فلسطين ـــ مقلة العين ـــ عربية إسلامية القدس عربية منذ فجر التاريخ 5
بقلم أ. د. أحمد رشاد
عروبة القدس الشريف تتجاوز ذلك الحيز الزمني لدعوة الإسلام في صدر الدولة الإسلامية، إنها تسبقها حقباً ضاربة في القدم، منذ أن ظهر فيها العرب عرقاً من الأعراق البشرية، ولذا فإنه من المسلّمات التاريخية بأن شهادة ميلاد القدس الشريف تؤكد أنها عربية الأصل في النشأة والتكوين، إسلامية الهوية في الحضارة والإنسانية .
ولقد صمدت هذه المدينة المقدسة لنوائب الزمان بجميع أنواعها :”حتى أنه لم يبق فاتح من الفاتحين أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين كانت لهم صلة بهذا الجزء من الشرق إلا ونازلته فإما أن يكون صرعها، أو تكون هي قد صرعته”. ولقد حوصرت مراراً ودمرت تكراراً، وأعيد بناؤها ثماني عشرة مرة، في التاريخ … بيد أنها على الرغم مما أصابها ظلت قائمة وظل اسمها شامخاً في طليعة المدن.
اليهود يزعمون اليوم أن القدس مدينتهم الخالدة، ونحن بدورنا نتساءل: أين هي القدس التي يبحثون عنها؟ … هل هي أورشليم التي هدمها الرومان مرتين، وأزالوها من الوجود تماماً، أم أنها أورشليم التي اندثرت بسببهم، ثم جاء المسلمون وفتحوا المدينة، ولم يأخذوها من اليهود، بل من الرومان أعداء اليهود، وحافظوا على كنائسها ومعابدها، وفي أثناء الحكم الإسلامي وحده شرع اليهود يعودون إليها ويقيمون فيها المعابد وفق الشروط التي وضعها الإسلام لأهل الذمة.
ولم تعرف المدينة المقدسة سلماً ولا أمنا، إلا في العهد الإسلامي باعتراف الكثير من المنصفين، حيث عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في أمن وسلام
أسماء القدس
عرفت مدينة القدس بأسماء كثيرة أقدمها اسم “يبوس” نسبة إلى العرب اليبوسيين الذين يعتبرون أول من بنى القدس، وهم بطن من بطون العرب الأوائل نشئوا في جنوب شبه الجزيرة العربية ثم رحلوا إلى الشمال مع القبائل الكنعانية واستوطنوا في هذه المنطقة، وكان ملكهم: “ملكي صادق” قد بنى المدينة، وفي سجلات الفراعنة تسمى :”يابيثي”، وعرفها الكنعانيون باسم: “أورسالم” أي مدينة السلام، ومن السخرية أن مدينة السلام لم تر إلا القليل من السلام عبر تاريخها الطويل، وقد اشتقت منها العبرية :”أورشليم” (التي تأثرت باللغة العربية الكنعانية والمصرية القديمة والآرامية والإغريقية وكذلك الهيروغليفية التي كانت أول لغة كتبت بها التوراة) حيث اشتقت منها أسماء أخرى كثيرة، و”أور” هي مدينة في بابل وهي مسقط رأس إبراهيم عليه السلام، أما “شليم” فاسم لواحد من عشرات الآلهة الوثنية التي كانت تعبد في المنطقة، ولا علاقة لهذا الاسم بكلمة: “شالوم” العبرية التي تعني سلام، وإن كان اليهود نسبوا الاسم للغتهم لإثبات قدم علاقتهم بالمدينة المقدسة.
ومن أسماء هذه المدينة أيضاً: “مدينة داود”، وأسماها اليونان: “بروساليم”، أما الرومان فأسموها: “هيروساليما”، ومن هذا الاسم اشتقت أوربا اسم :”جيروساليم” الذي ورد في الكتابات الفرنسية في القرن الثاني عشر الميلادي، وفي سنة 135 م سماها الإمبراطور “إيليوس هادريانوس” :”إيليا كابيتولينا” وهذا الاسم مأخوذ نصفه من اسم الإمبراطور الأول (إيليوس) .. ونصفها الثاني (كابيتولينا) مأخوذ من اسم الإله الوثني الروماني (جوبتر كابيتولينوس)، وظلت تعرف باسم “إيليا” حتى أوائل الفتح الإسلامي عام 15 هـ / 635 م.
ومن أسمائها كذلك:” الأرض المباركة، والساهرة، والقرية، وبيت المقدس، والأرض المقدسة، والزيتون، والمسجد الأقصى، والقدس”.
سكان القدس وفلسطين الأصليين:
تعتبر فلسطين جسر يربط آسيا بأفريقيا ويصل الجزيـــــــــرة العربية بالبحر الأبيض المتوســـــط، ومدينة القدس ــــــ قلب فلسطين النابض ــــــ هي جزء من هذه المنطقة من الوطن العربي، سكنها الكنعانيون وأحفادهم الفلسطينيون منذ أقدم العصور، حيث أقاموا فيها وأنشئوا حضارة مزدهرة.
وقد كانت فلسطين قبل أن يكون هناك ذكر في التاريخ لليهود لعشرات القرون مأهولة بشعوب عربية تنحدر من العمالقة، ومن الشعب الكنعاني، فكان العماليق يسكنون في الجنوب الفلسطيني، ومن مدنهم: غزة والخليل وبئر السبع ورحبوت، وكان الكنعانيون يسكنون الساحل من غزة إلى شمال عكا ونابلس وجنين وطولكرم وبيسان. وقد انتظم الكنعانيون في جماعات صغيرة على رأس كل منها ملك وصل إلى الحكم بعد انتسابه إلى طبقة الأشراف الملاكين، وكانت كل جماعة تتجمع حول مدينة حصينة لها سور وذات أبراج عالية للدفاع عنها، ويمكن لسكان الريف المجاورين الالتجاء إليها وقت الخطر، وفي وقت السلم تشكل هذه المدن سوقاً تجارية ومركزاً اجتماعياً. وقد ذُكرت هذه المدن في تقرير حملات تحتمس الثالث (في مطلع القرن 15 ق.م)، وكانت مساحة هذه المدن صغيرة وأسوارها سميكة، تلك الأسوار التي ألقت الرعب فيما بعد في جواسيس بني إسرائيل الذين أرسلهم موسى عليه السلام حين أرسلهم للتجسس عليها ونقل أخبارها تمهيداً لدخولها وقالوا له كما ورد في العهد القديم: “إن الشعب الساكن في الأرض معتز والمدن عظيمة جداً وقد رأينا بني عناق هناك: العمالقة ساكنون في أرض الجنوب والحثيون واليبوسيون والأموريون ساكنون في الجبل، والكنعانيون ساكنون عند البحر وعلى جانب الأردن. إن فيها أناساً طوال القامة، والجبابرة بني عناق فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا في أعينهم”.
هذا الشعب العربي الكنعاني كان له نتاج حضاري، لم يقتصر على الزراعة وتربية المواشي، بل اندفعوا إلى مجال الصناعة، فمهروا في صناعة النحاس والبرونز وصنع الفولاذ، كما استعملوا الأواني الفضية وبرعوا في الصياغة، ولقد اكتشفت أنواع الحلي النسائية والأسلحة الحربية والزجاج التي تعود إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد في عصر الكنعانيين. وتذكر وثائق نوزي منذ عام 1500 ق.م الصوف الكنعاني والقطن، وصفوة القول أن الصناعات عندهم سدت حاجات الإنسان المتحضر في ذلك الزمن من عربات الحرب التي يجرها الخيول إلى السيوف والفؤوس والسكاكين إلى الإبر والأزرار والدبابيس وبرعوا في صناعة النسيج ولبسوا الحلل الفاخرة. ولقد ألقت الاكتشافات الأثرية شعاعاً على تراث الكنعانيين وما قدموه في عصرهم في الآداب والشرائع، وتبين لنا أن الكثير من هذا التراث الزاهر وخصوصاً في الآداب أخذه اليهود وأدخلوه في كتاباتهم المقدسة، وفي القطع الغنائية. أما أعظم المنح التي قدمها الكنعانيون للعالم والتي تعتبر مفتاح التحضر الإنساني هي الأبجدية التي لا تزال تعرف باسمها العربي الألف باء.
وإلى جانب الكنعانيين يستقر الفلسطينيون في هذه المنطقة، حيث ورثوا الحضارة الإيجينية في سواحل إيجين وفي جزيرة كريت غرب البحر الأبيض المتوسط، وإن لغتهم سامية وديانتهم كذلك وقد سكنوا مدن: اشدود وغزة وعسقلان وجت، وقد كان الفلسطينيون جزءاً من الكنعانيين هاجروا إلى جزيرة كريت، ثم عادوا إلى فلسطين ثانية لتدافع عن وطنها الأم ضد هجوم الفراعنة، فاستقرت في بلاد أجدادها الكنعانية، ولم تكن عودتها عودة الغازين كما يصوره اليهود وبعض مؤرخي الغرب، إذ لو كان الفلسطينيون غزاة غرباء عن الأرض لجلوا عنها تحت ضغط انتصارات الفراعنة، بل صمدوا مع إخوانهم الكنعانيين، وكانت مدنهم حصينة وذات هيبة خاصة بهم. وهذه المدن الحصينة بقيت بعيدة عن اليهود لم يستطيعوا دخولها أثناء مجيئهم إلى أرض كنعان، ويظهر لنا أن شدة الفلسطينيين واستماتتهم في الدفاع عن أرضهم ضد الغزوات الأجنبية أكسب المنطقة فيما بعد كلها اسم فلسطين.
لقد ورد اسم اليبوسيين العرب أهلاً للقدس في مواضع عديدة من العهد القديم، وهم ينسبون إلى “اليبوسي بن كنعان” وقد رد المؤرخون اليبوسيين إلى أصول عربية كنعانية “وأرض كنعان في اللغة العربية هي الأرض المنخفضة”، وأنهم بطن من بطون العرب الأوائل نشئوا في جنوب شبه الجزيرة العربية ثم نزحوا عنها مع من نزح من القبائل الكنعانية. ويشير المؤرخ الطبري وابن خلدون إلى أن أهل الشام وأهل مصر من العماليق العرب الذين يقال لهم الكنعانيون. وقد كشفت حفريات مدرسة الآثار البريطانية منذ عام 1961 أن مدينة القدس القديمة إنما شهدت منذ الألف الرابعة ق.م استقراراً بشرياً وعمرانياً، ودلالة ذلك أن “سالم اليبوسي” الكنعاني العربي ( حوالي سنة 3500 ق.م) أسس مدينة القدس لتكون عاصمة لدولة يبوس، ولتقوم كذلك بالربط ما بين القسم الجنوبي والشمالي للدولة لضمان سيطرة اليبوسيين على دولتهم الجبلية، وأطلق عليها “أور سالم” أي مدينة سالم باللغة الكنعانية القديمة، وقد وجد عالم الآثار “برنارد” من جامعة “ويلز” آثار لقبائل هاجرت إلى نواحي القدس قبل حوالي “3000 سنة قبل الميلاد”، وهذا ينفي مزاعم اليهود بأن القدس تأسست حوالي “سنة 1000 ق.م”، وأن المدينة شهدت منذ العصر البرونزي الأول (أي بداية الألف الثالثة ق.م) مرحلة العمران المبكر، وكذلك في العصر البرونزي الوسيط (حوالي 2500 ق.م)، وكما يتضح أيضاً من رسائل تل العمارنة ـ التي اكتُشفت في مصر والتي تعود إلى عام “1450 ق.م”ـ أن الموجة السامية الثانية الوافدة من الجزيرة العربية إلى فلسطين وسوريا منذ العصر البرونزي الوسيط إنما هم من العرب الذين وُصفوا بأنهم أهل وغي، كما اشتغلوا بالتجارة وجاسوا الديار والممالك، حتى امتد سلطانهم إلى مدينة حماة، وقد استقر أغلبهم في فلسطين، وظلت لهم السيادة حوالي 1500 عام متواصلة، ويؤيد هذا الاستقرار العربي في فلسطين ما تبين من الحفريات الأثرية عن بقايا أسوار القدس القديمة التي أقامها اليبوسيون. وكما وردت أيضاً أخبار عن القدس في النصوص المصرية القديمة ما يؤكد استقرار اليبوسيين في القدس في الفترة السابقة، ويؤيد ذلك ما ورد في العهد القديم أن ملك القدس اليبوسي: “ملكي صادق” كان ملكاً على أورشليم وكاهناً لله العلي زمن إبراهيم الخليل عليه السلام. وقد اتخذ اليبوسيون من القدس عاصمة لإدارة مملكة يبوسية ذات كيان سياسي وديني، وظلت كذلك حتى دخلها بني إسرائيل. وهكذا فإننا بصدد عاصمة مملكة لا مدينة قائمة بذاتها وقد تزعمت القدس إدارة هذه المملكة وفق النظام السياسي الذي اصطلح على تسميته: اتحاد المدن، أو المدينة الدولة، وقد فرض اليبوسيون سيادتهم على بقاع عديدة كانت “يبوس” قبلتها الدينية والإدارية، ووفقاً لسفر نحميا أن “يبوس” هي ” أورشليم مدينة القدس”، وهذا يعني أن اليبوسيين قد كانوا أهلاً للقدس بدلالتها الدينية المعروفة لنا قبل نزوح بني إسرائيل عن مصر بستة قرون على الأقل، وأُطلق عليها هذا الاسم قبل عهد نحميا بأربعة عشر قرناً. فالقدس هي القدس عبر كل العصور. وبما أن يبوس ـ كما أسلفنا ـ هي فرع من قبيلة عربية هي قبيلة كنعان، والكنعانيون عرب نزحوا من الجزيرة العربية، فإن شهادة ميلاد القدس تؤكد أنها مدينة عربية أصيلة.
وإذا عدنا مرة أخرى إلى الملك: “ملكي صادق” فهو أول حاكم للمدينة، وكان معاصراً لسيدنا إبراهيم عليه السلام حوالي 1900 ق.م، ولما كان سور اليبوسيين هو أقدم أثر ينسب إليهم في المدينة ويؤرخ له بحوالي 1850: 1800ق.م فإنه يتعين علينا التأريخ به لظهور الاسم: “يبوس” اسماً للمدينة، ربما بعد وفاة “ملكي صادق” الذي صارت مكانته رتبة للأتقياء والصالحين التي قد ترقى إلى منزلة الرسل والصديقين في العصور اللاحقة. وقد ورد في العهد القديم الكثير من الأسماء العربية وقف منها قاموس الكتاب المقدس صامتاً على الرغم مما درج عليه من رد المفردات إلى أصولها اللغوية وخاصة العبرية، وقد شغل هؤلاء مراكز يُشار إليها بالبنان، وكان بعضهم آباء لملوك وقادة لفرق الجيوش العربية. ولأن العهد القديم كُتب من وجهة نظر يهودية بحتة، تتصل بأخبار بني إسرائيل وتاريخهم، فمن البديهي ألا نجد إلا أخباراً قليلة بل حتى نادرة فيما يتصل بالعرب أحفاد إسماعيل عليه السلام إلا في مواضع هامشية رغم حتميتها، لأن العرب كانوا طرفاً فيها، وكأنما التوراة تريد أن تقول إن ميراث عقيدة التوحيد إنما ألقي على إسحاق، ومن بعده يعقوب دون غيرهم، ولكن أين ذهب إسماعيل وهو الابن الأكبر لإبراهيم؟ على الرغم من الشرف الذي ناله مع أبيه في المشاركة ببناء الكعبة ـ. أما عندما تجري الأحداث على أرض فلسطين ويكون العرب طرفاً فيها يصفهم العهد القديم بأنهم قوم بدو رحل لا مقر لهم ولا وطن، وإن تفضّل على العرب بلقب ملك أو ملوك فهم هناك في البرية لا في المدينة. وكما تحدث سفر نحميا النبي عن “جشم” الذي كان ملكاً على العرب القداريين الذي ينتهي ينتهي نسبهم إلى قيدار بن إسماعيل عليه السلام، وكما تبين من الحفريات الأثرية حيث ذُكر اسم الملك “قينو بن جشم ملك قيدار”، وهذا يعني أن العرب الإسماعيليين الذين أشار إليهم العهد القديم قد جاسوا في أراضي فلسطين من شمالها إلى جنوبها، وأن ظهور اسم القيداريين كأمة ذات مجد عظيم يتزامن مع تواري ذكر اليبوسيين. وفي قراءة أخرى لسفر نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان عليه السلام، يلقي مزيداً من الضوء على التواجد العربي في القدس القديمة “..قد افتقدت هنا من أحبهم من العرب، لم لا وهم أهلها … وكان من بني قيدار من هم حضر يسكنون الشقق والديار”، وما ذُكر في العهد القديم في الإصحاح التاسع عشر من سفر “قضاة” عندما يعرض لقصة الرجل اللاوي الإسرائيلي عند مروره بمدينة القدس “يبوس” يؤكد ما ذهبنا إليه: “قال الغلام لسيده تعال نميل إلى مدينة اليبوسيين هذه ونبيت فيها، فقال له سيده: لا نميل إلي مدينة غريبة حيث ليس أحد من بني إسرائيل هنا”، ويستخلص مما تقدم أن العرب من بني إسماعيل والقداريين منهم خاصة قد سكنوا القدس القديمة، وقد انضووا مع بني جلدتهم العرب اليبوسيين، ولم يستطع بنو إسرائيل أن يخرجوهم من أرضهم طيلة تاريخهم الطويل فاكتفى سليمان عليه السلام فيما بعد بفرض السخرة عليهم كما ورد في العهد القديم.
أما داود عليه السلام فلم يستطع فرض سيطرته على القدس كلها إذ شغل منها حصن صهيون فقط في الجزء الجنوبي من التل الشرقي. ونقل داود تابوت الرب إلى مدينته، الذي كان غالباً ما يصحبه في حروبه، وهكذا فإن مدينة داود لم تكن عاصمة سياسية ولا دينية لبني إسرائيل، وإنما كانت تمثل في الحقيقة نقطة حصينة ومركزاً عسكرياً أحاطه بسور، ولم يكن الاتصال بين مدينة داود ومدينة القدس “يبوس” سوى إطار شكلي يمثل اتصال سور قلعة داود بالسور الذي أقامه اليبوسيون حول المدينة قبل عهد داود بوقت طويل، ويؤكد ذلك ما قاله نحميا النبي عندما يشير إلى إعادة بناء السور: “فبنينا السور واتصل كل السور” ولعل ما فعله داود عندما طلب من أرونة اليبوسي بيدره ليبني فيه مذبحاً للرب ليشير بوضوح إلى اعترافه بملكية اليبوسيين في القدس .
وقد ظلت المملكة اليبوسية متماسكة حتى نهاية القرن الثامن عشر ق.م وبداية القرن السابع عشر ق.م حيث تزعزعت مملكتهم إبان ضربات الهكسوس وغزوهم لفلسطين، إلا أنهم ظلوا صامدين في بلدهم ولم يخرجوا منها وظلت القدس تحت حكم اليبوسيين أهلها حتى دخول بني إسرائيل ـ كما أسلفنا ـ أرض فلسطين بعد نزوحهم عن مصر، وقد ظل اليبوسيون في رباط دفاعاً عن المدينة في وجه بني إسرائيل وخاصة سبط بنيامين وبني يهوذا إلى أن تولى الملك داود خلفاً لشاؤل، وقد ظلت حقوق اليبوسيين محفوظة حتى نهاية عهده، وقد حدث تراجع لليبوسيين في المدينة إزاء مشروعات سليمان عليه السلام العمرانية .
وهنا نسمح لأنفسنا أن نقف وقفة المتأمل ونسأل لماذا انهارت هذه الدولة ــــ دولة اليهود إن صح تسميتها دولة ـــــ بهذه السرعة القصيرة في عمر الأمم؟ والإجابة: أن الإسرائيليين كانوا غرباء عن هذه المنطقة، وأنهم كانوا بدو رحل ورعاة حلوا وسط شعوب لها حضاراتها ونظمها، وأنهم جاءوا لا ليسكنوا مع أهل البلاد بأمن وسلام، ولكنهم جاءوا غزاة ليستأصلوا السكان ويحطموا حضارتهم، وأنهم أسسوا دولتهم على حساب أهل البلاد الأصليين، وأخذوا يهددون الممالك المجاورة التي أطبقت عليهم من أجل حفظ السلام في المنطقة، وهكذا نرى أن اليهود قد طُردوا من القدس، وسمح لهم العرب المسلمون فيما بعد بزيارتها والإقامة فيها حتى بعد أن طردتهم قوات الصليبيين منها.
ومن خلال هذا العرض الموجز نجد أن اليهود قد نجحوا في الاستيلاء على أرض يبوس من أهلها، وأقاموا لهم حكماً في فترة ليست طويلة من عمر التاريخ ، إلا انه لسوء إدارتهم السياسية ، وعدم قدرتهم على الخروج من القبلية ، انقسموا وتفرقوا وتقاتلوا وهان عليهم كل شيء حتى معبدهم، الذي كانوا يجردونه مما فيه ليقدموا ذهبه وفضته هدايا أو ليسرقوها ، فكان المصير المحتوم في توجيه الضربات إليهم على يد شيشنق ملك مصر ، وعلى يد نبوخذ نصر ملك بابل ، الذي دمر أورشليم ، وبعد تدمير الرومان لها سنة 70 م لم يعد هناك أثر لمعبد سليمان ، إذ تحققت نبوءة عيسى ـ عليه السلام ـ إذ :” لم يبقى فيها حجر على حجر. “
ومما تقدم يتضح أن حقائق التاريخ تؤكد أن مدينة القدس عربية الأصل في النشأة والتكوين، أما المزاعم التي يرددها الإسرائيليون، والخطط التي راحت إسرائيل تضعها لاستلاب هذه المدينة العربية الإسلامية، ما هي إلا تزييف لحقائق التاريخ، حاولت بها خداع العالم وتضليله.
ثم أين هذه القدس التي يتحدثون عنها؟، إنها أورشليم التاريخية..، التي بحثوا عن أي أثر لها في منطقة القدس، فلم يجدوا سوى آثار لمواقع إسلامية ورومانية، ومع ذلك زادت ادعاءاتهم التي ليس لها من سند إلا القوة العسكرية وظروف الشرعية الدولية العرجاء.
أورشليم هذه التي يتحدث عنها الإسرائيليون، هدمها الرومان، وأزالوها من الوجود، أورشليم تلك اندثرت، ثم جاء المسلمون وفتحوا المدينة، التي لم يأخذوها من اليهود، بل أخذوها من الرومان أعداء اليهود، وقد استمر حكم المسلمين فيها اثني عشر قرناً من الزمان، حكم فيها الشام بما فيه فلسطين والقدس الشريف، ثم إن المسلمين تملكوا أرضها بالطرق الشرعية، وأوقفوا أكثرها على الخير والبر والعبادة، فلم تهدم، ولم تحرق، ولم يُروّع سكانها، ولم يحدث في تاريخ القدس ما يشكك في أصولها العربية، وهويتها الإسلامية.
(المصدر: رسالة بوست)