كما عايشت في نفس الشهر من عام 2016 الانقلاب الخامس في تاريخ تركيا، والذي فشل فشلا ذريعا في أي مهمة كان مكلفا بها، والتي كان على رأسها قتل الرئيس المنتخب رجب طيب أردوغان، وعودة العسكر والعلمانيين لتصدر المشهد مرة أخرى، وبالطبع وقف النهضة التركية ووأد مشروع تركيا الحديثة والذي يُنتظر أن تبدو ملامحه في 2023.
فأردت هنا أن أسلط الضوء على بعض الفوارق التي عاينتها بين الانقلابيين المصري والتركي، كما أشير إلى اختلاف المآلات بين الدولتين، وخاصة على مستوى الجيش والقوات المسلحة التي تُعد الدرع الحامي ومصدر الاحترام لأي بلد.
أولا: من جهة الاستعداد
1- لاحظت أن النخبة التركية لم تساهم في تغييب وعي الجماهير، حيث حرصت على تثبيت معنى أن كل ما حصل في 1960، 1971، 1980، 1997 كانت انقلابات عسكرية ضد إرادة الشعب التركي، ومن ثم ظل الشعب التركي مستحضرا جرائم العسكر خلال هذه العقود، مما يقوي الرغبة في التخلص من سيطرتهم على مقاليد الحكم في البلاد. وفي المقابل عمدت النخبة المصرية لتمجيد الجيش واعتبار ما حصل عام 1952 ثورة عظيمة قام فيها الجيش بمساندة الشعب وتحريره من الاحتلال، وعادت النخبة لنفس عملية الخداع والتزوير عندما رفعت شعار (الجيش والشعب إيد واحدة) وأحسنت الظن في المؤسسة العسكرية في أعقاب ثورة يناير، مما ساهم في تهيئة شرائح كبيرة من الجماهير المصرية لاستقبال انقلابه على أنه فتح من الله ونصر مبين.
2- رغم مرور أكثر من 14 عام على وجود حزب العدالة والتنمية على رأس السلطة في تركيا، إلى أنهم لم يأمنوا جانب العسكر لحظة واحدة، وقد ذكر أخونا المؤرخ محمد إلهامي أنه ما قابل أحدا من المسؤولين الأتراك إلا وأخبره أنهم يتوقعون حصول انقلاب عسكري في أي لحظة، ومن ثم استعدوا لمواجهته. وفي المقابل ظلت جماعة الإخوان المسلمين توهم أتباعها بأن أمريكا لن تسمح بإجهاض أول تجربة ديمقراطية في مصر، وأن فكرة الانقلاب مجرد وهم في رأس حازم صلاح أبو إسماعيل، وكانت الكارثة الكبرى أن تصدر جريدة الحرية والعدالة قبل الانقلاب بساعات بعنوان: (الجيش يبدأ الانتشار لحماية الشرعية)!!
3- أظن أن عملية اعتذار أردوغان لروسيا وتحسين العلاقات بين البلدين، كانت استباقا لما كان متوقعا داخل الأروقة التركية لحصول الانقلاب في هذا التوقيت، فمن الفطنة إذا توقع الحاكم خيانة وغدرا من الداخل أن يوقف معاركه الخارجية أو يؤجلها، حتى لا يجد نفسه محاصرا داخليا وخارجيا مما يضعف إمكانية انتصاره، فقد قدم الرئيس التركي اعتذاره للرئيس الروسي بتاريخ 27 / 6 / 2016، أي قبل الانقلاب بثمانية عشر يوما فقط، وبما أن أي انقلاب في تركيا لا يتم إلا بموافقة ودعم من أمريكا، فكان من الطبيعي أن تبادر تركيا بتحسين علاقتها مع روسيا. وفي المقابل لم يتمكن الرئيس مرسي من ضبط العلاقات الخارجية بشكل جيد، وظل مطمئنا للأمريكان دوليا وللسعوديين إقليميا، وظهر بعد ذلك أنهما أكبر داعمين لانقلاب السيسي، ولعل الشكل البارز الذي ظهر به الرئيس مرسي في دعمه للثورة السورية كان السبب الأكبر لتخلي الروس والإيرانيين عنه وتركه لقمة سائغة للانقلاب الأمريكي السعودي.
ثانيا: من جهة التعامل المباشر وقت الانقلاب
1- في تركيا برز الحرص على سلامة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وظهورهم إعلاميا بشكل مكثف، حتى اضطر الرئيس أردوغان للتحرك من الفندق الذي كان يقيم فيه في مارماريس دون موكبه الرئاسي، كإحدى وسائل الخداع، كما بدأ ظهوره الإعلامي بطريقة غير معتادة عن طريق مكالمة مصورة عبر تطبيق الفيس تايم. وفي المقابل استسلم الرئيس محمد مرسي بشكل كامل للأسر والبقاء وسط خصومه وأعدائه، وهو ما مثل نقطة ضعف شديدة في صفوف أنصاره ومؤيديه.
2- استعمال خطاب تعبوي صدامي متوافق، حيث صرح أردوغان بأن القوات والآليات التي نزلت إلى الشوارع ليست تابعة للشعب التركي، بما يعنى أنها تشبه الاحتلال، وهي دعوة صريحة للتعامل معها بالقوة، كما أصدر رئيس المخابرات أوامره لجنوده بالاشتباك حتى الموت، إضافة إلى تصريح رئيس الوزراء بأن الفاعلين لابد أن ينالوا عقابهم. وفي المقابل تمسكت قيادات جماعة الإخوان بشعار السلمية، بل قامت بتجويده وتحسينه حيث أصبح (سلميتنا أقوى من الرصاص)، وأصروا على هتاف (الجيش المصري بتاعنا .. والسيسي مش تبعنا)، مما كان له أكبر الأثر في منع ووأد أية محاولات حقيقية لمقاومة الانقلاب في مهده.
3- التجاوب الشعبي السريع مع مطالبة الرئيس أردوغان لهم بالخروج إلى الشوارع، وعدم الاكتفاء بالتظاهرات والاعتصامات، بل بالذهاب مباشرة للأماكن الحساسة التي سيطرت عليها قوات الجيش، رغم الخطورة الشديدة ووجود قتلى وجرحى منذ اللحظات الأولى للانقلاب، وقد ساعد التحرير المبكر لبعض هذه الأماكن في الفت من عضد الانقلابيين وإضعاف معنوياتهم. وفي المقابل ورغم حصول تجاوب شعبي كبير في مصر، بل إنني أزعم (حسب ما رأيت بعيني وعايشت بنفسي) أن الحشود في مصر كانت أكبر منها في تركيا، لكن تم توجيههم وحصرهم في ميداني رابعة والنهضة بعيدا عن مفاصل ومؤسسات الدولة، وهو ما أعطى الفرصة للانقلابيين في تثبيت أقدامهم وسيطرتهم الكاملة على دوائر الحكم، ثم بعد ذلك لم يكن عندهم أي مانع من فض الاعتصامات بالقوة وإحداث المجازر التي لم تهز شعرة في ضمير نظام عالمي لا يعترف إلا بالقوة وفرض السيطرة.
4- في تركيا تحرك المخلصون من قوات الأمن والمخابرات بشكل سريع لمواجهة الانقلابيين في أماكن انتشارهم، إضافة إلى اعتقال كل المشتبه بهم، مع إجراء تحقيق فوري والقبض على كل من يتم الاعتراف عليه بأنه مشارك في عملية الانقلاب. وفي المقابل كانت هذه الأجهزة متواطئة مع السيسي في انقلابه، ولم يجد المخلص منهم أي دعوة أو محفز للخروج على قيادته وعصيان أوامرها.
5- التحرك الشعبي المفاجئ لمحاصرة كل معسكرات الجيش؛ لمنع تحرك أي آليات عسكرية أخرى، وقد تم الاستعانة باللوادر والعربات النقل الخاصة بالبلديات، فضلا عن الباصات والسيارات الخاصة لإغلاق كل أبواب هذه المعسكرات، وقد شاهدت بعيني في اسطنبول استمرار هذه الحالة لأكثر من شهر حتى بعد إعلان فشل الانقلاب. وهو مالم يحصل في مصر.
6- ظهور الرموز السياسية والقيادات السابقة لحزب العدالة والتنمية (عبد الله جول وأحمد داود أغلو) بتصريحات واضحة وصريحة تفيد رفضهم وإدانتهم للعملية الانقلابية، كما لم تتخلف المعارضة العلمانية عن مشهد رفض الانقلاب وإعلان دعمهم للقيادة المنتخبة. وعلى العكس تماما كانت الرموز والقيادات السابقة في جماعة الإخوان المسلمين في مصر داعمة ومؤيدة للانقلاب، شامتة فيما حصل للجماعة وأتباعها، كما وقفت المعارضة العلمانية موقفا مصلحيا متوهما، وخالفت مبادئها المعلنة، حيث ساندت الانقلاب مبكرا، بل كان هناك من رموزهم من يطالب بالانقلاب صراحة قبل حصوله.
7- في تركيا شاركت الشؤون الدينية والحركات السلفية والاتجاهات الصوفية في مواجهة الانقلاب، مع عدم ظهور قوى شعبية مؤيدة للانقلاب. في حين أننا وجدنا الأزهر وسلفية برهامي ورسلان والصوفية في مصر يشاركون في الانقلاب، مع وجود غطاء شعبي ممثل في مظاهرات ميدان التحرير وحركة تمرد تؤيد للانقلاب.
إذن.. فالمتابع لردة فعل الأتراك منذ اللحظات الأولى للانقلاب، يدرك أن الأمور لم تكن عفوية، بل كانت كلها وفق خطة كاملة معدة مسبقا من الرئيس ومعاونيه (وهذا أهم الفوارق بين مواجهة الانقلاب في مصر ومواجهته في تركيا). وفي المقابل كانت ولازالت العشوائية والارتجالية هي سيدة الموقف رغم مرور أكثر من أربع سنوات على الانقلاب في مصر.
ثالثا: مآلات جيشي الانقلاب
بعدما فشل الانقلاب في تركيا ونجح في مصر، رأينا وسائل الإعلام المصرية تصيح وتنعق: (انظروا لأردوغان كيف يهين الجيش)، و(الميليشيات التابعة لأردوغان تحط من مكانة الجيش التركي)، و(لن تفلح تركيا بعد إهانة جيشها) إلى آخر هذه التُّرَّهات العقيمة. وبعد قليل من نجاح السلطة المنتخبة في السيطرة على مجريات الأمور، حدثت تغييرات جذرية في بنية الجيش التركي، بحيث يظل الجيش خاضعا للإرادة الشعبية، ويبقى بعيدا تماما عن السياسة، وكانت أولى ثمرات ذلك هي عملية درع الفرات، التي دفعت العالم لاحترام الجيش التركي، إضافة لزيادة معدل التصنيع الحربي المتطور والذي تسعى من خلاله السلطات التركية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الصناعات الدفاعية.
وفي المقابل وعلى الجهة الأخرى التي زعم إعلامها أن تركيا أصبحت دولة بلا جيش، رأينا بعد الانقلاب مباشرة اختراع الكفتة الذي يعالج فيروس سي C من إنتاج وتصميم وإخراج اللواء عبعاطي، في كارثة وفضيحة علمية غير مسبوقة، ثم كان مشروع الفنكوش الوهمي الذي زعم قائد القوات البحرية السابق (رئيس هيئة قناة السويس حاليا) أنه سيدر على مصر دخلا سنويا يصل إلى 100 مليار دولار!!! وفي ذات الوقت الذي يضربون فيه أخماس في أسداس داخل سيناء حال مواجهاته مع تنظيم الدولة هناك.
والخلاصة: إن الجيش التركي الذي فشل في انقلابه حصل على شهادات عالمية بأنه أقوى جيش في الشرق الأوسط (بعد جيش الكيان الصهيوني)، وأن صناعاته تواكب وتنافس صناعات الجيوش الكبرى في العالم، شأنه في ذلك شأن جيوش الدول المحترمة التي لا تعرف طريق الانقلابات، في حين أن الجيش المصري الذي نجح في انقلابه مازال ينافس مصانع الكعك والبسكويت، وتطوَّرَ ليحتكر لبن الأطفال، فضلا عن زيادة عدد منافذ توزيع اللحوم والسلع التموينية!! حتى أظن أنه تصدر قائمة الجيوش في الحصول على السخرية والاستهزاء.