فضل التوقيت الهجري وخواطر الميلاد والأعياد
بقلم إبراهيم بن عبدالله الأزرق
لعل كثيراً من الناس يجهل أن التقويم الهجريَّ سابقٌ التقويمَ الميلادي! وذلك أنَّ التأريخ الإسلامي بالهجرة لم يتأخر عن زمان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بالاتفاق، بل قيل قبله، وكانت وفاته رضي الله عنه آخر سنة 23 هجرية، وتوافقها سنة 644 بالتأريخ الميلادي، وقد وضع التأريخ قبلها بنحو سبع سنين كما ذكر بعض المؤرخين، بينما وُضع التأريخ الميلادي نحو عام 980 هجرية، وذلك أثناء ولاية غريغوريوس الثالث عشر، وكانت ولايته في المدة ما بين 1572 و1585م.
ويقال إنه وضعه باقتراح من الطبيب ألويسيوس المتوفى عام 1576م، فعلى هذا يكون وضعه في الفترة ما بين 1572 و1576م الموافقة 979-983 هجرية، ليأتي متأخراً عن التأريخ الهجري بألفِ عامٍ إلا قليلاً! وعن ميلاد المسيح بستة عشر قرناً! وعن ابتداع احتفالهم بميلاد المسيح نحواً من اثني عشر قرناً، فقد أحدثوا هذا الاحتفال في القرن الرابع الميلادي، وكان ذلك موافقاً لاحتفال الرومان الوثنيين بعيد الشمس، وليس في كتبهم حرف واحد جاء به المسيح يشهد لتأريخهم ولاحتفالهم بالميلاد!
ومن الملاحظ في هذا الصدد أن التقاويم من وضع الناس، ولم تأت بها الأنبياء عليهم السلام، فالأديان ليست مفتقرة إليها، والشرائع الربانية لا تعلق على عامٍ بعينه عملاً أو تجعل له فضلاً، وإنما جاءت الرسل – عليهم السلام – بشرائع يومية، وأسبوعية، وشهرية، وسنوية، لكنها علقت الشرائع الشهرية بالأشهر القمرية فكان هذا داعياً إلى اعتماد تقويم قمري عند أتباعهم، فكان من سنة الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه التي جرت في الأمة بعده التأريخ القمري بالهجرة ولذلك مزايا تأتي الإشارة إليها، والذي يظهر أن الاعتداد بالتقويم القمري هو جادة أتباع الأنبياء جميعاً أول الأمر، وقد انتزع ذلك بعض مشايخنا من قوله تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ } [التوبة: 36]، قال: «ظاهر الآية أن أحكام الشرائع الإلهية منوطة بالأشهر القمرية، وأن تحريم الأشهر الحرم ثابت في جميع الشرائع».
وحاجة الناس إلى التقاويم أو التأريخ حاجة طبَعَيَّة لتنظيم أمورهم وإدارة شؤونهم، وقد هيأ الله تعالى في الكون ما يسدها، فسخّر سبحانه الشمس والقمر – جرمان محسوسان مُبْصَران – وجعلهما سبيلاً لمعرفة السنين والحساب، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ} [يونس: ٥]، وملاحظتهما غير مفتقرة إلى تنبيه رسول كريم، ولهذا وُضعت التقاويم قبل الأنبياء كما وضعت بعدَهم.
بخلاف أيام الأسبوع فليس لها علامة ظاهرة تُجْعَلُ سبباً لعود الأيام بعد سابعها، فما الذي يمنع أن يكون بدل الأسبوع عاشور أو تاسوع أو غير ذلك ثم تعود الأيام أو لا تعود! ولهذا قرر المحققون أنَّ المعرفة بالأسبوع إنما جاءت من قبل الأنبياء، كما قال ابن تيمية: «لا يعرف الأسبوع إلا من جهة أهلِ الكتب الإلهية، بخلاف اليوم فإنه معلوم بالحس، وكذلك الشهر والسنة يعلم بالحس، وسير القمر فيعلم بالحس والحساب، وأما الأسبوع فليس له سبب حسي، وكذلك لا يوجد لأيام الأسبوع ذكر عند الأمم الذين لا كتاب لهم، ولا أخذوا عن أهل الكتب كالترك الباقين في بواديهم، في لغتهم اسم اليوم والشهر والسنة دون أيام الأسبوع، بخلاف الفرس ونحوهم ممن أخذ عن المرسلين فإن في لغتهم أيام الأسبوع»، وعلماء الأنثروبولوجيا يؤكدون هذا المعنى؛ فقد سجلت ملاحظاتهم وجود تقسيمات أخرى غير الأسبوع في الأمم القديمة المختلفة، يتراوح التقسيم فيها ما بين 3 و8 أيام، ولاحظوا أيضاً أن الشعوب الهندوأوربية لم يكن في لغاتها القديمة ما يشير إلى الأسبوع، كما ذكر شيخ الإسلام عن بادية الترك.
أما الأنبياء فقد أرشدهم الوحي إلى هذا التقسيم، وأخبروا أن خلق السموات والأرض استقر في ستة أيام، وفي يوم الجمعة خلق الله عز وجل آدم عليه السلام في جملة ما دبَّر من الأمر الذي شاءه كما قال سبحانه: {إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: ٣]، ثم ترتب على جَعْلِ الأيام سبعة أمورٌ، فخُص السبت عند اليهود لاعتقاد، وخص الأحد عند النصارى لاعتقاد، وخصت الجمعة عند المسلمين لما جاءت به النصوص الصحيحة من تفضيله ومزاياه التي ما كانت لتعرف إلا من طريق الوحي، كقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها».
وبعد أن استتم أمر الكون وتدبيره كان كل يوم فيه من الخلق والأمر ما خُص به، وعاد كرُّ الصباح والمساء على أوقات ذلك أبداً، ثم جاءت الشرائع الإلهية فرتبت على ما هو ظاهر معروف للناس من حركة الشمس والقمر العبادات اليومية والأسبوعية والشهرية، فرتُبت على منازل الشمس في شريعتنا أوقات الفرائض الخمس، وعلى منازل القمر بدء مواسم شتى وختامها كشهر الصيام في رمضان، وكأشهر الحج، وكالأشهر الحرم، وكان هذا مناسباً للناس يعقلونه ويحكمون الحساب به، فملاحظة طلوع الشمس وغروبها ومواضعها في السماء متصلة مستمرة طوال اليوم يعرفها عامة الناس فناسب أن ترتب عليها العبادات اليومية؛ كأوقات الصلوات الخمس، وأوقات الإفطار والإمساك، ووقت الرمي والنفر وهلم جراً. وأما القمر فيظهر سلطانه بالليل، وقت الهجْعَة والسكون، ويتكرر مطلعه قريباً من مغرب الشمس مرةً بعد كل أربعة أسابيع، فكان أنسب في ملاحظة مرور الشهر إذ هو علامة محسوسة بالأبصار، وكان اصطلاح الشهر على تلك المدة أجدر من اصطلاح أصحاب التقويم الشمسي؛ إذ الشهر القمري مبني على أمر ملاحظٍ محسوس، أما الشهر الشمسي فمحض تحكم واصطلاح قد يدخله التعديل! ولهذا تختلف الأشهر الشمسية في طولها وعددها بحسب واضعي التقويم، أما الأشهر القمرية فإنما تختلف – باختلاف التقاويم – مسمياتُها لا حقيقتها، ومرور كل اثني عشر هلالاً ينتج عنه عام، وهذا مناسب أيضاً لكون هذه المدة تتكرر بعدها الأربعة الفصول أو ظواهر الطقس.
والتقويم الميلادي الشمسي وإن كان جارياً على ذلك فكل اثني عشر شهراً تُنتج عاماً إلا أنه بُني على أمر غير محسوس لعامة الناس، إذ لا يشعر من على الأرض بحركتها، وإنما يجد الناس بعض أثر ذلك، وحتى هذا يختلف من موضع إلى موضع آخر على سطح الأرض، فالأحوال الجوية تتباين بين من كان في شمال البسيطة ومن كان في جنوبها، والتغير فيها يحدث شيئاً فشيئاً بحيث لا يمكن معه تمييز يوم وجعله علامة لدخول شهر أو خروجه إلا من طريق الاصطلاح المحض.
ومن مزايا ترتيب الشرائع والأحكام على التقويم القمري أيضاً إيقاع الشرائع في كافة أجزاء وقتها، ولهذا فائدتان: عمارة أجزاء الوقت – خلال العام – بالفريضة، وتمام الابتلاء بفرض الطاعة في أوقات متفاوتةٌ مشقتُها على الناس، فيحصل تعبد الناس بالصوم مثلاً شتاء وصيفاً، في منشط ومكره، وهذا معنى ملاحظ كذلك في تعليق الشريعةِ العباداتِ اليوميةَ على ملاحظة الشمس؛ ففي فرض الصلاة تجد صلاة الفجر مثلاً يتنقل أول وقتها من أول العام إلى آخره نحو ساعة ونصف، بسبب تدرج مطلع الشمس، فيكون وقت دخولها الأقصى في مكة على سبيل المثال (5:41)، والأدنى (4:11)، وهذه المدة قريبة من المدة التي تباح بعدها النافلة عَقِبَ الفجر، فشروق الشمس الأقصى والأدنى في مكة ما بين (7:00) و(5:37)، وبذلك تَعْمُر الفريضةُ كلَّ هذه الأوقات خلال عام، مع ما في التقديم والتأخير من تنوع في شدة الابتلاء! وهكذا سائر الصلوات المفروضة.
والغرض مما تقدم بيان مناسبة ترتيب الرسل العبادات اليومية على ملاحظة الشمس، ومواسم العبادة على التقويم القمري، وسائر أمور الناس الموسمية أقرب إلى الضبط بذلك، فهذا أجدر من التحكم بأشهر اصطلاحية ليس لأوائلها أو أواخرها دلائل يدركها الناس في هذا الكون بمشاعرهم. ولهذا درجت أمم وثنية غير دينية على اعتماد التقاويم القمرية قديماً كأمم الصين وما جاورها، لكن لمّا طغى أمر الغرب المادي الذي ورث الحضارة الرومانية فرض تقويمهم على كثير من الأمم في تعاملاتهم الاقتصادية وغيرها، كما فرض كثيراً من ثقافتهم الدونية!
ولعل التقاويم الشمسية عُرفت أول ما عرفت من قبل أمم المشركين الذين عظموا الشمس والكواكب كالآشوريين والآكاديين والفراعنة والإغريق والرومان، والناس عندهم تنازع في من ابتدأ التقويم الشمسي ويَجمع كُلَّ من ادُّعِي لهم ذلك تعظيمُ الشمس، ولهذا ترجع الأيام التي تجعل أعياداً عند هؤلاء إلى الشمس ولا بد، أما الأعياد في التقاويم القمرية فلا تعلق لها بالشمس بل تتنوع مواسمها صيفاً وشتاء.
وقد كان أصحاب الديانات قديماً يسعون إذا تغلبت عليهم أمم الكفر وأجرت عليهم تأريخها أن يعادلوا ذلك بما يلائم شرائعهم القمرية والأسبوعية، فلا غرو أن كان اليهود من أوائل من أثر عنهم ذلك. وذلك أن تأريخهم العبري الذي يؤرخ به كيانهم اليوم يزعمون أن معتمدهم فيه بدء جريان الزمان أول الخلق، وهو تأريخ محدث بعد وفاة موسى عليه السلام بقريب من ألف عام! فلم يعهد لهم موسى ولا أحد من أنبياء بني إسرائيل على كثرتهم به، ولا هم أحدثوه لميلاد أحد منهم، بل أحدثوه لضبط بعض مناسباتهم الدينية معادلة للسنة الشمسية بالقمرية – وعلى غرارهم أحدث الإيرانيون تقويمهم المعاصر – وإلا فقد درج اليهود أول أمرهم على اعتماد تأريخ اليونان وهو سابق لوضع تأريخهم بأكثر من ستمائة عام، وأول من وضعه الإسكندر بن فيلبس المقدوني – ليس هو الأكبر – ثم استمد منه سلوقس الأول التأريخ السلوقي، الذي ألغى العمل به في دواوين الدولة وأمورها القائد الروماني بومبيوس بن جاليونوس، لكن بقي استخدامه في أمم اليهود والنصارى حتى عهود متأخرة ولهذا يقول ابن تيمية عن أرسطو: «إنه كان في زمن الإسكندر بن فيلبس الذي تؤرخ به النصارى اليوم»، يريد في زمانه؛ أي القرن الرابع عشر الميلادي، وقال في موضع آخر: «كان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وهو وزير الإسكندر بن فيلبس اليوناني المقدوني الذي تؤرخ له التاريخ الرومي [كل] من اليهود والنصارى، وهذا كان مشركاً يعبد هو وقومه الأصنام، ولم يكن يُسمى ذا القرنين، ولا هو ذو القرنين المذكور في القرآن، ولا وصل هذا المقدوني إلى أرض الترك، ولا بنى السد، وإنما وصل إلى بلاد الفرس»، ونص على تأريخ اليهود والنصارى به في غير موضع. والذي يظهر أن أخذ النصارى قديماً بالتقويم اليولياني الذي وضعه يوليوس قيصر جاء بعد ذلك، وكان منحصراً في الكنائس اليونانية ونحوها من البلاد الغربية، وقليل من الشرقية التي امتد إليها نفوذ الرومان، ثم ألغي بالتأريخ الميلادي وهو الغريغوري، أما المشرقيون فكان عامتهم على التقويم الذي ذكره الشيخ، والتقويم القبطي – الذي دافع به الأقباط التقويم اليولياني – يسمى بالتقويم السكندري ولا يبعد تعلقه بالإسكندر، فالبطالسة تسلسلوا في الحكم بعده وإليهم يُعزى التقويم القبطي.
ومن الملاحظات المهمة هنا أن التاريخ اليهودي لم يكن يحفل بسنة مولد نبي الله موسى عليه السلام، ولا غيره من أنبياء بني إسرائيل على كثرتهم، وقد أحدث اليهود ثلاثة عشر عيداً غير الأعياد المعاصرة ليس فيها عيد واحد احتفالاً بميلاد نبي! وشريعة اليهود شريعة للنصارى وعلى طريقتهم درجوا، فما احتفل النصارى بالميلاد إلا بعد أربعة قرون من ميلاد المسيح عليه السلام وكانوا يوقتونه بالتاريخ اليوناني القديم، وكان ذلك عند كثير من الناس موضع تهمة وجدل لكونه يوافق عيد الشمس عند اليونان الوثنيين، فالمحدثون لعيد الميلاد إما مشاركون لهم، أو مضاهئون متشبهون بهم.
وكذلك لم يرَ المسلمون لأنفسهم أن يؤرخوا لبدء العام بموالد الأنبياء، ولما وضعوا التأريخ الهجري جعلوه متعلقاً بالهجرة، لا بيوم ولادة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد بقي النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة بين أظهر المسلمين نيفاً وعشرين سنة ما كانوا يؤرخون فيها بيوم مولده صلى الله عليه وسلم بل بمشتهر الأحداث.
وأزعمُ أن كلاً من التقويمين الهجري والميلادي غير مناسبين للاحتفال بأعياد الميلاد، وذلك أن يوم الميلاد لا يتكرر بعد سنة هجرية أو شمسية في العادة، بل قد يتكرر بعد أربع سنين أو خمس أو ست أو إحدى عشرة كما في التقويم الميلادي وبترتيب آخر في الهجري، فإذا فرضنا أن 1/1 من عام (7) بالتاريخ الميلادي هو يوم السبت، فإن 1/1/8 هو يوم الأحد، بينما 1/1/9 هو يوم الثلاثاء! فاحتفال الذي ولد يوم السبت بعد عام من ولادته لا يوقع احتفاله في يوم ولادته الذي هو السبت، وسواء في ذلك التاريخ الميلادي أو الهجري، وهذا لا يلزم فقط من يؤمن من أهل الأديان بأن أيام الأسبوع التي تدور إنما هي سبعة، بل يلزم كذلك من رضي بهذا اصطلاحاً من الملحدين، ولن يتفق لملحد أن يضع اصطلاحاً لسنة إذا دار حولها وافقت يوم ميلاد أحدهم إلا إن أقر الأسبوع وبنى عليه تقويماً جديداً يراعي فيه ختم العام وأيامه بما بدأ به!
ولهذا أعني عدم صلاحية التقويم لإحداث عيد سنوي يحتفل فيه بيوم معين، لهذا لما أراد صلى الله عليه وسلم أن يخص يوم مولده وبعثته بشيء خصّ يوم الإثنين بالصوم شكراناً، وشرع لأمته كذلك الصوم على المنة بمبعثه، وأشار إلى أن علة صومه مركبة من مولده وبعثته في ذلك اليوم، كما في حديث مسلم: «وسئل عن صوم الإثنين؟ قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه»، ومن الملاحظ هنا أن المنة بالبعثة أظهر تعلقاً بمشروعية صوم الأمة يوم الإثنين، وإن كانت المنة بمولده وبعثته صلى الله عليه وسلم حاصلة على الأمة، لكن ما نال الأمة ألصق بالبعثة، ولهذا امتن الله تعالى عليها بذلك فقال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، والتنويه ببعثته كثير في القرآن، وليس كذلك مولده عليه الصلاة والسلام.
وأما التقويم الشمسي فإنما يناسبه الاحتفال بأعيادٍ للشمس، تعظم فيها بعض مواقعها، وأما المحتفل بعيد ميلاده بالتأريخ الشمسي فلا يحتفل في يوم ولادته غالباً! وإنما يحتفل وقت بلوغ الشمس موضعاً في يوم لا يوافق يوم ولادته! وأما الهجري فلا يناسب ذلك أيضاً، لكن لا يترتب على توقيت العيد به رعاية لموضع القمر، وذلك لإغفال ذلك الموضع مرات كثيرة قبلها، فمواضع القمر تتكرر خلال السنة مرات، ولا يحتفل بها في كل مرة، على ما بين منازل القمر من التفاوت بحسب مطلعه على ما هو معروف عند أهل الخبرة. ولهذا كان الأبعد عن تعظيم النيرين ضبط المناسبات السنوية بالتقويم القمري، ولهذا أزعم أن شريعة عاشوراء مثلاً أخلص في الشكر على إنجاء موسى عليه السلام وقومِه، حتى قال من قال من أهل العلم: إن يوم عاشوراء المأمور بصومه هو التاسع كما بوب أبو داود في سننه: «ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع»! وأياً ما كان فصيام عاشوراء لا يحتمل تعظيم موضع شمس أو قمر، بل لا يتعلق بمعين من أيام الأسبوع. وكذلك عيدا الفطر والأضحى تلحظ في توقيتهما الاحتفاء بالمناسبة والعبادة، دون تعيين أيام، بل تارة يكون العيد يوم سبت وتارة جمعة إلى غير ذلك من أيام الأسبوع.
أما الاحتفال بأيام في السنة الشمسية كرأس السنة فهو من جنس الاحتفاء بالشمس ومواضعها، وإن قُدِّر غير مرتبط بميلاد المسيح عليه السلام، ولهذا عظم الرومان نحو هذا التأريخ، لانقلاب الشمس بعده وعودها لتوهجها رويداً رويداً، كما عظَّمت هذا اليومَ أممٌ وثنية أخرى كالصينيين الذين أحدثوا له مهرجان دونغزي، وكان اليابانيون من قبل يحتفلون قريباً من هذا الموعد ببزوغ إله الشمس أماتير أسو، وهذا جارٍ على خلاف توقيت شريعتنا العبادات اليومية بمنازل الشمس فالمتأمل لها يجد ذلك في أوقات ضعفها التي لا تناسب تعظيمها، ولم يكن المشركون يعظمونها فيها، فصلاة الفجر مثلاً يبدأ وقتها قبل طلوع الشمس، ثم ينهى عن الصلاة وقت بزوغها الذي يعظم المشركون فيه أمرها، ثم إذا توهجت وانتصفت في السماء وقوي سلطانها دخل وقت نهي آخر إلى أن تسقط من كبدها فتزول، ثم إذا توردت قبل الغروب نهي عن الصلاة حتى يحتجب قرصها.
وأياً ما كان فيبقى الاحتفال برأس السنة أياً كان التقويم احتفالاً بيوم اصطلح عليه الأوائل لا مزية له، فنهاية العام أو بداية العام اصطلاحية تختلف فيها الحضارات، فنهاية العام في التقويم اليولياني ليست هي نهاية العام عند اليهود، ليست هي نهاية العام عند القبط، ليست هي نهاية العام عند أصحاب التقويم السكندري أو الصيني وهكذا، ليست هي بنهاية العام في التقويم الإسلامي! ليست هي نهاية العام بالنسبة لمن ولد في غير أول التقويم نفسه! وكلها ما عدا الأخيرة اصطلاحية كان من الممكن أن يصطلح الناس مثلاً على أن أول الأعوام في التقويم الهجري عام غزوة بدر مثلاً، أو أول الأشهر شهر ربيع الأول، كما ذهب إليه بعضهم، واستدل له بقوله تعالى: {لَّـمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108]، لكن مضى في الناس اصطلاح آخر لمعاني رأتها الجماهير – من نحو مناسبة اختتام العام بآخر أركان الإسلام – وإذا تقرر أنه اصطلاح فهذا كما لو اصطلح قوم على اعتبار بداية مضمار السباق من هذا الموقع، أو بداية السباق في الوقت المحدد، وخالفهم آخرون فلا تترتب على ذلك مزية شرعية للوقت ولا للمكان فلا يخص بعمل شرعي، وإن كانت له مزية عادية قد يخص لأجلها بأمر اعتيادي، ما لم يتضمن محظوراً شرعياً من نحو مشابهة من أُمرنا بمخالفتهم. والله أعلم وأحكم.
(المصدر: مجلة البيان)