مقالاتمقالات مختارة

في تحرير دين اللهِ من وصاية الناس.. عن معركة الدين الحقيقية

في تحرير دين اللهِ من وصاية الناس.. عن معركة الدين الحقيقية

بقلم أحمد التلاوي

يواجه الإسلام -في العصر الحالي- الكثير من المعارك الكبرى والتحديات التي تفرض علينا البحث عن طرائق جديدة في الدعوة والعمل الإسلامي.

إلا أنه -ووفق حصيلة تجارب ومشاهدات كثيرة شهدتها العقود القليلة الماضية- فإن من بين أهم معارك هذا الدين، هي تحريره من وصاية الناس، وبخاصة فيما يتعلق بضرورة الوصول بصورة الدين ومفاهيمه إلى الآخر الذي يمثل مجتمع الدعوة في كل مكان من أرجاء هذا العالم، بصورة أكثر توحيداً، وأكثر اشتباكاً مع قضايا الواقع، وأكثر اتساقاً مع مستجدات العصر، لا سيما في عصر العلم.

ويكتسب ذلك الأمر أكثر من وجهٍ للأهمية في ظل إصرار بعض المدارس الدعوية على الأساليب التقليدية التي تنطلق من فرض فهم أو رؤية للدين وأحكامه من زاوية مدرسة فقهية أو مذهب بعينه، مع عدم ترك المجال أمام الآخر للأخذ من الفتاوى والاجتهادات المختلفة بما يتلاءم مع الحالة أو الظرف القائم.

فأغلب مجتمعات الدعوة، والعالم كله مساحة للدعوة لدين اللهِ تعالى، إنما هي صارت فيها قِيَم مركزية مثل الحرية الفردية والعقلية النقدية، مع حالة من السيولة في المعلومات، بشكل لم يعد من الممكن معه استخدام خطاب الإلزام من دون مبدأ أقره الإسلام، وهو الإقناع العقلي والنقاش.

إن معركة الدين الحقيقية التي يجب على المتدينين خوضها هي تنقيته مما أدخله البشر عليه، وتحريره من سطوة أي عقل أو فعل بشري قاصر، أو عادات وتقاليد ليست من صحيح الدين، أو نصوص ومتون لا تمت إلى الواقع المُعاش بصِلَة، أو كانت عُرْضَة في قديم أو حديث لتأثيرات الحاكم المستبد.

إن معركة الدين الحقيقية التي يجب على المتدينين خوضها هي تنقيته مما أدخله البشر عليه، وتحريره من سطوة أي عقل أو فعل بشري قاصر، أو عادات وتقاليد ليست من صحيح الدين، أو نصوص ومتون لا تمت إلى الواقع المُعاش بصِلَة، أو كانت عُرْضَة في قديم أو حديث لتأثيرات الحاكم المستبد

ويعني ذلك أن نعيد الدين إلى مصدره الإلهي فحسب، وأن يعود الدين كله لله تعالى، كما قال القرآن الكريم، لا كما حصل عبر قرون طويلة، من أنْ جُعِلَ الدين للحاكم أو لزعامة روحية أو لأي شيء آخر غير اللهِ تعالى.

وخطورة تلك الحالة، وأهمية العمل على السير عكس اتجاهها، لا يكمن في تحولات الحاضر، المجتمعية والعلمية والفكرية على مستوى الإنسانية، وإنما نجد علامات كثيرة عليه في الماضي.

ولا تقف هذه المشكلة عند الحالة الإسلامية؛ لأن الدين -غالباً ما كان ولا يزال– يستغل كأداة من أدوات التأثير السياسي والمجتمعي من قبل كثير من القوى والحكومات والجماعات .

فهذا الذي نقول، عانت منه أوروبا في كهنوت الكنيسة الكاثوليكية على مدار قرون، وعندما تكلَّم ماركس وقال: “الدين أفيون الشعوب” إنما كان جذر أسباب قوله ذلك أنه كان تحت تأثير مماثل لما نراه في فضائنا الإسلامي، تأثير تجربة تاريخية طويلة، سطا فيها البشر على الدين، مما جعله سنداً للاستبداد المروِّع الذي عرفته أوروبا طيلة قرون طويلة باسم الدين، وسُفِكَتْ لأجله دماء الملايين طيلة قرون طويلة من الحروب الدينية والإقطاعية، كان البابا وسلطة الكنيسة فيها، وكذلك الحاكم، الملك أو الإقطاعي، هم “ظل اللهِ في الأرض”، و”حُماة العقيدة”.

إن تحرير الإسلام من سطوة الأنظمة المستبدة، وأن تبقى لفئة الفقهاء والدعاة والمفتين، صفتهم الحقيقية المذكورة في القرآن الكريم، التنوير والنصيحة والتوجيه، لا صفة الوصاية والحكم على عقائد الناس ونواياهم هي أهم ما ينبغي أن نضعه على أجندة العمل الإسلامي.

إن تحرير الإسلام من سطوة الأنظمة المستبدة، وأن تبقى لفئة الفقهاء والدعاة والمفتين، صفتهم الحقيقية المذكورة في القرآن الكريم، التنوير والنصيحة والتوجيه، لا صفة الوصاية والحكم على عقائد الناس ونواياهم هي أهم ما ينبغي أن نضعه على أجندة العمل الإسلامي

إن هذه الصفة -الهداية والتنوير- كانت لرُسل اللهِ تعالى وأنبيائه أنفسهم، كما في عشرات الآيات في القرآن الكريم مِن أنه ما على الرسول إلا البلاغ المبين، وما هو بمسيطر على الناس، وأن الحكم على نوايا وعقائد البشر وإيمانهم من عدمه، والحساب بالتالي، هو لله تعالى وحده.

فيقول تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99]، ويقول أيضاً: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40].

ويقول عَزَّ مَن قائل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، ويزيد في قرآنُه العظيم في ذلك قولَه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22، 23]. فمن باب أولى ألا يمنح بشريٌّ نفسه حقوقاً أكبر من حقوق الأنبياء والرُّسُل وعلى رأسهم محمد -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- التي منحها اللهُ -تعالى- لهم والتي هي -في الأصل- من صميم حقوق اللهِ تعالى واختصَّ به ذاته العَلِيَّة فقط.

نحو أنْ يكون الدينُ كلُّه لله:

يقول اللهُ تعالى في كتابه العزيز: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].

جاءت هذه الآية في سياق حَدَثِي يخص صراع الجماعة المسلمة الأولى مع أئمة الشرك والكفر والطغيان.

والمعنى المقصود في الآية، هو إظهار الدين كما أراده اللهُ تعالى -لا كما أراده هؤلاء- عندما دعا هؤلاء -الكُفَّار والمشركون- الرسولَ الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- للمداهنة في دينه، وتغييره بما يتفق مع مصالحهم في الزعامة والتجارة.
وأهمية مواجهة ذلك وإقرار الدين كما أنزله اللهُ تعالى في تتمة الآية، “حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ”.

والفتنة هنا، هي فتنة الناس في دينهم والسعي إلى تبديله وتبديل عقيدتهم -كما قال المفسِّرون- وهذه ليست من أكابر الأمور الشريرة فحسب، وإنما هي أسوأها، فكل ما يحصل -منذ بدء الخلق، وبعثات الرسل والأنبياء- إنما هو من أجل إقرار عقيدة التوحيد، وإقامة شعائر اللهِ تعالى في الأرض، والكون كله مُسَخَّر لذلك.

هذا الذي فعله صناديد الكفر والشرك في بادية العرب وقت البعثة النبوية قبل ظهور الإسلام على كامل شبه الجزيرة العربية في نهاية البعثة النبوية، حاوله الكثيرون عبر التاريخ، من قادة وزعامات دول وجماعات، حتى وصل الأمر إلى أنْ قتل الناس بعضهم البعض، بل وإلى الكفر والإلحاد -والعياذ بالله- لا لشيء إلا لمصالح وأهواء، وليس لمصلحة الدين ونقول مثلاً: إن هؤلاء اجتهدوا وأخطأوا.

إن هؤلاء قد تبرَّأ اللهُ تعالى منهم، وقال إن رسوله -عليه الصلاة والسلام- في براءة منهم.. يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] وهؤلاء معاملتهم بمنطق القرآن الكريم، أن نقاتلهم على الدين حتى إما أن ينتهوا أو يفنوا.

إن البراءة في القرآن الكريم لم تكن فقط فيمَنْ عاهد الرسول -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- والمسلمون الأوائل من المشركين، كما في مطلع سورة “التوبة” فحسب، وإنما كانت في حق كلِّ مَن فتن الناس في دينهم، وفرَّقهم شيعاً.

ويفرض علينا ذلك مجموعة من الأمور في الجانب العملي، من أهمها التجرد في معالجة القضايا التي تتناول الشريعة الإسلامية أو الفكر الإسلامي.

ويتطلب ذلك معرفة أصول الدين، وفهم أن الدين إنما هو ما جاء به محمد بن عبد اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وحياً وفهماً، ووجَّه جماعة المسلمين إليه، وأقرَّهم عليه، وأن أي شيء خارج هذَيْن الأصلَيْن (القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية) إنما هو اجتهاد قابل للمراجعة والتغيير ، وأن تطبيق أحكام هذَيْن الأصلَيْن يكون خاضعاً لقواعد أقرها القرآن الكريم، وسار عليها كبار الأئمة بعد ذلك، وعلى رأسها مبدأ أنه لا يوجد حكم شرعي واحد غير متصل بسبب، ومتى انتفى هذا السبب فإن الحكم لا يقع، وبالتالي، فإن الفتوى متغيرة بتغيُّر الظروف.

وبالتالي، يكون أخْذ الأحكام من المصادر المعروفة (القرآن والسُّنَّة وما يندرج تحتهما) مع احترام اجتهادات العلماء والدعاة، والأخذ بها لكن دون تقديس للأشخاص، وفي حال وجود ما هو أفضل من آرائهم -مما لا يُصادِم ثابتاً من ثوابت الشريعة- فلا مانع من الأخذ بالرأي الثاني ولو كان الآخر من جماعة أو مذهب فقهي، أو يخالفنا في الرؤية السياسية، طالما أنه ينطلق من منطلقات صحيحة، ويجلب خيراً أعم وأدوم.

وهذا نجده عند أجدادنا، وقد نفذه الأئمة الكبار، وتلاميذهم ممَّن فهموا جوهر الدعوة والعمل في مجال الإفتاء وتفسير القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، واستنباط الأحكام منهما.

هذه معركة الدين الحقيقية: تحريره من غبش البشر ونقصهم، ووصايتهم، وتقديس مَن لا قدسية له.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى