بقلم د. سعيد بن سليمان الوائلي
إذا كان المؤمن تطمئن نفسه وتسكن روحه وتستقر حياته بمعاني الذكر ومراتب التذكر، وهذا أينما كان في أماكن وجوده، فما بالكم إن كان وجوده في أطهر بقاع الأرض وأنقى أماكن الحياة وأقدس البطاح وأعظم العرصات، وحيث يؤدي المناسك العظام ويتقرب إلى الله بذكر الخليل في الشعائر الحرام، وفي تلك العرصات الطاهرات والمناسك المباركات.
وإذا كان الحج من بين أركان الإسلام ومبانيه: هو عبادة العمر وختام الأمر، وتمام الإسلام وكمال الدين والبر.. حيث يقول تعالى: (وأتموا الحجّ والعمرة لله)، فلا يجوز للمسلم أن يكون غافلا فيه عن الذكر الذي شرعه المولى عز وجلّ فيه؛ وإننا لنجد تكرر الأمر بالذكر في آيات الحج بصورة لافتة لنظر المتأملين والمتدبرين.
فبصورة عامة وصفة إجمالية: تأدية مناسك الحج من أولها إلى آخرها، من التلبية بأحد أنواع النسك إلى طواف الوداع، قالب من قوالب الذكر لله تعالى، لأنها عبادة تؤدى بما فيها من أفعال وأقوال، فتأدية مناسك الحج قائمة على الذكر ومن أجل الذكر.. وقد قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) وفي سورة الحج يقول سبحانه: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
هذا بصفة عامة، وأما تفصيلا: فالمداومة على الذكر باستصحاب المناسك وما تدعو إليه من أنواع الذكر بالقول والفعل، فالتلبية ذكر وتدعو إلى مداومة الذكر، والوقوف عند معناها والتأمل في دلالتها تربط الملبي بمعاني الإيمان بالله، وهو يقول: (لبيك اللهم لبيك…)، والإكثار من التلبية باعتبارها أفضل الحج ومن أعظم أركانه، نوع من أنواع المداومة للذكر في مشاعر الحج، فأفضل الحج العج والثج. ثم الطواف بالبيت وما يشتمل عليه من الذكر والسعي بين الصفا والمروة وما فيه من تلفظ بأنواع الدعاء والذكر، كل ذلك يدعو إلى المداومة على الذكر بصورة واضحة. وفي أول أيام منى وبعد الإهلال بالحج واقتداء الناس بسنة نبيهم وإمامهم في تأدية الصلوات الخمس بها إقامة للذكر كما ينبغي. ثم في حج عرفة والتزام بذكر الدعاء وما يصاحبه من ضراعة إلى الله وحسن ثناء له ذكر دائم في ساعات قليلة من ساعات الحج. ويأتي النص الصريح بالأمر بالذكر بعد الإفاضة من عرفات بقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ثم يأتي النص القرآني بعد ذلك يدعو إلى مداومة الذكر بصورة فريدة، لنا أن نطيل التفكر فيه، حيث يقول تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ، وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ). ثم في أيام منى من عاشر ذي الحجة إلى تمام الأيام المعدودات جعلت أيام ذكر لا بد أن يداوم الحاج فيها على ذكر الله، ممتثلا لتوجيه ربه إليه حيث قال: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
ومن الذكر والمداومة فيه في موسم الحج: تعظيم حرمات الله وشعائره، وقد نبهت الآيات الكريمة على ذلك في قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ) وقوله: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)..
ومن آيات الحج التي تشير إلى مداومة الذكر لله تعالى، ما نجده في هذا النص من القرآن حيث يقول عز وجل: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ، الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ، وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
ثمّ إنّ عبادة الحج التي تعين على مداومة الذكر، لا بدّ من فهم مقاصدها وإدراك معانيها؛ لتنعكس في الناس أنوار الروحانية منها، وقد أنعم الله عزّ وجلّ على هذه الأمّة بأن جعل الحجّ من شعائر دينهم، فشرف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه تعالى، ونصبه مقصدا لعباده، وجعل ما حواليه حرما لبيته تفخيما لأمره، وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، وجعله مقصدا للزوار من كلّ فجّ عميق ومن كلّ أوب سحيق، متواضعين لرب البيت ومستكينين له، خضوعا لجلاله واستكانة لعزه.. مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكتنفه بلد؛ ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم، وأتمّ في إذعانهم وانقيادهم، ومعينا لهم على حسن الذكر والمداومة عليه. وقد شرع لمريد الحجّ: التنزه عن الشهوات والكفّ عن اللذات والاقتصار على الضرورات في تلك الرحلة الربانية، بالإضافة للتجرد لله سبحانه وتعالى في جميع الحركات والسكنات أثناء أدائها.
إن إشعاعات نور الروحانية في هذه العبادة لتنطلق في المقام الأول من إدراك مكانتها وتعظيم شعائرها، وانظروا إن شئتم على ذلك دليلا إلى قول الحقّ تبارك وتعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).. حيث تبدأ روحانية المؤمن في تعلقه بربه من إيمان قلبه والتزام تقواه.. فتسبح روحه في معاني العبودية لله وهو يتقرب إليه بأداء المناسك.. تلك المناسك التي لا حظّ للنفس الإنسانية فيها ولا مطمع للشهوة الدنية فيها.. بل ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، إلا تحقيق معاني العبودية في أعلى معانيها وأبلغ مقصـدٍ لها.. والذكر من تهليل وتكبير وتحميد وتسبيح وثناء وتمجيد حاضر في وجود اللفظ وحاضر في مقام المعنى عند الذاكرين والمداومين على الذكر من الرجال والنساء.
إنّ في هذه الرحلة الروحية لا بـدّ من عزم صادق في ابتغاء مرضات الله تعالى وحده.. فلا يعلق المسلم همّـه في تلك الرحلة الربانية بالأغراض الزائلة والمنافع الدنيوية، فثمـة أناس يخرجون إلى الديار المقدسة بنوايا قاصرة وأهداف هزيلة: منهم من يريد النزهة والتمتع، ومنهم من كان قصده التجارة والتبضع، ومنهم من جعله رياء وسمعة ليفتخر، ومنهم دون ذلك.. فكيف يفارق الإنسان الأهل والأوطان، ويهجر الشهوات واللذات، متوجها إلى زيارة بيت الله الحرام بهذه النية التي لا تبلغه أي منال. مع أنه عزم على أمرٍ رفيعٍ شأنه، خطيرٍ أمره، عظيمٍ أجره، فليكن قاصد الحجّ مخلصا فيه العمل، صادقا فيه العزم بعيدا عن الخلل.. مفتاح ذلك إلى روح العمل حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».. و«نية المؤمن خير من عمله». ومما يزيد الأمر روحانية إيمانية ما يستشعره المؤمن من نفحات ربانية، تجعل حياته متفاعلة مع مشاعر وذكريات، مستوحية للعبر والعظات، حيث يرتبط القلب بالذكريات الإسلامية والمواقف العظيمة لأنبياء الله ورسله في عمارة البيت الحرام، من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، قال تعالى: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) إلى الذكريات التي تربطنا بسيرة خاتم الأنبياء والمرسلين وصحابته الكرام ومواقفهم من أجل تبليغ الدعوة الإسلامية، وتضحياتهم بكل ما يملكون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد.. مواجهين تحديات الدنيا ومصاعبها ابتغاء رضوان الله تعالى.
وموسم الحجّ مع ذلك كله، مشهد روحي.. يجسد للمتأمل صور الحياة الإيمانية في معاني الإخاء وحسن التعامل، وتذكير المسلم بالدار الآخرة وقيمتها، ومعاني الزهد في الحياة الدنيا، والتزود بزاد التقوى على اعتباره خير زاد للمتزودين.. كلّ ذلك فيما يفعله الإنسان في تلك الرحلة: من انقطاعه عن بلده، إلى لباسه للباس الإحرام، إلى تأدية المناسك العظام منسكا تلو آخر، كلّ هذا مصحوبا بمعاني التذكر، بالإضافة إلى توجه القلب إلى آي الذكر الحكيم النازلة في موضوع الحجّ بالتدبر.
إنّ ما في موسم الحج من المعاني العظيمة فوق إدراك التصور، بل هو موسم للخير والنفحات لجميع الذاكرين لله تعالى، حيث يأمروا جميعا بأن يتعرضوا لنفحات الله وهباته الجسيمة.. فكانت الدعوة من نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم للإكثار في زمن الحج من الأعمال الصالحة تقربا لله تعالى، وامتثالا لأمره في الإكثار من ذكره، ففي الحديث عن بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر». يعني عشر ذي الحجة. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله. قال:«ولا الجهاد في سبيل الله.. إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء». إذن، نجد الذكر ماثلا في كل مناسك الحج وأفعاله، والمداومة على الذكر تتحقق لمن توجه إلى ربه في تأديته لمناسكه، بما يدعوه إلى أن يديم الذكر في مستقبل حياته، ويبعده عن الغفلة بكل صورها ومعانيها. وفي كل ذلك الله الموفق والمعين لحسن العبادة والذكر والشكر.
(المصدر: الملتقى الفقهي)