والمنهج. ط1. دمشق: دار الفكر، 2009م، ج1، ص20.
[18] المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، ص 114-115.