مقالاتمقالات مختارة

في الذكرة التسعين لتأسيسها.. الاندثار بين الاحتمالية والحقيقة

بقلم يسري المصري

منذ أيام قليلة، مرّت الذكرى التسعون على تأسيس الإمام “البنا” لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، تلك الشجرة المباركة الطيبة الأصول والفروع، النقية الفكرة والمنبت، الصادقة في الغاية والمقصد، التي رويت وترعرعت بدماء قائدها المؤسس -رحمه الله- في محاولة من أعدائه بوأد الفكرة والانتقام منها، وتعطيل مشروعها الذي يستهدف نجاة للبلاد والعباد، وتحرير قرار الأمة من أي مستعمر خارجي أو تابع داخلي.

ولمّا كانت الفكرة صادقة وثقيلة، كان التفكير في واقع هذا البناء والسعي لإيجاد كل ما يطوره ويشدّ من عضده واجب على كل عاشق لها، فضلاً عن إنسان مسلم يرى فيها طوق النجاة والأمل المنشود.

ولاشكّ أن جماعة الإخوان في مصر –خصوصاً- تمر بمرحلة فارقة بل شديدة الخطورة، ليس بسبب الانقلاب الدموي فحسب -والذي استهدف استئصالها- لكن أيضاً بفعل السياسات الموجودة داخلياً، وفي ظل غياب توحّد الكلمة، وتوحيد الراية وسط موجة قوية من النزاعات والخلافات والشقاق، أحياناً لا ينكرها إلا مكابر يضع رأسه في الرمال، ويزعم أن الشمس غائبة عن الظهور.

واليوم، وبعد تسعين عاماً من النشأة، أجدني مندفعاً بكل عواطفي وجوارحي للكتابة، ناصحاً، ومذكراً، وناقداً، وصارخاً بكل قوة أن البناء الذي شيده الإمام “البنا” زادت تصدّعاته الداخلية مع الأسف الشديد .

اليوم في الذكرى التسعين، نحيا واقعاً شديد الألم، وكل يوم تتداعى الصفوف للالتئام، فلا نجد نصيراً ومرحباً ومتبنياً، بل نرى صدوداً وإعراضاً، ونفورا،ً وإقصاءً، وزيادة في الجمود الفكري، والرغبة الغير مبررة في توسيع فجوة النزاع والخلاف.

في الذكرى التسعين، نحيا واقعاً شديد الألم، وكل يوم تتداعى الصفوف للالتئام، فلا نجد نصيراً ومرحباً ومتبنياً، بل نرى صدوداً وإعراضاً، ونفورا،ً وإقصاءً، وزيادة في الجمود الفكري، والرغبة الغير مبررة في توسيع فجوة النزاع والخلاف

إن الإخوان اليوم -وبشكل صريح وصارخ- على أعتاب الاندثار والزوال، بل ربما قد تكون جرت علينا جميعاً سنة الاستبدال، ونحن في زحمة الخلافات والتصريحات، والبيانات الإعلامية التي تصدم الصف الصابر المحتسب كل يوم، المتعطش لراية وكلمة، وقلوب تجمع ولا تفرّق، وتبني ولا تهدم.

لقد بذل الإمام “البنا” دماءه رخيصة محتسباً لربه، من أجل مشروع الأمة الجامع، وفكرته النقية، وأستاذية العالم، وإذا بنا بعد سنوات طوال، نصحو على واقع غير الذي تعلمناه، وبوضوح شديد أقول: لقد انحرف المسار عن مسار “البنا”، ولكن بشكل من الشخصنة ، فالرجل الذي كتب في مذكراته أن الفكرة والدعوة باقية، والأشخاص مهما علا ذكرهم فهم فانون، فوجئنا اليوم بأن البعض يرى في نفسه الدعوة والفكرة والمسار كله، ودونه إما خانع، أو متردد، أو غير ملم بالفكرة، وكلما رفعت راية أو دعوة للتوحد، أو مبادرة للجمع بين القلوب والعقول، كان الرفض والاستعلاء، ونحن يقيناً لا نبني للمجهول، والأحداث الأخيرة وما تبعها من تصريحات تدلّ على خطورة الوضع.

والسؤال الآن -وبوضوح شديد-: هل من الوارد الاندثار، وأن يصبح المسار من الذكريات؟

أقول -وبمنتهى الوضوح-: إن هذا الأمر ليس وارداً، فالفكرة فعلاً باقية، وكل دخن بها، أو خبث مهما كان زائل، شريطة عدة أمور:

أولاً- الصدع بالحق:

إن الإخوان اليوم في أمس الحاجة لمن يصدع بالحق، والتغيير من الداخل، وأحسبهم موجودين ولكن بفكرة الرجل العجوز الذي يرى همة الشباب بأنها تمرّد وخروج عن الأصل، فيتم محاربة كل داعٍ للتغيير، وكل متبنٍّ له، فضلاً عمّن يفكر فيه.

لكن عزاؤنا جميعاً أن الفكرة باقية، وأن دعوة الله ليست حكراً على أشخاص، وتاريخ الجماعة أكبر من أي شخص، والماضي يذكرنا بزوال كل من شخّص الدعوة له، ف”السكري” و”علي عشماوي” كانوا نجوماً وقمماً مع النشأة، لكن كانوا خبثاً نفتهم الدعوة في مهدها حتى تكتمل مسيرتها ومسارها.

عزاؤنا جميعاً أن الفكرة باقية، وأن دعوة الله ليست حكراً على أشخاص، وتاريخ الجماعة أكبر من أي شخص

ثانياً- الشباب:

هذا الملف الملغم الذي يكيل الجميع له، فهو إما مسجون، أو مطارد، أو في المنفى مشرّد، لكنه إجمالاً هو القوة الداعمة والدافعة لتثبيت أي فكرة، والعمل على إنجاز مشروعها الفكري، ولذلك ترى الحرب المعلنة عليهم من الطغاة في كل العصور، فالشباب الفاهم الواعي هو البركان في وجه كل معطِّل وهادم ، وتسيده قادم رغماً عنه، والحركة الإسلامية غنية بهذا النموذج، برغم التشتت والتيه أحياناً، لكن حتماً سيعود الجميع؛ ليسقي محضنه وينميه.

ثالثاً- الأخت المسلمة:

إن من أهم موانع الاندثار هو وجود الجندي المجهول، وبوضوح، فإن الأخت المسلمة هي ذلك الجندي المجهول، فهي من سطّرت ولازالت تسطّر ملاحم الثبات والبطولة، والصبر والاحتساب في وجه الظالمين، سواء كأم شهيد، أو زوجة معتقل، أو ابنة مطارد، وأيضاً كل معالم التربية الصادقة لأبنائها، وتربيتهم على معاني التضحية، وعشق الوطن، والفخر بالفكرة والدعوة، ومهما طالت المحنة، وزادت قسوتها، فحتماً العاقبة للمتقين .

رابعاً- إخلاص السابقين:

إن الثبات على الفكرة والإخلاص لها ليس بالأمر السهل، خصوصاً في واقع شديد التجبّر، وطغاة سمتهم القتل والغطرسة، ومع ذلك نجد الكبار من أبناء هذه الفكرة ثابتين عليها، حتى آخر قطرة ونفس، دون تردد وخوف، فهم فطنوا حقيقة الطريق من بدايته، وعلموا أن البيعة مع الله غالية وسلعتها أغلى، وكأني بالقامة “إبراهيم الطيب” الذي أعدمه عبد الناصر وهو يقول لشانقه: “اقضِ ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا”، هذا هو المسار والفخر أن يلقى الإنسان ربه على فكرته شامخاً؛ ليؤسس للأجيال كل مثبتات البناء والفهم والتجرد لهذه الدعوة الطاهرة.

إن الثبات على الفكرة والإخلاص لها ليس بالأمر السهل، خصوصاً في واقع شديد التجبّر، وطغاة سمتهم القتل والغطرسة

خامساً- ثبات الكبار:

والكبار هنا هم كل المضرورين من معتقلين ومطاردين، وثباتهم الذي أقصده هو العشق لهذه الدعوة، فلم نجد من يبدل أو يتنازل، الكل محب ومضح ومحتسب، وإن كان يئنّ فالمرء ضعيف، والحياة قاسية، ومآل الأمور مؤلمة، لكن الله يهون على القلوب محنتها، وعلى العقول التفكير والإجهاد الذهني، ولا شكّ أن هناك حالات سخط، وأنه ليس الأصل التأقلم مع المحنة، بل السعي لإزالتها من الوجود، حتى توظّف كل هذه الطاقات المهدرة بفعل هذا الظلم الشديد.

سادساً- المراجعات:

إن من أهم عوامل الانتشار لأي فكرة هو التقييم والمراجعات الفكرية كل مدة، حتى تصحّح البنيان وتقويه، وتزيل العطل وتهدمه، وتؤسس لفلترة فكرية على مدار الساعة، بلا تقديس لشخص، أو تحقير لآخر، فالكل في البناء جنود لله، ولا يفضل المرء على غيره إلا بتقواه، وفهمه لدعوته، وليس بحجم سجنه وابتلائه ، فمع الأسف، ظهر جيل غريب يؤسس لكل انهزامية، ويمجّد في كل من سجن وعذاب بالرغم من فشله، وعلى هؤلاء أن يعوا أن الدعوة في الأصل قوة وليس ضعفاً، ومن غير المقبول أن يرفع في وجه كل دعوة للتغيير تاريخ المحن والضيق والبلاء.

سابعاً- حتمية التخصص:

إن الدين الحنيف أصل، وأسّس للتوظيف في مهدها، فالصحابي عبد الله بن زيد لما سمع صيغة الأذان في رؤيا أخبر النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، فلم يقل له النبي أذن، أذن أنت، لكن قال: علمه بلالاً، فإنه أندى منك صوتاً، وهذا فهم القائد الذي يعي كل مؤهلات صفه وأفراده، ويحسن استغلال هذه الطاقات، كذلك نحن أحوج ما نكون داخل الحركات الإسلامية لهذا التخصص الذي يتقدم، ويتكلم ويسمع له، ويؤخذ برأيه؛ لأنه من أهل الذكر والتخصصية، لكن الواقع عكس ذلك، فالبعض يتقدم للإعلام ويكون عمله الأصلي واعظاً.

وأيضاً، البعض يتصدر للتخطيط، ويكون عمله كيمائياً، فلا توظيف ولا تخصص، لكن ثقة وتزكية ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا الداء شديد الخطورة على البناء، ومع الأسف له نتائج كارثية أظهرها الواقع الأليم.

ختاماً: إنني كشاب عاشق لفكرته، عامل لها، يئن قلبه لواقعها، يسعى بكل طاقته في تطويرها، والرقي من شأنها، ما زلت أحلم بالوحدة والتوحّد في زمن يمكر بنا الجميع على مدار الساعة، وتنفق الأموال لزرع الخبث بداخلنا، بل والسعي لجعل هذا الخبث يأمر وينهى، ويدمر، ويعمق الخلاف، وينشط في الهدم من حيث يظن أنه يبني.

آن للجميع أن يتخلى عن أهوائه وتكبره، ويتحلى بالتجرّد لله ورسوله، ولصالح المؤمنين ، فالأوجاع كثيرة، والأحزان أكثر، والمهمة ثقيلة، وتحتاج لعقول رشيدة، وقلوب متجردة بلا تجمّل، أو زيف للوعي، أو تخدير للعقول والقلوب.
بقي أن أذكِّر أن الجميع محل توقير، لكن لا خير فينا إن لم نقلها.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى