فلسفة الصيام.. كيف رأى المفكرون الإسلاميون حكمته؟
بقلم سامح عودة
لأن لكل الأفعال حقيقتين، ظاهرة وباطنة، كان الصيام هو التوفيق المتزامن لكل منهما، بوصفه التمثّل الفريد لشهادة الجوارح على القلب، فتتفاوت -على ذلك- درجاته بقدر تحقيق هذا التوافق بين الفعل والشعور، فيقول “أبو حامد الغزالي” أن الصيام على مراتب ثلاثة: صوم العموم، “وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة”. وصوم الخصوص “وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام”. وصوم خصوص الخصوص، وهو “صوم القلب عن عن الصفات الدَنِّيَة، والأفكار الدنيوية، وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية”[1].
فالغاية هنا، كما تشرحها الآية القرآنية، هي “لعلكم تتقون”، أي أن الأثر المرجو من الصيام يتجاوز مساحة الامتناع عن الشهوات الجسدية إلى النوعين الثاني والثالث فيما ذكره “الغزالي”، ومن هنا تتحقق التقوى المنشودة؛ لأن المرء إنما يفعل ذلك مختارًا، وفي الخفاء بينه وبين ربه فلا يشوب الأمر ما قد يشوب غيره من الرياء. ويقول “سيد قطب” في هذا السياق: “وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم.. إنها التقوى.. فالتقوى التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعةً لله.. وهي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية[2].
كذلك، نرى الأديب الفيلسوف “مصطفى صادق الرافعي”، يسبر غور الأمر ذاته، فيخبرنا أن تلك الصفة التي يحققها الصيام قد “أوّلتُ من (الاتّقاء)، فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته مَعِدته، وألّا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة، ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان: يبيعه القوة كلَّها بالقليل من العلف!”.
من قواعد النفس “أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم”، وهي طريقة “عملية لتربية الرحمة في النفس
ففي هذا الحال من الصلاح الداخلي بين المرء وربه، يتحقق نوع آخر من الهدوء المجتمعي متمثلًا في وحدة الشعور؛ ذلك لأنه “في ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر.. وهو إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبيه الإنساني العام لفروض الرحمة، والإنسانية والبر”[3]، إذ أن الجميع حينها سواء في الشعور، يتعاطون بإحساس الألم الواحد ما لا يجدونه حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
فمن قواعد النفس “أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم”، وهي طريقة “عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث”؛ ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير “أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادة”[4]. من هنا تتلاقى الأفكار والتأويلات في حتمية الأثر الروحي للصيام، لنرى أنه تحكّم بالجسد بإرادة الروح التي توجهه، وسمو للروح بإرادة الجسد الذي يوافقها.
“الصوم نظام يمنح الإنسان قوة في مواجهة أشد الميول الغريزية والفردية في نفسه، ويجعله مسيطرًا عليها في طريق الإيمان”.
[علي شريعتي]
في مناقشته لفلسفة الصيام، يقول الفقيه والمفكر الإسلامي “محمد الغزالي” أن “الصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جوِّ الحضارة المادية التي تسود العالم”. تلك الحضارة التي “تؤمن بالجسد، ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة، ولا تكترث باليوم الآخر! ومن ثمَّ فهي تكره عبادةً تُقيِّد الشهوات -ولو إلى حين- وتؤدِّب هذا البدن المدلَّل، وتلزمه مثلاً أعلى”[5]. ومن هنا تأتي خصوصية الصيام عمّا سواه من الشعائر؛ فلا شيء يوطّن المرء على ترك غريزته الحيوانية إلا ذلك الذي ينمّي لديه مسؤوليته الإنسانية.
فالصوم، كما يقول “الرافعي”، يتناول الذوات بالتهذيب والتدريب المشترك، فيحول بين البطن وبين المادة، وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة واحدة، “تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعَلِّم الرحمة، ويدعو إليها، فَيُشْبع فيها بهذا الجوع فكرةً معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك التي يكون عنها مساواة الغنيّ للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته”.
من هذا وذاك، رأى المفكر الإسلامي “محمد قطب” أن الصيام، كفريضة تعبُّدية خالصة في ظاهِرها، “لم يُفرَض لصالح الفرد في الحياة الآخرة وحدها، وإنما فُرض لصلاح أمرِه في الحياة الدنيا كذلك؛ لكونه “يشمَل الروح والجسد في آن واحد، ويَشمل الصغار والكبار، والرجال والنساء” وكذا لأنه “تدريب لهم على الصراع الأكبر الدائم، صراع الحياة التي يُمارِسها الجميع، وتقع تبعاتها على الجميع”[6]، مما ينقّي ذواتهم من الركون إلى المادة ويبعث في أرواحهم النشاط الدائم، فمن أحكم يده على جسده لانت في كفّه الصعاب.
بمد الخط على استقامته، تلفتنا لمحة مقاربة للمفكر صاحب الأطروحات الروحانية “مصطفى محمود”، الذي يرى أن “الله يعطيك الحصان لتركبه لا ليركبك.. لتقوده وتخضعه لا ليقودك هو ويخضعك”؛ لذا “كان التحكُّم في الشهوة وقيادة الهوى ولجام المعدة هي علامة الإنسان”، فأنت إنسان “فقط، في اللحظة التي تقاوم فيها ما تحب، وتتحمل ما تكره”[7].
ولا يتحقق ذلك السمو إلا بغلبة الدافع الروحاني المتجاوز على رغبة المادي المحدود، فيقول “ابن القيم” في سبر فلسفة الصوم: “هو لجام المتّقين، وجنّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرّبين، وهو لربّ العالمين من بين سائر الأعمال.. فهو ترك محبوبات النّفس وتلذّذاتها؛ إيثارًا لمحبّة اللّه ومرضاته، وهو سرّ بين العبد وربّه”؛ ذلك لأن ترك المرء طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده هو “أمر لا يطّلع عليه بشر، وتلك حقيقة الصّوم”[8].
وهو بوصفه “آلية تطهيرية كبرى من جهة، وطريقة لإعادة ترتيب الأوضاع الروحية للإنسان ترتيبًا ساميًا” من جهة أخرى[9]، فإنه “يردّ النفس إلى القليل الكافي، ويصدُّها عن الكثير المؤذى!” لهذا يرى “الغزالي” أن من أهم ثمرات الصيام تنشيطه “القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما”، لكونه “حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله”[10]. وهذا ما يتجاوز بالمرء حيز الدنيا المحدود إلى سعة الإيمان الرحبة، والتي تنمّي في المرء، إلى جانب اهتمامه بجسد، تزكيته لروحه في ثنائية متفاعلة على الدوام.
في فلسفة منسجمة، خرج الرئيس البوسني الراحل “علي عزت بيجوفيتش” بكتابه الأشهر “الإسلام بين الشرق والغرب”، ليحمل في طيّاته الإسلام كمحور اتزان بين الأضداد، فهو -كما يبدو في عنوانه- اتزان المناهج بين روحانية الشرق الخالصة ومادية الغرب الطاغية، وهو كذلك محطة الاستقرار النهائي بعد صراع المسيحية واليهودية وما نالهما من التحريف.
وقد استخدم في ذلك ثنائياته الرشيقة بين الخلق والتطور، والعلم والفن، والثقافة والحضارة.. وغيرها من الثنائيات التي تزن بين العالمين: عالم المادة الأرضي، وعالم الروح السماوي. ثم ينتهي في خاتمة فلسفته بتمثيل الإسلام كوحدة ثنائية القطب تجمع السبيلين في طريق واحد، وينفرد بتأمل نال الاستحسان حول ثنائية الأركان الخمسة التي يجمعها الإسلام في كيان لا ينفصل.
والثنائية، حسب “المسيري”، هي وجود متزامن لنقيضين، وحضور متفاعل بينهما، فيجمعهما في كيان واحد عبر تجربة حقيقية تثبت هذه الإمكانية للتفاعل بينهما؛ ذلك “لأن التجربة المعيشة هي توحيد بين الجانبين: النظرى والعملى، الروحى والمادى.. ومن ثم فهذه التجربة المعيشة ليست هذا ولا ذاك، بل هى أكثر تركيبية من أى منهما بمفرده”[11].
نجد الزكاة في فلسفة الصيام تُخرِج فعل الصدقة من حيز التزكية الفردية إلى مساحات الحركة الاجتماعية لمعالجة ظاهرة الفقر وتطهير النفوس من الجشع واكتناز الثروات
من هنا يطالعنا الرئيس الفيلسوف بثنائية الأركان الخمسة في الإسلام، والتي تحقق العبودية فرديًا وجماعيًا، فتصل العبد بربه وتؤسس -في الوقت نفسه- أواصر الارتباط بين أفراد المجتمع. فيقول أن الصلاة -مثلًا- ليست مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، وإنما هي انعكاس للطريقة التي يريد بها تنظيمه، بوصفها عبادة خالصة تؤدّى باجتماع الناس عليها في جماعات، وكذا فهي حركات جسدية لا يمكن تحقيق الاستفادة الكاملة منها إلا باستحضار الروح وخشوعها.
كذا نجد الزكاة -في فلسفته- تُخرِج فعل الصدقة من حيز التزكية الفردية إلى مساحات الحركة الاجتماعية لمعالجة ظاهرة الفقر وتطهير النفوس من الجشع واكتناز الثروات على جثث الجوعى. ومن بين تلك الثنائيات تظهر ثنائية الصوم، فيقول: “في الصوم أيضًا جانب مشابه بلا شك. فقد اعتبر المسلمون الصوم خلال شهر رمضان مظهرًأ لروح الجماعة، ولذلك فهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب”[12].
فالصيام -في فلسفة “بيجوفيتش”- ليس مجرد مسألة إيمان، وليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي، وهو وحدة تجمع بين التنسّك والسعادة “بل حتى المتعة في حالات معينة”، وهو أكثر الوسائل التعليمية طبيعيةً وقوةً، فهو يُمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء، وأعظم ما في ذلك أنه يمارس ممارسة حقيقية.
كما تتجلى، بجانب ثنائية الخاص والعام، ثنائية الروحي والمادي المتمثلة -كما سبق- في ممارسة الامتناع المادي -المجال البراني- عن الطعام والشراب والشهوات المباحة؛ لتوطين النفس -المجال الجواني- على الترك والاستغناء -مختارةً- عن المحظورات والمُهلِكات، مهما بدا فيها من الإغراء، فتتحقق الإنسانية من جانب آخر بإظهار حرية الإنسان واختياره للطاعة، وهو ما يضعه في مرتبة مميزة بين المخلوقات، ليكون الصيام -وفقًا لبيجوفيتش- “أعلى تعبير عن الإرادة، أي فعل الحرية”[13].
(المصدر: ميدان الجزيرة)