مقالاتمقالات المنتدى

فقه القدوم على الله (4) – مقتضيات الإيمان بالله تعالى خالقاً

فقه القدوم على الله (4) – مقتضيات الإيمان بالله تعالى خالقاً

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

إن الله سبحانه وتعالى خالق كل شئ، فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، وما من ذرّة في السماوات وفي الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها، سبحانه لا خالق غيره ولا ربّ سواه. (معارج القبول، الحكمي، 3 / 940)  

ومن الأدلة من القرآن:

1 ـ قال تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ۝ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 95-96]. أي خلقكم وعملكم، فتكون ما مصدرية، وقيل: إنها بمعنى الذي، فيكون المعنى: والله خلقكم وخلق الذي تعملونه بأيديكم وهو الأصنام. (زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزي، 07/70)

وقد ذكر ابن كثير القولين ثم قال: وكلا القولين متلازم والأول أظهر، وقد علل ذلك بما يؤيده من رواية البخاري في أفعال العباد عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يصنع كل صانع وصنعته وتلا بعضهم عند ذلك ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ فأخبر الصناعات وأهلها مخلوقة، فالله ـ تعالى ـ خالق الخلق وأفعالهم كما دلت على ذلك، الآية والحديث.

2 ـ قال تعالى:﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾[الرعد: 16]، وفي آية أخرى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [غافر: 62].

وهذه نصوص واضحة في الدلالة على مرتبة الخلق، وقد جاءت الآية الأولى في معرض إنكار أن يكون للشركاء خلق كخلقه ـ سبحانه وتعالى ـ فنفي ذلك سبحانه آمراً رسوله أن يقرر هذه الحقيقة التي تفصل في الأمر، وتدل على وحدانية الله ـ تعالى ـ وانفراده بالخلق والرزق ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16]، وفي موضع آخر جاءت هذه الآية لبيان قدرة الله ـ تعالى ـ وكماله ودلائل وحدانيته ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ  وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الزمر: 62]” اللَّهُ  خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ” (الزمر : 62) ، أما الآية الثانية فقد جاءت أيضاً لبيان قدرة الله  التامة، حيث جعل لعباده الليل والنهار ثم بين سبحانه أنه خالق كل شئ. (القضاء والقدر، المحمود ص 78)

3 ـ وقال تعالى: ممتناً على الصحابة ـ رضوان الله تعليهم ـ بعد أن أمرهم بالتثبت في خبر الفاسق قال تعالى: “وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ   الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ  وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ  وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ” (الحجرات : 7) . والشاهد قوله: ” وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ  الْكُفْرَ…..” فهو سبحانه هو الذي حسنه بتوفيقه وقربه منكم، وهو الذي جعل ما يضاد الإيمان من الكفر والفسوق والعصيان مكروهاً عندكم وذلك بما أودع في قلوبكم من كراهة الشر وعدم إرادة فعله، فالفاعل في كل ذلك هو الله تعالى. (فتح البيان في مقاصد القرآن صديق خان، 9 / 74)

وهناك آيات كثيرة تدل على أن الله ـ تعالى ـ هو المضل والهادي، والمؤيد لعباده المؤمنين، والهازم لأعدائهم وأنه المضحك والمبكي، والمميت والمحيي، وكل ذلك دليل مرتبة الخلق. (القضاء والقدر، المحمود ص 79)

وقد أورد الحافظ ابن كثير هذا الدعاء في تفسيره آية الحجرات السابقة ” وَاعْلَمُوا أَنَّ  فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ” قال لمّا كان يوم أحد وإنكفأ المشركون قال صلى الله عليه وسلم: “استووا حتى أثنى على ربيِّ” فصاروا خلفه صُفُوفاً: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما بعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم أبسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين، وأحيينا مسلمين وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق. فترى في هذا الحديث الإقرار بأن الله ـ تعالى ـ هو الفاعل لهذه الأمور، وهذا دليل على مرتبة الخلق.

أدلة هذه المرتبة من السنة:

1 ـ عن زيد بن أرقم ـ رضي الله عنه ـ قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

والشاهد قوله:” اللهم آت نفسي تقواها وزكاها..، فالفاعل هو الله ـ تعالى ـ فهو الذي يطلب منه ذلك، ولفظ “خير” ليس للتفضيل، بل لا مزكي للنفس إلا الله، ولهذا قال بعد ذلك أنت وليها ومولاها، فهو سبحانه الملهم للنفس الخير والشر. قال تعالى:” فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” (الشمس: 8) . قال سعيد بن حبير في تفسير هذه الآية ” فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا” أي: فالخلق لله والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء ومخير فيه، وقال ابن زيد في معنى الآية: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها بالفجور.

2 ـ وعن البراء بن عازم ـ رضي الله عنه ـ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب وهو يقول:

والله لولا الله ما اهتدينا                 ولا صمنا ولا صلينا

فأنزلن سكينة علينا                                وثبت الأقدام إن لاقينا

والمشركون قد بَغَوْا علينا                  إذا أرادوا فتنة أبينا

وفي رواية أخرى للبخاري: ولا تصدقنا ولا صلينا، بدل: ولا صمنا ولا صلينا، وبهذه الرواية يستقيم الوزن، قال ابن حجر: وهو المحفوظ. ودليل هذه المرتبة قوله: لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا، فإنها دليل على أن الله هو خالق العباد وأفعالهم ومنها: الهداية، والصدقة، والصلاة. (القضاء والقدر، عبد الرحمن المحمود ص  83)

3 ـ وعن ورّاد مولى المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة: أكتب إليّ ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خلف الصلاة، فأملى عليّ المغيرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول

خلف الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. والشاهد قوله : اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت فالمعطي والمانع هو الله ـ تعالى ـ، فهو الفاعل لهما، وهذا يدل على أن الخالق هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ .وقوله :”ولا ينفع ذا الجد منك الجد” أي: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، أو لا ينجيه حظه منك، بل ينفعه عمله الصالح. (القضاء والقدر، المحمود ص 81)

4 ـ وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ :يا عبد الله ابن قيس، ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة، فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله (فتح الباري، 11/ 500). والشاهد قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، ففيها الاعتراف بأنه لا صانع غير الله، ولا راد لأمره وأن العبد لا يملك من أمره شيئاً، فمعناها: لا حركة ولا أستطاعة ولا حيلة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل معناه لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله، وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بمعونته، وحُكِيَ هذا عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وكله متقارب، والكنز هنا: معناه ثواب مُدَّخر في الجنة عند الله وهو ثواب نفيس.

5 ـ وعن علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ففي الحديث: دلالة على أن الله فطر السموات والأرض أي خلقهن وأبدعهن وأتقن صنعهن وأوجدهن من العدم على غير مثال سابق، فخلقه سبحانه لهذا الكون من أرض وسموات وما

فيهن من رطب ويابس ومخلوقات عجيبة أكبر دليل على هذه المرتبة وأن الله يخلق الخلق بقدرته على ما اقتضاه علمه السابق ومشيئته النافذة. (المباحث العقدية، 2/ 886).

6 ـ قال صلى الله عليه وسلم: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما أستطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، قال: ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة.

والحديث يدل على شيء مما خلق الله تعالى وهو خلق الإنسان وما احتواه هذا المخلوق من أعضاء وأجهزة يعجز الإتيان بمثلها إلا من هو خالق كل شيء سبحانه فالناظر في نفسه ودقة تكوينها وعجيب خلقتها يؤمن بأن الله خالق كل شيء، فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه، العالم به إذ انشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه.

ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: ” الإيمان بالقدر”، للدكتور علي الصلابي، واستفاد المقال كثير من مادته من كتاب: “القضاء والقدر”، لعبد الرحمن محمود.

 

 

———————————————————————-

المراجع:

  • معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، حافظ بن أحمد الحكمي، دار ابن الجوزي، الطبعة الثالثة، 1426.
  • زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج ابن الجوزي.
  • القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس فيه، عبد الرحمن المحمود، دار الوطن، الطبعة الثانية، 1997م.
  • فتح الباري في شرح صحيح البخاري، الحافظ ابن حجر العسقلاني.
  • أركان الإيمان: الإيمان بالقدر، د. علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية، 2011م.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى