في ذكرى الشيخ أحمد حماني: العالم المجاهد المجتهد
بقلم أ. د. عبد الحميد عبدوس
مرت في الأسبوع الماضي (الاثنين 28 جوان 2021) الذكرى الثالثة والعشرون لرحيل فقيه الجزائر العلامة المجاهد الشيخ أحمد حماني – رحمه الله- الذي التحق بجوار ربه في 28جوان1998 بعد مرض عضال ألزمه الفراش لعدة شهور، كان العلامة الشيخ أحمد حماني أول من أفتى في العالم الإسلامي في العصر الحديث بجواز نقل الأعضاء البشرية لأغراض طبية. وهي الفتوى التي اعتمدها مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي. وقد مثل الشيخ الجزائر في العديد من المؤتمرات والملتقيات والندوات الدينية والفكرية في العديد من الدول الإسلامية والعواصم العالمية.
عاش الشيخ حماني زاهدا مترفعا عن متاع الدنيا، رغم أنه تقلّد ـ رحمه الله ـ عدة مناصب رفيعة في الدولة، فبعد استرجاع الاستقلال الوطني شغل في1963منصب مفتش عام للتربية والتعليم في الشرق الجزائري، وكان من أوائل الأساتذة في الجامعة الجزائرية في بداية الستينيات مدرسا لمادة الأدب العربي لمدة عشر سنوات من 1962 إلى 1972، وفي سنة 1972 استدعي لرئاسة المجلس الإسلامي الأعلى حتى سنة 1987، وفي سنة 1973 انتخب عضوا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ثم انتخب عضوا مؤسسا للمجلس الأعلى العالمي للمساجد، عاد في الثمانينيات إلى جامعة الجزائر لتدريس مادة الشريعة كما ترأس لجنة تصحيح المصاحف بوزارة الشؤون الدينية، وبعد إعادة بعث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى النشاط في سنة 1991 انتخب من طرف إخوانه العلماء رئيسا لها وتولى إدارة جريدة (البصائر) لسان حال الجمعية في سلسلتها الثالثة من 1992 إلى ماي 1993.
ولد الشيخ أحمد حماني في23 شوال 1330 هـ الموافق 6 سبتمبر1915 بدوار بني عيشة ببلدية العنصر، دائرة الميلية ولاية جيجل، وبمسقط رأسه تعلم القرآن والمبادئ الأولى في الفقه وأصول الدين، ومن أجل تمكينه من إكمال دراسته قبل أن تدركه الخدمة العسكرية، قام والده الشيخ محمد وهو من أعيان منطقة جيجل بتغيير تاريخ ميلاد ابنه أحمد من 1915 إلى سنة 1920، وبعد بلوغ الخامسة عشر من عمره سافر إلى قسنطينة في سنة 1930 فأتم حفظ القرآن الكريم بكتاب سيدي أمحمد النجار ثم انخرط في سلك طلبة الإمام عبد الحميد ابن باديس ابتداء من أكتوبر 1931 إلى سبتمبر 1934، وأتقن في مدة 3 سنوات مواد الدراسة الابتدائية، كما حضر بهذه السنة لأول مرة اجتماعا عاما لجمعة العلماء وانخرط فيها كعضو عامل. واصل الشيخ حماني تعليمه العالي بجامعة الزيتونة بتونس، حتى حصل على الأهلية في 1936، ثم على شهادة التحصيل في 1940، وعلى شهادة العالمية في سنة 1943. انتخب أمينا عاما لجمعية الطلبة الجزائريين بتونس. سخر العلامة أحمد حماني حياته لخدمة الإسلام والعربية والجزائر، فكان من أنجب تلاميذ الإمام عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الجزائرية، وأوفاهم لتعاليمه ومنهج مدرسته الإصلاحية وروحه الوطنية الثائرة، وظل الشيخ حماني وفيا لمبادئ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تعلم في مدارسها وعلم في معاهدها وناضل في صفوفها وكتب في جرائدها (الشهاب) و(البصائر).
لم تنمح من ذاكرة الشيخ أحمد حماني بشاعات جرائم الاحتلال الفرنسي في حق الشعب الجزائري وذلك منذ حملة الجنرال السفاح سانت آرنو على منطقة جيجل في سنة 1851 حيث قامت القوات الفرنسية بحرق أكثر من 100 قرية وقتل أكثر من 1500 شخص في الأيام الأولى من الحملة، ولكن سياسة الرعب والترويع التي انتهجها قادة الاحتلال لم تفت في إرادة المقاومة عند أجداد الشيخ حماني الذين تصدوا رغم الفارق المهول في العدد والعتاد مقارنة بقوات الجنرال سانت آرنو وألحقوا بعساكره خسائر كبيرة في معركة «الركابة» الشهيرة بمنطقة بني عيشة ببلدية العنصر، واستطاعوا القضاء على ما يزيد عن 50 عسكريا وإصابة 200 جريح!
اشتهر الشيخ أحمد حماني -رحمه الله- بشدة بغضه للمحتل الفرنسي إلى درجة أنه حاول في تونس تأسيس شبه جيش من الشباب الجزائري في سنة 1944 والتحالف مع القوات الألمانية لطرد فرنسا من الجزائر. وبعد عام من العمل السري تمكنت قوات الاحتلال الفرنسي من إلقاء القبض على الشيخ أحمد حماني، وقدم إلى المحاكمة التي وقعت في 20 مارس 1945 مع جمع من زملائه الطلبة، وبعد تدخل جمعية العلماء وأهل قسنطينة وتقديمهم لرشاوى ضخمة حكم على المقبوض عليهم بالبراءة أو بأحكام خفيفة، ونجوا من العذاب الشديد الذي كانوا سيتعرضون له لولا تدخل الجمعية وتعيين محامين بارعين للدفاع عن الشيخ حماني وزملائه.
بعد اندلاع ثورة نوفمبر 1954 انخرط الشيخ أحمد حماني في ملحمة الجهاد وألقي عليه القبض في 11 أوت 1957 بالعاصمة، ولبث27 يوما في العذاب و بعد محنة التنكيل وصنوف التعذيب على يد قوات المحتل، وقدم أمام المحكمة العسكرية التي أصدرت ضده عقوبة الأشغال الشاقة، ونقل إلى السجن المركزي بتازولت “لمبيس”، حيث بقي هناك الى يوم 4 أبريل 1962.
في سجن تازولت بباتنة أنشأ مع إخوانه المجاهدين حركة تعليم منظم، وكون طلبة أتم بعضهم دراسته، وفي عام 1960 تعرض إلى محاولة الاغتيال داخل السجن، وبسببه وقع الإضراب العام من جميع المساجين بسبب خطبة يوم عيد النحر، وتوج هذا الإضراب بحصول المساجين على حقوق المساجين السياسيين، وأصبحوا يتمتعون بحق سماع الإذاعات و قراءة الصحف، وهذا في 1961. وبعد افتكاك الانتصار على المحتل الفرنسي في 1962 عين الشيخ أحمد حماني عضوا في اللجنة المسؤولة عن التعليم في مدينة قسنطينة، ومديرا لمعهد ابن باديس الذي أسسه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
خلال سنوات الفتنة الوطنية، ومحنة العشرية السوداء ظل الشيخ أحمد حماني محافظا على موقفه الداعي إلى وأد الفتنة وحقن الدماء ونبذ العنف وتفضيل مسعى الصلح والمصالحة بين الجزائريين، لقد جلب له هذا الموقف الشجاع والمتبصر الكثير من المتاعب والعداوات والانتقادات في أوساط فرقاء الأزمة وأنصار المواجهة وتغليب منطق الصدام، وحتى قبل هذا التاريخ، أي قبل الدخول في نفق الأزمة الدموية، كان منتقدو الشيخ حماني يتهمونه بالخضوع لرغبات النظام والإفتاء حسب توجيهات السلطة السياسية وأحسن من رد على كل هذه الافتراءات والأباطيل فضيلة الشيخ الجليل الطاهر آيت علجت بقوله: «إن الشباب الذين ينقمون على الشيخ أحمد حماني ولاءه للسلطة أصبحوا بعد موته يقرؤون كتبه التي يجدون فيها كنوزا عظيمة يجادلون بها ويقدمونها لأنهم أدركوا أنه كان علامة وأنه كان وطنيا وطنية صحيحة».
الأستاذ محمد الصغير بلعلام الإطار السابق بوزارة الشؤون الدينية قال: «طلب منا عند تأسيس الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط إصدار فتوى لتشجيع الناس على وضع أموالهم في الصندوق، غير أن حماني رفض ولم يصدرها، وعقدنا اجتماعا درسنا الموضوع وقال بأن وضع الأموال في الصندوق يدخل ضمن الربا، كما رفض إصدار فتوى تبيح إنتاج «بيرا» بدون خمور سنة 1973 تحت اسم (مالطا) ورغم الضغوط التي خضع لها أصر على تطبيق القاعدة الفقهية القائلة : ما أسكر كثيره فقليله حرام».
ترك الشيخ العلامة الفقيه المجتهد أحمد حماني تراثا غنيا من الفقه والفتاوى والدراسات والمقالات الفكرية والصحفية، كما خلف ذرية صالحة جيدة التعليم حسنة التربية. فرحم الله الشيخ أحمد حماني ورضي عنه.
(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)