فقيه مغربي وزاوية أخرى في نقد العلمانية على طريقة المتكلمين
بقلم بلال التليدي
الكتاب: “أصول نقد القول العلماني في المعرفة الدينية”
المؤلف: العلامة مولود السريري
الناشر: مركز يقين
الطبعة: 2019
عدد الصفحات: 672
ليس من عادة الفقهاء والمتكلمين أن يخوضوا في نقد الفكر العلماني والحداثي، فالتراثيون منهم، يكتفون بضبط القول الكلامي بمختلف أصوله وتفريعاته، معرجين على فرقه ونظاره، والمعاصرون منهم أمثال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهم، اقتحموا غمار الفكر العلماني، إما من زاوية نقد الأفكار والمعتقدات أو زاوية نقد الموقف من الدين، أو زاوية الدفاع عن المعتقد الديني وإثبات شمولية الإسلام وكونه يمثل منهاج حياة، وأنه بديل عن المناهج المستوردة، لكن، لم يشغل أحد منهم نفسه بضبط القول العلماني على مقتضى النظر الكلامي، وما يقتضيه ذلك من ضبط أصوله العقدية، وقواعد العامة في النظر، وفروعه ومخرجاته في المعرفة الجزئية.
هذا الكتاب، الذي ألفه الشيخ الفقيه مولود السريري، يجري على غير سنن الفقهاء التقليديين والمعاصرين على السواء، فقد اختار أن يقتحم غمار الاشتباك مع الفكر العلماني كما فعل الفقهاء المعاصرون، لكنه، لم يختر طريقتهم الدفاعية أو السجالية أو منهجهم النقدي ذا الطبيعة الفكرية، كما اختار الالتزام بطريقة الكلاميين في ضبط الأصول وتحريرها، وممارسة الجدل والمناظرة في ضوئها، لكن ليس مع الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية وغيرها من الفرق الكلامية القديمة، وإنما أدخل القول العلماني بأطروحاته المختلفة، إلى مشرحة التحرير والضبط الأصولي، محاولا التماس البراهين والحجج التي أقام عليها القول العلماني أصوله العقدية ثم معارفة العامة الأساسية، ثم فروعه في المعرفة، قبل أن ينتقل إلى ممارسة النقد على هذه الأصول، وذلك بمقتضى النظر الكلامي وقواعده وباحترام أدب المناظرة وأصولها.
والمثير في هذا الكتاب الذي نفدت طبعته الأولى من السوق، أن صاحبه، من الفقهاء المشرفين على أقدم المدارس العتيقة في جنوب المغرب (سوس)، الذين قضوا سنوات عديدة في تدريس طلبة هذه المدارس العلوم الشرعية على الطريقة التقليدية، لكنه في الوقت ذاته، وكما هو واضح في كتابه، استقرأ كتب المفكرين العرب، من العلمانيين، محاولا تحرير أصولهم من خلال النظر في أدبياتهم المختلفة، ومع الإحالة على أوجه الخلاف بينهم، فجعل ضمن المتن العلماني المدروس كتب أركون، وعلي حرب، والعروي، والجابري، وحسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد، وفؤاد زكريا وهاشم صالح وغيرهم، مع ذكر نقول ونصوص كثيرة عنهم، بإحالاتها وذكر مظانها.
نقد القول العلماني في المعرفة الدينية
على أن هذا الكتاب الضخم، الذي يمتد لما يقرب من سبعمائة صفحة هو في الأصل جزء من مشروع نقدي ضخم، وهو مجرد “المقدمة الأولى” في نقد القول العلماني، خصصه مولود السريري لتتبع أصول الفكر العلماني في المعرفة الدينية، محترما في ذلك أصلا إسلاميا في المناظرة والجدل، يعتمد مبدأ القبول بالاستعارة والاقتباس متى ما توفرت شروط الصحة والقبول في القول المقتبس، وأن القاعدة في ذلك أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، غير أنه يقيد هذا الاقتباس بشروط منها، شرط الصلاحية والقبول بالاندراج فيما يقبل مثله في العلوم الإسلامية والعربية، وذلك لا يتحقق إلا بالخلو من معارضة ما يعد من جزئيات ومضامين هذه العلوم الأصيلة أو كلياتها، وأما الشرط الثاني، فهو عدم وجود المقتبس في جزئيات العلوم الإسلامية واللغة العربية، ومضمنه ألا يجوز اقتباس رأي معرفي أو مقالة فكرية أو غير ذلك مما هو مسطور في كتب هذه العلوم ومدروس فيها، وأما الشرط الثالث فهو الإفادة، ومضمونه أن كل ما لا تبنى عليه معرفة وفائدة تتصل بالعمل أو المعتقد الديني الإسلامي لا فائدة في الاشتغال به، وأما الشرط الرابع، فهو تقديم التمهيد البياني الممكن من إدراك القول المعرفي أو المنهجي المقتبس على وجه يوصل إلى الوعي به وإجالة النظر في مأخذه وإلى القدرة على تقويمه، واشترط السريري شرطا خامسا وأخيرا لقبول المقتبس، وهو صياغته صياغة مسائل العلم الذي يندرج فيه هذا المقتبس، فيبنى بناء القواعد في ذلك العلم.
وقد حرر السريري في أول كتابه مقصوده بالقول ىالعلماني، وأنه القول المبني على الذاتية الإنسانية، أو القول بمركزية الذات الإنسانية في الكون وسيادتها، والعقلانية المنفتحة التي لا تؤمن بعقلانية ذات مفهوم محدد وثابت وجوهري، ولا بالمطلقات والثوابت، وتؤمن بدلا عن ذلك بالنسبية والسيرورة الكونية العامة اللانهائية في كل شيء والتاريخية التي تعني أن منبت كل شيء هو الواقع الأرضي ولا شيء من الماضي يبقى. كما يحرر مفهوم الحداثة عند المفكرين، فيرى أنها طرح الدين وإبعاده عن الحياة والقلوب والعقول وقصر كل شيء ـ فكرا كان أو عملا ـ على الدنيا وما فيها، لأن كل ما سوى الدنيا خرافة ينبغي التخلص منه وطرحه، وأن العلمانية والحداثة يلتقيان في شيء واحد هو طرح الدين والتخلص منه في حقيقة الأمر.
يوضح السريري طريقته في نقد القول العلماني، ويضع مقدماته على طريقة الكلاميين والأصوليين، ويرى أن أي قول في المعرفة الدينية، مبدؤه يكون من الأصول، فإذا رست هذه الأصول صير إلى المعارف العالمة المأخوذة منها، ثم صير بعدها إلى فروع تلك المعارف العامة المأخوذة عنها، إلى أن ينتهي الأمر إلى فروع تلك المعارف مما يسمى بالمعارف الجزئية.
ينتهي الكاتب بعد استعراض نصوص العلمانيين، إلى أن كل ما يتصف به العلماء والفقهاء من إدراك معرفي وفكري في المعتقد الديني، فالعلمانيون في عري عنه وتجرد، ويستعرض السريري كما هائلا من نصوص العلمانيين وأقوالهم لاختبار مكنتهم العلمية في العلوم الشرعية، ومدى تحصليهم للملكة العلمية في بعدها التنزيلي والتطبيقي، وينتهي إلى أن بضاعتهم في هذا الباب لا يمكن أن تقاس لبضاعة الفقهاء والعلماء الذين يمارسون عملية النقد والهدم لأصولهم ومنتجاتهم المعرفية.
ويرى السريري أن العلوم الإسلامية بنيت بهذه الطريقة، فكان علم أصول الدين، فتبعه علم أصول الفقه، ثم الفقه حتى انتهى الأمر إلى جزئيات الفروع، مطالبا أرباب القول العلماني، أن يضعوا أولا وقبل كل شيء كتبا خاصة توضح أصولهم في المعتقدات التي يبنون عليها أحكامهم وآراءهم المعرفية، وما وافقوا فيه المسلمين في عقائدهم وأصولهم، وما خالفهم فيه مستندين في ذلك بالبراهين والحجج العقلية القاضية بصحة ما يرونه من ذلك على الطريقة الكلامية الإسلامية، ويجب أن تكون جزئيات القول العقدي العلماني مرتبة مفصلة الأجزاء على وفق ما يقتضيه البناء في المعرفة الإسلامية.
وينتقد السريري على المفكرين العلمانيين العرب إعراضهم عن هذه الطريقة، واتجاههم إلى إنتاج معرفة مبعثرة لا تدرى مآخذها، وإن تم درك مآخذها، لم تدرك صحتها من بطلانها، ولا البراهين التي قضت باعتبارها ولا الكيفية الفكرية والمعرفية التي حصل بها الانتقال مما كان معلوما في ذلك ومضى الناس أجيالا وأجيالا وكانون يرونه حقا.
ويكشف السريري عن العدة المعرفية التي يستند إليها المفكر العلماني فيرى أنها لا تخرج عن ست موارد أساسية، أولها الماركسية، إذ استند إليها لتحديد الموقف من الدين، ثم الوضعية المنطقية التي استند إليها لطرح كل لفظ لا سبيل إلى إدراك ثبوته في الخارج، ثم الفينومينولوجيا، إذ أخذ منها مقولة أن الوعي مطوي على معنى كل لفظ ننطق به، وأن البحث يتعين في ما هو مضمر في الباطن مما يجب كشفه وفحصه، ثم بعض المعارف الغربية في العلوم الإنسانية كالتاريخ والاجتماع والنفس، فضلا عن آراء المستشرقين ومقالاتهم، يضاف إليه بعض الهرطقات الإلحادية التي تستهدف العقائد الدينية كما فصلها القرآن.
النقد الكلامي للقول العلماني
ينطلق السريري من مبدأين اثنين للتأسيس لنقد القول العلماني، أولهما، مبدأ الشرعية، ومقتضاه أن يقوم ما يثبت صحة القول والتصرف العلماني، وثانيهما، مبدأ شرعية الاشتغال، فيقرر أن العلمانيين لا يشتغلون بالمعرفة الإسلامية من منطلق إقامتها وتحصيلها، وإنما ينطلقون من مبدأ نقدها وهدمها، فيرى أن هذه الشرعية لا يتأتى تحصيلها إلا بإثبات شرعية الهدم والإزالة بالاستناد إلى الدليل، ثم إثبات شرعية الاشتغال العلماني وبيان ما يدل على ذلك من ضرورة عقلية أو عادية.
ويستقرئ السريري أدبيات المفكرين العلمانيين، ويحصر شرعية اشتغالهم بنقد المعرفة الدينية (شرعية الهدم)، في أحدى عشر مدخلا، حاول الاستشهاد عليها بنتف متنوعة من نصوص العلمانيين وأقوالهم مع نقدها، أولها الذم والقدح في العلماء المسلمين كلهم من تقدم منهم ومن تأخر، وثانيها، التهجم على المعتقد الديني وعلى مكانة الرسول الكريم لإسقاط عصمته، ونفي صفة تلقي الوحي عنه، وثالثها بناء قولهم على ازدراء كل العلوم الإسلامية ووسم من يبني نظره بها أو فيها بالدعائية وأن المناهج التي بنيت عليها هذه العلوم هي مناهج مبنية على اعتبار النص الديني الإسلامي متعاليا يخرق الزمان والمكان، وأنها تركز على فهم مراد المتكلم، ورابعها لأن التقدم الصناعي والمعرفي مشروط بالتخلص من هذه المناهج التقليدية وما بني عليها من معارف وما بنيت عليه من نصوص كيفما كانت، وخامسها أن هذه المناهج أقامتها السلطة السياسية العباسية أو الأموية على وفق مزاجها وما يحصل لها من مصالحها ورغباتها فكانت بمقتضى ذلك منحرفة وإيديولوجية.
يرى الكتاب أن المفكرين العلمانيين العرب لم يأتوا ببرهان علمي أو دليل معتبر يحققون به إثبات شرعية الهدم، إذ كانت معتقداتهم في ذلك ذاتية إيديولوجية مبنية على الجهل بواقع أحكامهم تلك، وبأحوال أهلها،
وسادسها أن هذه المعارف الإسلامية وما أقيمت عليه من مناهج مبنية على معرفة دينية لاهوتية غير علمية، ومن ذلك مفهوم الوحي والنبوة ومفهوم الألوهية نفسه، وسابعها، أن الصحابة ومن جاء بعدهم أولوا الرسالة الإسلامية على انحراف قصدا منهم تحصيل مصالحهم ومنافعهم الدنيوية، وأن هذه المناهج بنيت على النص القرآني، وهو محرف والوثائق الأصلية له ضائعة، وتاسعها أن الأصول المقام عليها هذا المنهج هي أصول صيغت وبنيت بعقلية تاريخية مخصوصة بزمانها، فالواجب نقدها وإنجاز قطيعة معرفية معها، وعاشرها أن هذه المناهج وقع فيها الانحراف عما كان عليه المسلمون الأوائل في صدر الإسلام، وهو الانفتاح في قراءة النص القرآني والسني بتوسع، والحادي عشر أن الخطاب الذي تبثه العلوم الإسلامية أمر قائم على كسر الحواجز وإزالة الحدود في السلوك والعمل وهو تصرف مستلذ من جهة النفس ما كان ذلك يثمر لها مبتغاها الشرعي.
ينتقد السريري هذه المقولات كلها على مقتضى النظر الكلامي، ويرى أن المفكرين العلمانيين العرب لم يأتوا ببرهان علمي أو دليل معتبر يحققون به إثبات شرعية الهدم، إذ كانت معتقداتهم في ذلك ذاتية إيديولوجية مبنية على الجهل بواقع أحكامهم تلك، وبأحوال أهلها، ويكشف تهافت القول العلماني في هذه المقولات، من ثلاث زوايا، أن بناء صحة المقولات وإثبات الجدوى في الصناعة المعرفية لبناء فهم جديد للدين، لم يتوسل به بالدليل والبرهان لإقامة هذه الشرعية، وإنما تم التوسل بدعاوي فارغة مبنية على وعي زائف، وأنهم قصدوا إثبات تجاوز الدين بتغير الزمان والحال، بما يبررون إسقاطه، ولم يأتوا على هذا المدعى بما يثبته من دليل، كما أنهم لم يأتوا بأي دليل معتبر يثبت أن التقدم الصناعي والاقتصادي والمعرفي يحجز عن دركه التمسك بالدين والالتزام بحدوده.
أما من جهة نقد شرعية الإثبات، فساق السريري أقوال العلمانيين في ذلك، وانتهى إلى أنهم تدور في محورين، أولهما، جملة أقوال قائمة مضامينها على مجرد الرغبة والإرادة النفسية المجردة وبيان النيات والمقاصد العلمانية، وثانيهما، أن بعضهم يحاول بناء خطابه على مقتضى التسليم بالأسس والأصول، لكنهم يصوغون آراءهم وفق عقدية وضعية مادية ويسقطون منهج السبر والتقسيم في مواقع الاحتمالات ومواضع تقابل الظنون، ويتصف خطابه في الغالب بالبتر في مواضع النظر، والإعراض عن الأدلة التاريخية والمعرفية التي تهدم ما يدعونه من تاريخية النص والعقل الإسلامي، فضلا عن اتسام خطابهم بآفة التأويل المحرف به، وكثافة التهم الوهمية التي لو سوغ التمسك بجنسها ما بقي شيء في هذه الدنيا، وتضمن خطابهم لمواد معرفية ومعجم مفاهيمي لم تفحص وتمحص على وجه تثبت به شرعيتها الخاصة والعامة.
الخطاب العلماني قائم على القول النفسي والتكهنات لا على مقتضى البرهان العقلي
وبعد أن ينتهي السريري من نقد العلمانيين من زاوية الشرعية، ينتقل إلى زاوية أخرى، هي زاوية المكنة العلمية، أو الشرعية العلمية للقول في العلوم الإسلامية، فينتهي بعد استعراض نصوص العلمانيين، إلى أن كل ما يتصف به العلماء والفقهاء من إدراك معرفي وفكري في المعتقد الديني، فالعلمانيون في عري عنه وتجرد، ويستعرض السريري كما هائلا من نصوص العلمانيين وأقوالهم لاختبار مكنتهم العلمية في العلوم الشرعية، ومدى تحصليهم للملكة العلمية في بعدها التنزيلي والتطبيقي، وينتهي إلى أن بضاعتهم في هذا الباب لا يمكن أن تقاس لبضاعة الفقهاء والعلماء الذين يمارسون عملية النقد والهدم لأصولهم ومنتجاتهم المعرفية.
ويدخل السرسري في نقاش أصولي وكلامي عميق لإثبات مستند القول العلماني، وهل يستمد إلى صياغة فكرية على مقتضى الطريقة الكلامية في تقرير الأصول وبناء الفروع من مقتضاها، بالاستناد إلى الدليل واشتراطه في إثبات الأصول وأيضا في الانتقال الذي تفرضه العملية الاستدلالية، وينتهي من خلال استقراء كم هائل من نصوص العلمانيين، إلى أنهم يحمون القول النفسي القائم بالذات والتكهنات، ويعطونها أولوية على ما عداها مستندين في ذلك إلى مفهوم التأويل وما طورته النظريات الفلسفية بهذا الخصوص، وكيف انتقل التأويل عندها من فهم مراد التكلم إلى طرح سؤال الكيف، إلى طرح سؤال المضمر في الخطاب، ثم سؤال السلطة وغيرها من الأسئلة التي كانت شكلت المدخل لتوسيع القول النفسي على حساب الصوغ الفكري.
والكتاب في مجمله، مبني بناء كلاميا، تفضي فيه المقدمات للأصول، ويربط كل فصل بالذي قبله، حتى يفضي للذي بعده، مع حضور كثيف لنصوص العلمانيين، بمختلف أطيافهم، وحضور نقاش عقلي يحترم أدب المناظرة والجدل والحجاج، ويتجنب أساليب القدح والطعن في النيات المعروفة عند السلفيين، ويقدم مقاربة أخرى جديدة في التعامل مع القول العلماني، جدير بأن تقرأ علمانيا، بل وجدير أيضا أن تقرأ حتى من جهة المناصرين للمعرفة الدينية، بحكم ما تتضمنه من منهجية عقلية وبرهانية في التعامل مع الخطاب العلماني وتفكيكه ونقده.
(المصدر: عربي21)