مقالات

فلسفة الشرك

مركز التأصيل للدراسات والبحوث

من أعظم الذنوب التي عُصِيَّ الله تعالى بها، وكان لها رواج واسع في البشر عبر التاريخ.. الشرك. فإن فطرة الإنسان تقر بوجود الإله، وهي أبعد ما تكون عن الإلحاد وإنكار وجود الخالق. كما أن غريزته تنحو بطبيعتها للتدين لا إلى الكفر. ومن ثمَّ كان مدخل الشيطان على البشرية هو المدخل الأقرب إليها؛ فأتاها من قبيل إيمانها وتدينها ليحرفها عن الجادة. ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم). حنفاءُ أَي: مسلمين.

والشرك مناف للتوحيد الذي هو حق الله تعالى على عباده الذي تترتب عليه كافة علاقاتهم به. فإنَّ الله –سبحانه- ليس له ند ولا شريك، ولم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد. وإثبات شريك له يعني صرف ما لله من أسماءٍ وصفاتٍ، وقَدرٍ وتعظيمٍ، وعبادةٍ وطاعةٍ ظاهرة وباطنة، لغيره، إما على سبيل المماثلة والندية، أو على سبيل الشراكة في شيء من صفاته وخصائصه وقدره، وإن اعتقد العبد أن الله هو أعلى رتبة من شركائه!

ومن ثمَّ لم تلق معصية في الأرض من التلبيس والتضليل، والتزييف والتزيين، والتبرير والتسويغ، ما لقيه الشرك عبر تاريخ البشرية[1]؛ حتى لقد عُبِدَت أحجارٌ صماءٌ، تُنحَتُ باليد، من دون الله! لذلك جاء في دعاء أول الرسل، نوح –عليه الصلاة والسلام: ((قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُم عَصَونِي واتَّبَعُوا مَن لَم يَزِدهُ مَالُهُ ووَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * ومَكَرُوا مَكرًا كُبَّارًا * وقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُم ولَا تَذَرُنَّ وَدًّا ولَا سُوَاعًا ولَا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسرًا * وقَد أَضَلُّوا كَثِيرًا ولَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا))، نوح: 21- 24. كما جاء في دعاء خليل الرحمن إبراهيم –عليه الصلاة والسلام- ذات المعنى: ((وإِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّ اجعَل هَذَا البَلَدَ آمِنًا واجنُبنِي وبَنِيَّ أَن نَّعبُدَ الأَصنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضلَلنَ كَثِيرًا مِن النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ومَن عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))، إبراهيم: 35- 36.

ولم تبتل البشرية بذنب على مدار التاريخ أوقعها في كل أبواب المعاصي والفساد والإجرام كما ابتليت بالشرك. فقد كان الشرك بوابة الخروج عن عبودية الله تألها وطاعة وخشية، وبه استبدلت الشرائع، فاستحلت المحرمات، وارتكبت الفواحش، وأُذِنَ بالفساد. لذلك كُلِّه بعث الرسل والأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- بمرتكز صلاح البشرية وأسه: ألا وهو التوحيد وتحقيق لوازمه.

ولم يجادل القرآن الكريم، ويستطرد في النقاش، ويتوسع في الحجج، كما جادل واستطرد وتوسع في مسألة التوحيد والشرك. حتى كان غالب موضوع القرآن الكريم هو بيان التوحيد في مقابلة الشرك، والتحذير من صور الشرك ومظاهره، والرد على دعاته في مزاعمهم وشبههم، وبيان آثاره الدنيوية والأخروية، وعقوبة أهله في الدارين. وهذا أوضح من أن يستدل له.[2]

وما يعنينا هنا هو مدى إخراج الشرك في فلسفة عقلية وفكرية بحيث راج في أمم الأرض، حتى تعددت الآلهة تعددا مذهلاً! فما من شيء إلا اعتقد فيه، وعبد، وأطيع، أكان مَلَكًا، أو نبيا، أو رجلا صالحا، أو شيطانا، أو مظهرا من مظاهر الطبيعة، أو مخلوقا حيوانيا أو نباتيا، أو تصورا مختلقا لا وجود له أساسا!

فكتب الأديان والفرق الموسوعية تحشد من تاريخ الشرك أضعاف أضعاف ما خلده القرآن الكريم وهو يعرض أبرز النماذج وأغلب الصور بروزا. حتى إن المطلع على هذه الكتب ليرى إلى أي مدى ابتذلت أوصاف “الإله”، وإلى أي مدى شوهت صورته في العقل البشري. ثمَّ إنَّ الإنسان ليعجب بعد ذلك لأيمان الناس بهذه الصور المصطنعة والآلهة العاجزة إيمانا عميقا، مع صرف أوجه العبادات القلبية والقولية والعملية لها، والتوجه إليها من دون الله! وتوارث ذلك الإيمان جيلا بعد جيل دون أي تساؤل وانتباه!

إنه وبالرغم من كل الحجج التي كان يجادل بها الأنبياء، والآيات والمعجزات التي يقدمونها، والبراهين الدالة على صدقهم، إلا أنَّ معظم الأنبياء لم يظفروا بهداية أقوامهم، بل خرجوا بأقل القليل من المهتدين؛ وربما في حالات أخرى لم يظفروا بأحد منهم! ومع كل دورة جديدة في الحياة، تُستَأنَفُ في الأرض بعد إهلاك الأمم المشركة، سرعان ما يدب الشرك مجددا إلى البشرية ليعيدها إلى السير خارج سبيل الفطرة والعقل وخطاب الرسل!

كل ذلك يجعل من تقييم مفهومنا للشرك أمرا سطحيا، وقراءة ساذجة، وأمرا تجريديا، ما لم نخض ذات المعركة في الدعوة إلى الله تعالى مع أهل الشرك أنفسهم. لأن الشرك أمر يتجاوز كونه ظاهرة بسيطة، أو انحرافا عابرا، بل هو ظاهرة معقدة جدا، وانحراف غائر في التاريخ، يتجدد كلما خبى نور الوحي ونام حراس العقيدة أو شغلوا عن مهمتهم الكبرى!

إن ظاهرة الشرك جديرة بالبحث والدراسة من كافة أبوابها وأبعادها، الفكرية والروحية والأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية. خاصة مع توفر كل قنوات الاطلاع على غالب أديان أمم الأرض، وميراثهم الفلسفي والفكري والتشريعي، ومدونات التاريخ. ولا يصح الاكتفاء في تجلية هذه الظاهرة على كتب المتقدمين، فكثير منها تطرق للشرك في إطار تفسير آية هنا، أو شرح حديث هناك، أو تحرير مسألة عقدية، أو وعظ وإرشاد. فلابد من نظم ذلك كله مع استقراء كافة نصوص الوحي، كتابا وسنة، وإعادة رسم خط نشأة هذه الظاهرة ونموها وتطورها، ومعرفة أسباب قبولها وانتشارها حتى في الواقع المعاصر.

فما يزال الشرك هو الحاضر الأكثر انتشارا في البشرية اليوم، رغم كل أوجه التقدم المعرفي والعلمي والتقني والفكري. والبشرية في انتظار من يخاطبها، ويكشف عنها ليل التضليل، ويردها إلى فطرتها وجادة العقل السليم. فإن دعوة الشرك اليوم تقوم على ذات الـ”ـفلسفة” القديمة، وإن جددت الخطاب ونوعت الوسائل وصنعت آلهة جديدة. وواجب أتباع الرسل اليوم هو ذاته واجب الرسل بالأمس.. محاربة الشرك وتحطيم الآلهة المصطنعة من دون الله.

 —————————————————

[1] فالشهوات دوافعها غريزية، ويقع فيها المرء وإن كان مؤمنا بوجود الله، وموحدا وطائعا. والشرك ليس غريزة فاحتاج للتسويغ والتبرير.

[2] مجرد الإحصاء العددي لمادة (شرك) ومشتقاتها الواردة في القرآن الكريم، والعبارات الأخرى التي دلت على نفس المعنى يكفي لتصور مدى اهتمام القرآن الكريم بهذه القضية الجوهرية والمفصلية في دعوات الأنبياء الإصلاحية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى